محمود عثمان - خاص ترك برس
لسنوات قريبة كانت اجتماعات "الشورى العسكري الأعلى" Yüksek Askeri Şura (YAŞ) تأتي في مقدمة اهتمامات الرأي العام في تركيا، حتى إن الليرة التركية والبورصة كانت تتأثر بأجوائها صعودًا وهبوطًا، فقد شكلت تلك الاجتماعات مقياسًا للعلاقة بين القيادة السياسية والسلطة العسكرية، وبتعبير أدق مدى وصاية العسكر على السياسة ومؤسساتها، فحتى عهد قريب كان حضور السياسيين في تلك الاجتماعات بروتوكوليًا إلى حد كبير. لكن الكفة بدأت تميل لصالح السياسيين بعد تمكن حزب العدالة والتنمية من السيطرة بقوة وبصورة شبه مطلقة على سير العملية السياسية، وقد شكل الاعتراض (الشرح) الذي وضعه الرئيس عبد الله غل على قرارات "الشورى العسكري الأعلى" نقطة تحول هامة في العلاقة بين المدني والعسكري، ثم تبعتها خطوات كثيرة كان أبرزها التغيير الجوهري الذي طرأ على بنية وطبيعة ووظيفة "مجلس الأمن القومي" حيث تحول تدريجيا من سلطة العسكر المطلقة إلى سيطرة مؤسسة السياسة التامة.
بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة يوم 15 تموز/ يوليو اتجهت الأنظار مباشرة نحو اجتماع "الشورى العسكري الأعلى" الذي يتم فيه اختيار القيادة الجديدة للجيش التركي، واعتماد التعيينات وإقرار الترفيعات والتسريحات ومن سيحال من الضباط على التقاعد، حيث حاز اجتماع هذا العام، الذي سيعقد يوم غد الخميس، أهمية استثنائية عظمى، خصوصا بعد حملة الاعتقالات والتسريحات الواسعة التي طالت قطاعا كبيرًا من قيادة الجيش التركي.
إرهاصات التغيير الكبير المتوقع جاءت قبل يوم واحد من انعقاد هذا اجتماع الشورى العسكري الأعلى الذي يصفه كثير من الخبراء السياسيين بأنه الأهم في تاريخ الجمهورية التركية، وتاريخ الجيش التركي منذ تأسيسهما، فقد أعلنت قيادة الجيش تسريح ما مجموعه 1684 ضابطًا وصفوا بأنهم يشكلون تهديدًا للأمن القومي بسبب انتمائهم إلى "تنظيم فتح الله غولن الإرهابي" المحظور، في سابقة لم تشهدها تركيا من قبل.
قائمة المطرودين شملت ضباط كبار من أعلى الرتب في قيادة الجيش التركي، وطالت القوات الثلاث دون استثناء، حيث طرد من القوات البرية 87 جنرالا و726 ضابطا و256 ضابط صف، ومن القوات الجوية 30 جنرالا، و314 ضابطا، و117 ضابط صف، ومن القوات البحرية 21 أميرالا، و59 ضابطا، 63 ضابط صف، ليبلغ مجموع عدد المطرودين من الجيش 1684 ضابطًا.
قيادة الجيش التركي أعلنت اليوم الأربعاء في بيان لها أن عدد الذين شاركوا في محاولة الانقلاب الفاشلة بلغ 8651 عسكريا ينتمون إلى "تنظيم فتح الله غولن الإرهابي"، وذكر البيان أن 35 طائرة بينها 24 مقاتلة، و37 مروحية، و246 مدرعة منها 74 دبابة، إضافة إلى ثلاث سفن حربية.
بيان القوات المسلحة الذي جاء قبل يوم واحد من انعقاد الشورى العسكري الأعلى، أوضح أن مجمل القوات التي تورطت في العملية الانقلابية لم تتجاوز 1.5 بالمائة من مجموع الجيش التركي، في محاولة لتبرئة الجيش من جريمتي الانقلاب من جهة، والانتساب لتنظيم محظور من جهة أخرى.
أوليات "الشورى العسكري الأعلى" هذا العام
بخلاف قانون "الشورى العسكري الأعلى" الذي ينص على عقد اجتماعاته في الأسبوع الأول من شهر آب/ أغسطس، فقد تقرر عقد اجتماع هذا العام في الأسبوع الأخير من شهر تموز.
بخلاف ما جرت عليه العادة سابقا من عقد الاجتماع في مقر رئاسة الأركان، تقرر هذا العام عقد الاجتماع في مبنى رئاسة الوزراء في "قصر جانقايا"، لأول مرة في تاريخ تركيا، وهذا يعني ذهاب العسكر إلى المدنيين، في إشارة إلى سيطرة المدني على العسكري.
بخلاف ما جرت عليه العادة من استمرار اجتماع "الشورى العسكري الأعلى" مدة ثلاثة أيام، فقد تقرر اقتصار مدته على يوم واحد فقط.
بخلاف ما كان معتادًا، سيتم الإعلان عن قرارات "الشورى العسكري الأعلى" في نهاية الاجتماع مساء غد الخميس... حيث قديمًا كانت تعلن القرارات في نهاية اليوم الثالث، وقد تتأخر إلى اليوم الرابع أحيانا.
تعديل قانون الدرك وربط قوات الدرك/ الجندرمة بوزارة الداخلية
ربط قوات الدرك/ الجندرمة بوزارة الداخلية، كما هي الحال في الدول الديمقراطية المتقدمة، كان حلمًا قديمًا يراود غالبية القادة السياسيين في تركيا، لما تتمتع به هذه القوات من صلاحيات واسعة جدا، من حيث شمول مكان عملها، وحساسية وظائفها، حتى إن بعض الخبراء كان يصفها بالدولة داخل الدولة، حيث تشمل مساحة صلاحياتها جميع جغرافيا الجمهورية التركية باستثناء ما هو داخل المدن (المحافظات والمناطق). كما تقوم بوظيفة حساسة جدا هي حماية المحاكم، وحراسة السجون... والمقام لا يتسع هنا لبسط الشرح في الأدوار البالغة الحساسية التي لعبتها قوات الدرك/ الجندرمة في السنوات الماضية على صعيد هندسة السياسة الداخلية، بل نكتفي بذكر مثال يسلط الضوء على ذلك، فعلى سبيل المثال لا الحصر، قصة هرب علي أغجا المتهم بمحاولة اغتيال بابا الفاتيكان، وخروج رؤساء العصابات من السجن لبضع أيام أو ساعات وعودتهم إليه دون رقيب ولا حسيب، وتوفير الحماية لفتح الله غولن وعدم اعتقاله، بالرغم من صدور قرار المحكمة العرفية باعتقاله عقب انقلاب عام 1980.
أذكر منذ تسعينات القرن الماضي أن مشروع ربط قوات الدرك/ الجندرمة بوزارة الداخلية كان جاهزًا على طاولة المرحوم نجم الدين أربكان عندما كان رئيسًا للوزراء، لكن مؤسسة السياسة يومها لم تكن بالقدرة التي تمكنها من تحقيق ذلك، وقد انتقل هذا الملف/ المشروع إلى حزب العدالة والتنمية، الذي تعامل معه – كعادته – من خلال سياسة التدرج، فقامت الحكومة بسحب بعض صلاحيات قوات الدرك/ الجندرمة، ونقل بعض أقسامها إلى وزارة الداخلية.
لكن بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة أصبحت الظروف مواتية لإجراء هذه العملية الجراحية الحساسة، حيث قامت حكومة بن علي يلدرم استناداً لقانون الطوارئ بتعديل قانون الدرك/ الجندرمة، فأصدرت مرسومًا ألحق كلا من قوات الدرك/ الجندرمة وقيادة خفر السواحل بوزارة الداخلية. وقد نشر هذا المرسوم في الجريدة الرسمية مساء اليوم.
أزمة الكوادر العسكرية بعد الاعتقالات والتسريحات
كما ذكرنا آنفا فقد طالت الاعتقالات والتسريحات شريحة كبيرة من قيادات الجيش، وعليه فإن المشكلة الأكبر سوف تتمثل في إيجاد كوادر عسكرية موثوقة! وموالية! للقيادة السياسية، وهذا ليس بالأمر الهين في الظروف الحالية، وقد يضطر الأمر إلى استدعاء بعض الضباط الذين دبر لهم الكيان الموازي مكائد وتهما ملفقة، حوكموا بسببها وأودعوا في السجون، من خلال ما أطلق عليه محاكمات "أرغنكون" و"باليوز"، لكن بعد القطيعة بين العدالة والتنمية وجماعة غولن، تمت إعادة محاكمة هؤلاء الضباط، بناء على طلبات شخصية تقدموا بها للمحكمة الدستورية العليا بإعادة محاكمتهم، فأصدرت المحكمة الدستورية العليا، وهي أعلى سلطة قضائية في البلاد، حكمًا يقضي بإعادة محاكمتهم من جديد، حيث تبين أن الأدلة التي استندت إليها المحاكم السابقة، والتي كان غالبية قضاتها من جماعة الكيان الموازي/ غولن، كانت ملفقة ومفتعلة.
هل سيتم تغيير رئيس الأركان؟
لا يخفي رئيس الأركان الحالي الجنرال خلوصي أكار علاقته الوطيدة بالرئيس رجب طيب أردوغان، وقد تعرض لانتقادات شديدة بسبب حضوره مناسبة عقد قران بنت أردوغان، كما أن حكومة العدالة والتنمية كانت شديدة الحرص على إشراكه في القضايا المصيرية والتحالفات والعلاقات الاستراتيجية، من ذلك اصطحابه من قبل رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو في زيارته للسعودية، وجلوس الجنرال أكار على أريكة الملك سلمان بن عبد العزيز، في رسالة كانت لها إيحاءاتها يومئذ.
وعقب المحاولة الانقلابية الفاشلة صرح الرئيس أردوغان قائلا: "من غير المستحسن استبدال الفرس أثناء عبور النهر" وهو مثل تركي شهير، في إشارة إلى عدم وجود نية حالية باستبدال كل من رئيس الأركان خلوصي أكار، ورئيس المخابرات هاكان فيدان، على خلفية الانتقادات التي وجهت لهما بسبب أدائهما في التصدي للمحاولة الانقلابية. وبناء على مقولة أردوغان تلك يشير بعض المحللين إلى أن استمرار الجنرال أكار في رئاسة الأركان معناه أن خطر الانقلاب ما زال قائما. لكنني أعتقد بأن الأمر أعمق من ذلك، وأنه مرتبط بشكل مباشر بتوفر البديل الثقة، حيث يحدد عاملا الولاء والثقة الاستمرار من عدمه.
وفي حالة إحالة الجنرال خلوصي أكار للتقاعد، فإن المرشح الأقوى لمنصب رئاسة هو قائد الجيش الأول أوميت دوندار، الذي أبلى بلاء حسنًا في التصدي للانقلابيين، وهو الذي دعا الرئيس أردوغان ونصحه بالمجيئ لإسطنبول، ووعده بالحماية، ثم وفى بوعده.
ولعل أكثر المواقع أهمية وحساسية هو قيادة الجيش الثاني، حيث سيتم اختيار قائد جديد له، بعد اعتقال قائده الجنرال آدم حدوتي على خلفية المحاولة الانقلابية... وتأتي أهمية الجيش الثاني من كونه يخوض حربا ضروسا ضد حزب العمال الكردستاني، وهو المسؤول على حماية الحدود البرية مع كل من سورية والعراق.
تركيا تعيش هذه الأيام مرحلة تاريخية بالغة الحساسية والتعقيد... مرحلة تؤسس لميلاد جديد يبشر يخرجها من عنق الزجاجة، فتتحول من حقبة وصاية العسكر إلى عصر الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة... الشعب التركي نزل للشارع، ولن يعود قبل أن يطمئن إلى أن عهد الوصاية والانقلابات قد ولى إلى غير رجعة.
هل علمتم لماذا يرابط الأتراك في الشوارع والميادين حتى هذه اللحظة؟.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس