د. وسام الدين العكلة - خاص ترك برس
منذ بداية الثورة السورية اتبع النظام السوري استراتيجية تتضمن مداهمة المستشفيات والوحدات الطبية التي يلجأ إليها الأشخاص الذين كانوا يصابون خلال مشاركتهم في المظاهرات لإلقاء القبض عليهم. ومع نجاح النظام في دفع الاحتجاجات السلمية إلى العسكرة أوائل عام 2012 بدأت قوات النظام بقصف المستشفيات الميدانية التي أقامها الثوار لتقديم العلاج للجرحى والمصابين بهدف حرمانهم من الرعاية الصحية، وقد تكفّلت هذه الاستراتيجية بتدمير العشرات من المرافق الطبية، وتسببت بمقتل مئات الأطباء والممرضين والمسعفين على مدار السنوات الماضية.
وحسب لجنة التحقيق الدولية الخاصة بسوريا التابعة لمجلس حقوق الإنسان فأن نمط الهجمات التي كان يتبعها النظام يشير إلى "أن القوات الحكومية كانت تتعمد استهداف المستشفيات والوحدات الطبية لتحقيق التفوق العسكري من خلال حرمان الثوار ومؤيديهم من المساعدة الطبية".
لم يتوقف النظام عند هذا الحد بل جرَّم المساعدة الطبية إذا ما تم تقديمها لأي شخص يخالفه بالرأي بموجب قوانين مكافحة الإرهاب ذوات الأرقام 19 - 20 - 21 لعام 2012 في انتهاك صارخ للقاعدة التي يتضمنها القانون الإنساني الدولي العرفي التي تنص على "أنه لا يجوز بأي حال من الأحوال معاقبة أي شخص لقيامه بأنشطة طبية تتفق مع الأخلاقيات الطبية بغض النظر عن الشخص المستفيد من هذه الأنشطة". وبناء على هذه القوانين تم استهداف العاملين في مجال الرعاية الصحية، حيث تعرَّض سائقو سيارات الإسعاف والممرضات والأطباء والمتطوعون الطبيون للهجوم والاعتقال والاحتجاز غير القانوني والاختفاء القسري، والعديد منهم قضوا تحت التعذيب في غياهب سجون الأجهزة الأمنية التابعة للنظام.
القوات الروسية على خطى قوات النظام
مع بدء التدخل الروسي المباشر في سوريا بنهاية أيلول/ سبتمبر الماضي واصلت القوات الجوية الروسية استهداف البنى التحتية والمنشآت الطبية في المناطق التي يسيطر عليها الثوار، وتفيد بعض الاحصائيات غير الرسمية عن استهداف نحو 120 مركزًا طبيًا بشكل ممنهج منذ مطلع العام الجاري أكثر من عشرة منها تم استهدافها وتدميرها بشكل شبه كامل أدى إلى خروجها من الخدمة خلال شهر تموز الماضي، وهو ما أكدته لجنة التحقيق التابعة لمجلس حقوق الإنسان.
كما أشارت منظمة العفو الدولية إلى امتلاكها أدلة تشير إلى قيام القوات الروسية وقوات النظام باستهداف المستشفيات، وغيرها من المنشآت الطبية، بشكل متعمد ومنهجي خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، بغية إفراغ القرى والبلدات من سكانها المدنيين وتمهيد الطريق أمام تقدم القوات البرية باتجاه مناطق شمال حلب.
موقف القانون الدولي
وفقاً لقوانين الحرب وعلى رأسها القانون الإنساني الدولي تتمتع المستشفيات والوحدات الطبية بحمايةٍ من نوع خاص، ولا يجوز استهدافها أو نزع الحماية عنها تحت أي ظرف حتى لو احتمى مسلحون داخلها أو تم استخدامها في غير وظائفها الإنسانية لارتكاب أعمال تضر بالعدو من قبيل تخزين الأسلحة بداخلها مثلاً. وفي الحالة الأخيرة يتوجب أولًا توجيه تحذير يحدد إطارًا زمنيًا معقولًا كمهلة لا يجوز شن الهجوم إلا عقب انقضائها في حال عدم الالتزام بمقتضاها.
وتنص قواعـد القـانون الـدولي الإنسـاني على عـدم جواز معاقبة أي شخص نتيجة قيامه بأنشطة طبية موافقة لآداب مهنة الطب، في حين نص نظام روما الأساسي الذي يعتبر دستور المحكمة الجنائية الدولية في مادته الثامنة على أن الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرخة 12 آب / أغسطس 1949 ومنها " تعمد توجيه هجمات ضد المباني والمواد والوحدات الطبية ووسائل النقل الصحية " أو "تعمد شن هجمات ضد موظفين مستخدمين أو منشآت أو مواد أو وحدات أو مركبات مستخدمة في مهمة من مهام المساعدة الإنسانية" تعتبر "جرائم حرب " لا يمكن أن تسقط بالتقادم، وبالتالي لا يجوز افلات مرتكبيها من العدالة الجنائية الدولية.
أما القانون الدولي لحقوق الإنسان فقد كرس لكل إنسان الحق في الصحة، وتضمن العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التزامًا غير قابل للاستثناء يقع على الحكومات بتأمين حق الاستفادة من المرافق الصحية والحصول على السلع والخدمات الصحية على أساس غير تمييزي، خصوصاً للفئات الضعيفة والمهمَّشة.
فشل مجلس الأمن الدولي في توفير الحماية
يعتبر مجلس الأمن الدولي الأداة التنفيذية لمنظمة الأمم المتحدة ورغم امتلاكه الصلاحيات التي تخوله التدخل لتوفير الحماية للمدنيين والمنشآت الطبية إلا أن وقوع المجلس تحت تجاذبات المصالح الدولية حال دون ذلك. فقد أصدر المجلس على مدار السنوات الماضية عدة قرارات تذكِّر الدول بواجباتها الواردة في القانون الدولي الإنساني لحماية هذه المنشآت إلا أن هذه القرارات بقيت في ادراجه دون تنفيذ واستمرار افلات الجناة من العقاب.
ومن القرارات ذات الصلة قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2286 تاريخ 3 أيار/ مايو 2016 الذي أدان أعمـال العنـف والهجمـات والتهديـدات الموجهـة ضـد الجرحـى والمرضى والعاملين في المجال الطبي والعاملين في مجال تقديم المسـاعدة الإنسـانية الـذين يزاولـون حصريا مهام طبية، وضد وسائل نقلـهم ومعـداتهم، وكـذلك ضـد المستشـفيات وسـائر المرافـق الطبية.
وطالب جميع الأطراف في النزاعات المسلحة بالامتثال بشكل كامل للالتزامـات الــتي يلقيهــا عليهــا القــانون الــدولي، بمــا في ذلــك القــانون الــدولي لحقــوق الإنســان، حســب الاقتضاء، والقانون الدولي الإنسـاني، لا سـيما الالتزامـات الـتي تلقيهـا عليهـا اتفاقيـات جنيـف لعــام ١٩٤٩والالتزامــات المنطبقــة عليهــا بموجــب البروتوكــولات الإضــافية لعــامي 1977 و2005 الملحقـة بتلـك الاتفاقيـات. كما طالب بضـمان إخضـاع المسـؤولين عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني للمحاسبة.
إلى جانب هذا القرار هناك العديد من القرارات ذات الصلة التي تحرم استهداف المنشآت الطبية أو العاملين في مجال المساعدة الإنسانية منها قــراري مجلــس الأمــن رقم 2175 لعام 2014 و 1502 لعام 2003 المتعلقـان بحمايـة العـاملين في مجـال تقـديم المسـاعدة الإنسـانية، والقـرار 1998 لعام 2011 المتعلـق بالهجمـات الـتي تشـن علـى المـدارس أو المستشــفيات، وكــذلك قـرار الجمعيـة العامـة 104/70 الخاص بسلامة وأمن العاملين في مجال تقديم المساعدة الإنسانية وحماية مـوظفي الأمـم المتحـدة، والقـرار 106/70 المتعلق بتعزيـز تنسـيق المســـاعدة الإنســـانية الـتي تقـدمها الأمـم المتحــــدة في حالات الطوارئ، والقرار 132/69 الخاص بالصحة العالمية والسياسة الخارجية.
بناء على الأحكام السابقة، هل يمكن معاقبة الطيارين الروس والسوريين على جرائمهم التي ارتكبوها بحق القطاع الطبي والعاملين فيه؟ الجواب ربما الأمر ممكنًا بالنسبة للطيارين السوريين والمسؤولين الذي أعطوهم الأوامر باستهداف هذه المنشآت ومحاكمتهم كمجرمي حرب. أما بالنسبة لروسيا فلا نعتقد الأمر ممكناً وهي الدولة دائمة العضوية في مجلس الأمن وتملك حق النقض "الفيتو" الذي يحمي ضباطها من أي مساءلة أمام المحكمة الجنائية الدولية خاصة وأن إحالة هذه الجرائم إلى هذه المحكمة أو تأسيس محكمة خاصة بسوريا على غرار المحكمة الخاصة بيوغسلافيا أو رواندا يحتاج لموافقة جميع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن ومنها روسيا!
اليوم العالمي للعمل الإنساني
في التاسع عشر من شهر آب/ أغسطس من كل عام تحتفل الأمم المتحدة بــ"اليوم العالمي للعمل الإنساني" حيث تنفذ فعاليات في كل أرجاء العالم لتكريم العاملين في المجال الإنساني، وفي مقر الأمم المتحدة بنيويورك، حيث تقام مراسم وضع إكليل من الزهور، وعقد فعالية رفيعة المستوى في قاعة الجمعية العامة للإقرار بأفضال العاملين في المجال الإنساني ممن لقوا حتفهم في أثناء أداء واجبهم الإنساني، وسيتم الاحتفال بهذا اليوم في هذه السنة تحت شعار "إنسانية واحدة" لتذكير قادة الدول بالالتزامات التي يتوجب عليهم تقديمها لنحو 130 مليون محتاج حول العالم.
ويحق لنا أن نغتم هذه الفرصة للفت أنظار الأمين العام للأمم المتحدة وقادة العالم أجمع لتكريم العاملين والمتطوعين في مجال العمل الإنساني في سوريا لما بذلوه من تضحيات، حيث ينذرون أنفسهم يوميًا لمساعدة أشقائهم بكل شجاعة تحت القصف والعدوان الهمجي الذي تنفذه الطائرات الروسية وطائرات النظام السوري، معرّضين حياتهم للخطر في معظم الأحيان وفقد الكثير منهم حياتهم خلال تقديمهم المساعدة لمن هم بحاجة ماسة لها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس