محمود عثمان - خاص ترك برس
عندما وقع الاختيار على وزير النقل والاتصالات بن علي يلدرم ليكون رئيسًا لحزب العدالة والتنمية ورئيسًا للوزراء تباعًا، ذهب كثيرون - ومنهم كاتب السطور - إلى أن تقاسمًا للمهام سيجري ضمن المؤسسة السياسية، بحيث تضطلع الرئاسة بالملفات الاستراتيجية التي تشمل الأمن والدفاع والسياسة الخارجية، بينما تتحول رئاسة الوزراء إلى هيئة تنفيذية إجرائية تتابع وتنفذ السياسات العامة.
لكن تصريحات رئيس الوزراء بن علي يلدرم في الآونة الأخيرة من العيار الثقيل، وفي قضايا استراتيجية عميقة تتعلق بالسياسة الخارجية، أحدثت قدرًا من الإرباك والحيرة لدى الكثيرين، وتسببت في طرح أسئلة كثيرة، أبرزها هل ثمة تحول كبير أو - كما سماها البعض - انعطافة في توجهات السياسة الخارجية التركية، أم أنها لعبة تبادل الأدوار بين الرئاسة ورئاسة الوزراء؟!.
فعندما يصرح يلدرم قائلا: "إنه يمكن أن يكون للرئيس بشار الأسد دور في المرحلة الانتقالية"، ويقول إن حكومته: "ستكون أكثر نشاطا خلال الأشهر الستة القادمة في سورية"، ويقول أيضا: "إن أنقرة ستضطلع بدور أكثر فعالية في التعامل مع الصراع في سورية في الأشهر الستة القادمة لمنع تقسيم على أسس عرقية". فهذا يشير إلى تحول أكثر من تكتيكي في توجهات السياسة الخارجية التركية، وأسلوب جديد في التعاطي السياسي مع القضايا الكبرى، وإن كان غالبية المحللين السياسيين قد فسر هذه التصريحات على أنها تعبير عن بادرة حسن نوايا من طرف تركيا، لا تعكس التوجهات والمواقف السياسية حكما.
أولويات السياسة الخارجية التركية
أولا: الحفاظ على وحدة تركيا ومقاومة الحركة الانفصالية المتمثلة بحزب العمال الكردستاني PKK وفروعه وتوابعه
منذ ما يقارب الأربعة عقود والدولة التركية تخوض حربا ضروسا ضد الحركة الانفصالية المتمثلة بحزب العمال الكردستاني، ذهب ضحيتها ما يقارب الأربعين ألف قتيل، وكلفت خزينتها ما يزيد على 300 مليار دولار. وبالرغم من الخطوات الكبيرة التي حققها حزب العدالة والتنمية على طريق المصالحة، وسحبه جميع الذرائع التي كان يتسلح بها حزب العمال الكردستاني، من حق التعليم باللغة الأم، إلى الإقرار بمظلومية الأكراد والاعتذار عنها باسم الدولة التركية، مرورا بالإصلاحات الاقتصادية والاستثمارات والمشاريع الضخمة، والبنية التحتية من مطارات وطرق وغيرها، وقبوله ضمنا عبد الله أوجلان وحزب الشعوب الديمقراطي مخاطبا سياسيًا، وشريكًا في المصالحة، إلا أن الطرف الأخير اختار الحرب على السلم، وبدل أن يقوم بتنفيذ تعهداته حسب المتفق عليه، قام بحشد المزيد من المقاتلين، وتخزين كميات كبيرة من السلاح والعتاد، وبدل انسحاب المقاتلين من الأراضي التركية، قاموا بهجوم عام وفي وقت واحد، بهدف خلق مناطق محررة، وفرضها كأمر واقع، على غرار ما قام به فرعهم في سورية حزب الاتحاد الديمقراطي، وهذا يؤكد ويعزز القناعة بأن حزب العمال الكردستاني وفروعه وتوابعه، ما هو إلا ذراع دولية، مصممة ومعدة لإنهاك تركيا واستنزاف قدراتها، وعصا غليظة يتم من خلالها تربية بقية دول المنطقة، لإبقائهم تحت السيطرة. وأداة تستخدم الآن في إعادة رسم خريطة المنطقة من جديد.
هناك أدلة قطعية مشخصة لدى الدولة التركية حول تورط دول أوروبية في مقدمتها ألمانيا، التي لا تخفي دعمها لهذا الحزب تحت مسمى دعم حقوق الأكراد، وفرنسا أيضا تقوم بدعم PKK، ولا ننسى قيام الأمريكان بإلقاء الأسلحة والعتاد من الجو، تحت ذريعة المساعدات الإنسانية للأكراد! ولم ينف الأمريكان أنفسهم ذهاب أسلحة صدام حسين لحزب العمال الكردستاني.
ثانيا: مقاومة مشاريع القوى الإمبريالية لتقسيم دول المنطقة وأولها سورية
التحرك الأمريكي المكثف ضد تنظيم داعش بات واضحًا، وقد كان الاتفاق بين حزب الاتحاد الديمقراطي PYD والأمريكان يقضي بأن يتم تحرير الأراضي من داعش، ثم تسليمها إلى سكانها الأصليين، لكن الأخير لم يلتزم بذلك الاتفاق، بل انتهج حملة تطهير عرقي، وتغيير ديمغرافي طالت سكان جميع المناطق التي أخذت من داعش. ولم يكتفوا بذلك، بل بدؤوا بتوسيع رقعة سيطرتهم حتى على المناطق التي لا تخضع لتنظيم داعش، ففي الحسكة هم الذين قاموا بمهاجمة قوات النظام، ثم ليعلنوها منطقة تابعة لإدارة حكمهم الذاتية.
الأمريكان من جهتهم لا يهمهم الأمر طالما أن الحرب على داعش قائمة وتسير كما يشتهون، وهم لا يخفون ترحيبهم بالفيدرالية في سورية، ولا يخفون أيضا مساعدتهم على قيام مناطق حكم ذاتي للأكراد في شمال سورية، بحيث تتماشى جنبًا إلى جنب مع بناء قواعد عسكرية لهم في تلك المناطق، مقابل غض الطرف عن القواعد العسكرية الروسية على الساحل السوري.
إن سرعة التحرك التركي نحو جرابلس، والتمسك بالخطوط الحمراء التي أعلنت عنها تركيا، القاضية بعدم عبور قوات حزب الاتحاد الكردستاني إلى منطقة غرب الفرات، واعتبار المنطقة الواقعة بين جرابلس واعزاز منطقة محرمة عليهم، كما تم الاتفاق مع الأمريكان، أمر في غاية الأهمية والخطورة، ويمس الأمن القومي التركي بشكل مباشر، ولن تتخلى عنه تركيا مهما كلف ذلك من ثمن.
ثالثا: حماية الأمن الداخلي من ارتدادات الحرب في المنطقة
لا تكاد تخلو ندوة ولا لقاء على المستويين الخاص والعام، داخل تركيا وخارجها، من الحديث عن المحاولة الانقلابية الفاشلة، والدول والقوى المشاركة فيها والداعمة لها، وانعكاساتها على سياسات تركيا إقليميا ودوليا، خصوصا وأن المنطقة تعيش حروبًا ساخنة أكلت الأخضر واليابس، وقلبت الأوضاع رأسًا على عقب، وباتت تهدد جميع دول المنطقة بالتقسيم والتفتيت، وأصبحت التطورات مفتوحة ربما على اختفاء دول ومسح حدود، وفناء شعوب بين قتل وتهجير، وتطهير عرقي ومذهبي. هذا التهديد والخطر الكبير لم يعد يهدد تركيا وحدها، بل هو شامل وحارق ومدمر للمنطقة بأسرها وقابل لنقل عدوى الانفصال والتقسيم إلى العالم من دون استثناء.
إيران تدرك جيدًا هواجس تركيا الأمنية والاستراتيجية، وتشاركها في عدد من تلك التهديدات، مثل خطر حزب العمال الكردستاني على البلدية، كما أن هاجس التقسيم يؤرق مضاجع البلدين، ويجعلهما في صف واحد ضد التوجهات الأمريكية في هذا الخصوص من هنا جاء التقارب بين البلدين كحالة اضطرارية لا مناص منها.
رابعا: لعب دور إقليمي ودولي نشط وفاعل
تدرك القيادة التركية أن خارطة المنطقة يعاد رسمها من جديد، كما يعاد صياغة معادلة توازنات القوى على الصعيد الدولي، والدول المستقرة سياسيًا واقتصاديًا فقط سيكون لها الحق في صياغة المعادلة الجديدة، من أجل ذلك وضعت القيادة التركية هدفها لعام 2023 بأن تكون من ضمن الاقتصادات العشر الأوائل، لأسباب استراتيجية ربما أكثر منها اقتصادية.
حاليا كل من روسيا وإيران مأزومتان في سورية، كم أن الجميع ينظر بعين الريبة إلى التحركات الأمريكية في المنطقة عموما، وفي سورية على وجه الخصوص. لذلك تبدو روسيا وإيران وحتى تركيا على استعداد لتقديم تنازلات في الملف السوري، خاصة مع ازدياد خسائر كل من إيران وروسيا في سورية، والصدمة الكبرى التي أحدثها فك الحصار عن حلب، كما أن سماح إيران لروسيا باستخدام قواعدها لضرب أهداف بسورية يعكس أزمة إيران في الملف السوري.
هذه الأسباب وغيرها دفعت هذه الدول الثلاث للتحرك نحو حل سياسي يسبق أمرا واقعا يحاول الأمريكان فرضه.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس