أ. د. محمد مرعي مرعي - خاص ترك برس
لعل أفضل تحليل علمي وتطبيقي في إدارة المنظمات والذي ينطبق على إدارة الدول ما قدّمه عالم اجتماع التنظيم الفرنسي "ميشيل كروزييه" الذي يدير "معهد الدراسات السياسية" في باريس وفروعه وتتوزّع شبكته البحثية على كافة الجامعات الفرنسية الكبرى، ويتفاخر الفرنسيون بـ"كروزييه" باعتباره عالم التنظيم الأول في العالم ومؤلفاته العلمية وأبحاثه منتشرة ومترجمة إلى كافة اللغات الكبرى، ويعدّونه المنافس لعالم الإدارة الأمريكي الذائع الصيت " بيتر دروكر".
نشر كروزييه منذ ستينيات القرن الماضي كتبا وأبحاث رائعة مثل "ظاهرة البيروقراطية"، وفي السبعينيات "التحليل الاستراتيجي للتنظيمات" و"لا يمكن تغيير المجتمع بقرار"، وكتاب "الفاعل والنظام"، وما زالت أعماله العلمية الرائدة تتضمن حصيلة معرفية فائقة الأهمية. تتلخص نظرية كروزييه في التحليل الاستراتيجي لقيادة المؤسسات والدول باتباع ستة أسس هي:
1- ليست هناك محددات مطلقة للمواقف: يتم تحديد مسبق للمواقف، لكن العنصر العامل لا يتمتّع بحرية مطلقة، ويكون النسق التنظيمي قابلًا للتأثير والتحويل، ولا تتخذ العلاقة بين التابع والمتبوع صورة الانصياع المطلق والامتثال، وبرغم كل وسائل المراقبة التي يخضع لها فيعمل الأخير على إيجاد وخلق علاقات واتصالات مع الآخرين والمشاركة في تشكيل أو حل تكتّلات وتحمّل التوترات النفسية التي تنشأ عن الصراعات. يملك كل طرف أوراقًا رابحة (مؤهلات نجاح)، ولا تملك أي جهة سلطة مطلقة.
2- السلوك البشري (عارض) لا حتمي: يرتبط السلوك في الوقت نفسه بمحدّدات الموقف والإمكانيات التي يحتوي عليها من جهة ولكنه حر من جهة أخرى، وتأتي الحرية من كون أي طرف لا يخضع للمحيط بصفة آلية ولا لعواطفه كذلك، بل من كونه عنصرا مفكرا، يحسب ويبتكر وله قدرة على التأقلم والتأثير ويستعمل كل هذه الطاقات حسب الظروف وحسب تحركات الطرف المقابل.
3- سلوك الفاعلين يخضع إلى استراتيجية: لا يعني كروزييه بمفهوم الاستراتيجية وجود أهداف وغايات واضحة ومتكاملة لكل عمل يقوم به الفاعل فقط، بل أن مفهوم "الاستراتيجية" لديه يشير إلى أن السلوك يحتوي على منطق معين له علاقة بالموقف وسلوك الفاعلين الآخرين.
4- السلطة غير مخصصّة حصريا لجهة واحدة: هي الإمكانية التي يتمتّع بها البعض للتأثير على غيرهم، وهي لمن له قدرة أكثر من غيره على استغلال إمكانيات الموقف، مع العلم أن كل فاعل له نسبيًا إمكانيات من هذا القبيل.
فتتمثل السلطة في مجال الحرية التي تملكها الأطراف المرتبطة بعلاقة تبعية وبمدى إمكانية رفض ما يطلبه الآخر منها، وأن القوة والثروة والهيبة والنفوذ أو كل ما يملكه البعض لا تتدخّل في السلوك السلطوي إلا إذا سمحت لصاحبها بحرية أكبر في الفعل.
5- مناطق الارتياب أو "المجالات الحرة" في علاقات الدول/ التنظيمات: لا يمكن أن تحدّد أي دولة/ تنظيم مهما تعقّد بناؤها كل التصرفات، بل تترك مجالات للارتياب "الهوامش" فيما سيكون عليه السلوك، وهذه بمثابة مناطق ارتياب أو مجالات حرة نسبيًا يمكن للفاعلين المختلفين أن يستغلونها لصالحهم كمصدر لفرض السلطة، ولجعل تصرفاتهم غير قابلة للتوقّع من طرف الآخرين، وكلما كان السلوك غير قابلًا للتوقع كلما أفسح المجال لحرية صاحبه وزاد في سلطته على الآخرين.
6- الفعل المباشر: يقوم الفاعل/ الفاعلون بفعل مباشر مستثمرين مناطق الارتياب "المجالات الحرة" لدى الغير حين امتلاكهم كفاءات وقدرات أو علاقات مع المحيط، أو امتلاك صفة مفضّلة في المواقف.
هكذا، تقود الدول/ التنظيمات اللعبة مع الخصوم والحلفاء وفق أسس التحليل الاستراتيجي الفعال التي تدور بين الفاعلين ذوي الغايات المتضاربة أحيانًا أو المتقاربة أحيانًا أخرى، ووفق الحرية النسبية التي تستخدم مصادر السلطة الموجودة، أو التي تولّد مصادر أخرى لها حسب المواقف.
في الثورة السورية، أدارت أمريكا وإسرائيل الصراع بإتقان وفق كل الأسس السابقة وحققتا مكاسب هائلة بعد معرفة وتحليل (المواقف، والسلوكيات، وحدود السلطة، وآفاق الاستراتيجية، ومناطق الارتياب وهوامش الحرية، واستخدما الفعل المباشر القاتل لكل ثائر سوري ومناصريه)، بينما استثمرت روسيا وإيران وشيعتها في العالم وسلطة آل الأسد التابعة لهم (مناطق الارتياب، وغياب استراتيجية ثوار سوريا، وهوامش حريتهم المحدودة) ودخلوا بجيوشهم وعصاباتهم المسلحة الأرض السورية وسيطروا على جزء منها، واستغل تنظيم "داعش" بغطاء امريكي/ روسي/ إيراني/ سلطة آل الأسد كافة "محددات المواقف، والسلوكيات التضليلية لأصدقاء وأعداء الثورة، وحالة غياب استراتيجيات ثورية، ومناطق الارتياب للقيام بفعل مباشر) مما أكسبه السيطرة على نصف سوريا.
في المقابل، لم يعرف من يسمي نفسه معارضة سياسية وواجهة تمثيل الثورة السورية "باستثناء قلة" أيًا من الأسس المبيّنة أعلاه ولا يمكن تصنيفهم قادة ثورة بل منتفعين من مزايا فقط.
بينما أجرى داعمو الثورة السورية تحليلات استراتيجية تمثلت بـ"ضعف فهم حقيقي لمواقف أعداء الثورة، واعتبار السلوك العدائي للثورة عارضا وليس دائما، وممارسة تكتيكات مرحلية وليس استراتيجيات، والاقتناع بحصرية السلطة بيد أمريكا وقوتها الدولية، والعجز عن تحديد نقاط الارتياب لدى أعداء الثورة ومخادعيها، والتردّد عن ممارسة الفعل المباشر خلال خمس سنوات مضت من عمر الثورة"، مما أفقدهم مصداقيتهم بدعم الثورة بأفعال حقيقية على أرض الميدان، وتمثّل التوجهات الأخيرة بالتلويح بأعمال عسكرية كمن يريد أن يستحم بماء النهر الجارية مرة ثانية، إذ كان يتوجّب عليهم القيام بأفعال مباشرة لصالح الثورة كما فعل الأمريكان والروس وإيران وشيعتها قبل 4 سنوات.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس