د. سمير صالحة - العربي الجديد
حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) في سورية هو امتداد لحزب العمال الكردستاني التركي، تأسّس فرعاً له في أعقاب توقيع اتفاق أضنة السوري التركي عام 1998، وقرار إبعاد زعيم الحزب، عبدالله أوجلان، من سورية، جاء ضمانة قدّمها نظام حافظ الأسد لأنقرة، لكنه قدّمها هدية لأوجلان أيضاً أنه لن يخون العهد.
كثيرون هم الذين لا يريدون اليوم أن يروا تبعية الحزب، بجناحيه السياسي والعسكري، لحزب العمال الكردستاني، على الرغم من أن العلم والشعارات هي ذاتها، والملهم والقائد هو نفسه، والفكر والطروحات موحدة حتى أساليب العمل هي بتكتيك واستراتيجية واحدة.
صالح مسلم، الكردي السوري الذي درس في إسطنبول، وتنقل بين سورية والعراق، وعمل فترة في السعودية، وبدأ حياته السياسية مناصراً للطروحات الكردية في شمال العراق، لينتقل بعدها إلى الفكر الماركسي اليساري الذي تبناه أوجلان، يتسلم في العام 2010 رئاسة حزب الاتحاد الديمقراطي، ويتولى مهام قيادته. روّج دائماً لضرورة الاعتراف الدستوري بالحقوق الكردية، والحكم الذاتي الديمقراطي للشعب الكردي، ورفض التقارب الحاصل بين أنقرة وأربيل على حساب حزبي العمال والاتحاد الديمقراطي، وتبنى سياسة الموقف الغامض والمتقلب حيال النظام والثورة السورية لتدوير الزوايا. مرة يدافع عن بشار الأسد، والتلميح بعدم إمكانية النظام أن يقصف شعبه بالكيميائي ودعمه الحل السياسي للأزمة السورية المتوافق مع الموقف الروسي- الإيراني، ومرة أخرى يتهمه بإبادة الأكراد وتصفيتهم وتجاهل أبسط حقوقهم في المواطنة والعيش بكرامة في إطار الرؤية الأميركية.
هو يتحدّث اليوم عن هذه المرحلة الحساسة من تاريخ المنطقة التي تحمل تحولات تاريخية في مجال التقارب الكردي الكردي. الأحزاب والحركات الكردية في الشرق الأوسط محكومة بالتضامن لضمان عدم تكرار تجربة الإقصاء المرّة التي مروا بها قبل قرن في "خدعة سيفر"، خصوصاً وأن خرائط المنطقة يعاد رسمها في هذه اللحظات مع "سايكس بيكو" جديد كما يقول. "مشروع الإدارات الذاتية الفيدرالية مستمر طالما أن المكونات السورية معنا.. لن نتنازل عن إقامة روج آفا، والربط بين أقاليم الشمال وعفرين قادم عاجلاً أو آجلاً".
بين آخر إنجازاته الإقليمية والدولية، استقبال الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند، له في قصر الأليزيه، وتهنئة أصدقاء وداعمين إقليميين وغربيين على دوره في تحرير مدينة الطبقة وسد الفرات بانتظار الرقة. وانتزاع إعجاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب به، وتوقيع الأخير على قرار تسليح الولايات المتحدة لقوات سورية الديمقراطية وتسهيل إقامة ثلاث قواعد عسكرية أميركية في مناطق نفوذهم السوري، والمشاركة في دعم التحالف الدولي بقيادة واشنطن في معاركهم ضد "داعش" مقابل القبول الغربي للمسودة الروسية حول دستور الفيدرالية في سورية الجديدة، مع شرط رفع علم كردي مستقل في الحسكة وعفرين، وفتح المجال أمام الكيان لإقامة علاقات دبلوماسية مع الخارج.
هو نجح على الرغم من خطابه وتوجهه القومي الكردي الممزوج بالرؤية الماركسية اليسارية في الجمع بين التأييد الغربي والشرقي في الوقت نفسه. وقد بدأت واشنطن تعتبره صديقاً وشريكاً، في حين تفتح العواصم الأوروبية الأبواب أمامه تحت مسميات منظمات وهيئات ثقافية وفكرية ومنظمات مجتمع مدني ناشطة. وقد كان سبب التوتر التركي الأميركي أخيراً إقدام مجموعة من رجال الحرس التركي على ضرب (وجرح) بعض الأكراد الذين احتشدوا أمام السفارة التركية في واشنطن احتجاجاً على زيارة الرئيس أردوغان أميركا، ما أغضب السيناتور الأميركي، جون ماكين، ودفعه إلى المطالبة بإبعاد السفير التركي رداً على الحادثة.
تأثّر صالح مسلم بالانتفاضة الكردية في العراق، والتي كانت بقيادة الملا مصطفى البرزاني، لكنه ترك الحزب الديمقراطي لاحقاً، ليتهمه أكراد كثيرون، قبل الآخرين، وبعد أن ثبت قدميه في منطقة شمال سورية بقمع (وتصفية) الأكراد المعارضين مشروعه وحركته، والموالين لرئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني. ودخل في تفاهماتٍ مع قيادة مسعود البرزاني مرة، ووعد بمنح المحسوبين على أربيل حرية التحرك وممارسة العمل السياسي، وحصل على دعم عسكري مباشر من البشمركة العراقية لتحرير كوباني (عين العرب)، لكن ما حصل بعد طرد مجموعات "داعش" من المنطقة هو فسخ الخطوبة مع أربيل.
وكانت مواقف صالح مسلم حيال مسعود البرزاني، في معظمها، آنية مزاجية، مرتبطة بالظروف والأحداث السياسية والأمنية. يصفه بأنه الأخ الأكبر، وانهم ينتظرون منه تحركاً يخدم الحلم الكردي ببعده الإقليمي، ويعلن أن قرار الاستفتاء على تقرير المصير في إقليم كردستان العراق يعود إلى السكان هناك، وأنهم أدرى بمصلحتهم. لذلك، لن يستغرب أحد إذا ما قال لاحقاً، وهو يقلد البرزاني، إن الحكم الذاتي في شمال سورية يعني الأكراد وحدهم، وهم أدرى بمصلحتهم أيضاً. وهو لم يتردّد في توجيه تهديداته إلى مسعود البرزاني نفسه، وهو يقول "سنربيك إذا أردت تربيتنا بإغلاق الحدود بين شمالي سورية والعراق". وكان كل ما فعله البرزاني، قبل أسابيع، هو التنديد بإنزال علم كردستان وإحراقه في مدينة عامودا السورية، رداً على تحدّي صالح له.
ويبدو أن البرزاني يعترض على تحرك مسلم في سورية، لأنه يجد فيه منافساً على الزعامة، لكن رئيس إقليم كردستان يعرف أن التجربة العراقية تتكرّر في سورية، وأنه سيلتزم مجبراً بأي توصياتٍ أميركية روسية، تنصحه بعدم المبالغة في انتقاد صالح مسلم، لأن الخطوة الكردية في العراق ستتبعها خطواتٌ لاحقة في سورية وخارجها، لا يجوز تعطيلها أو تعريضها للخطر.
ومسلم هو الذي نجح في مغازلة النظام السوري ومراقصة الأوروبيين. ونُقل عنه قوله "جرّبنا سورية العربية البعثية فجلبت لنا الويل، لماذا لا نجرّب سورية الديموقراطية الاتحادية التي تتسع لكل مكوناتها"؟ وقد وصلت الأمور إلى درجة استحالة التصدّي لتقدم مشروع الكيان الكردي المستقل في شمال سورية، والنقاش سيتمحور في المرحلة المقبلة حول المنطقة الجغرافية التي ستشمل الكيان تماماً كما حصل في العراق. وقد نجح مسلم في الاقتراب، والإمساك بأوراق وخطوط تماس سورية كثيرة. نجح في عرقلة تقدم القوات التركية نحو منبج، وهو الذي سيتقدم نحو الرقة صديقاً لأميركا، وحرّك العصا في عش الدبابير، تاركاً أنقرة وواشنطن أمام خيارات صعبة، تطاول مباشرة تحالفهما الاستراتيجي التاريخي.
الانتصار الوحيد الذي حققته أنقرة حتى الآن هو تخلي قيادات حزب الاتحاد الديمقراطي عن مقولة ساعدهم النظام السوري على تبنيها وترويجها في التسعينات، تقول إن أكراد سورية هم في الأصل أكراد تركيا فرّوا إلى الداخل السوري من القمع والاضطهاد، وبسبب العوز والفقر. مشكلة أنقرة بعد الآن ستكون امتصاص ما يجري في شمالي العراق وسورية، والعمل على عدم انتقال العدوى إلى جنوب شرق تركيا. وسيزيد التفاهم الكردي حول الاستفتاء في إقليم شمال العراق من حماسة مسلم في سورية، وفرص تحقيق مطلب الكيان الكردي المستقل إدارياً ومحلياً ومالياً، والمرتبط سياسياً ودستورياً بسورية حتى إشعار آخر.
لا يريد صالح مسلم أن يكون تحت حكم بشار الأسد، أو دولة مركزية تدير شؤون شمال سورية من دمشق، على الرغم من تكراره الحديث عن الدولة الاتحادية التي يعرف أنها مؤقتة ظرفية، بانتظار قدوم الأجواء الإقليمية والدولية الملائمة، وقد قال "مشروعنا في سورية ليس الدولة الكردية المستقلة، بل هو حقوقنا السياسية والدستورية في إطار سورية الاتحادية".
ويقول صالح مسلم إنه لم يطالب يوماً بدولة كردية مستقلة في سورية، لكنه يعرف أكثر من غيره أن أدبيات حزب العمال الكردستاني تتطلع إلى الدولة الكردية الكبرى التي توحد أماكن وجود الكثافة السكانية الكردية وانتشارها في الدول الشرق أوسطية المتجاورة الأربع، تركيا وإيران وسورية والعراق. الهدف تفتيت سورية على أسس عرقية ودينية ومذهبية، ثم إعادة تركيبها عن طريق دمج الكيانات في إطار دستوري وسياسي جديد.
وقد نُقل عن رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، في اجتماعه مع وفد كردي يمثل حزب الاتحاد الوطني الكردي، قوله إنه لن يقف في طريق حق الأكراد في تقرير مصيرهم، "على أن نتفاهم في ما بيننا، إما بالبقاء معاً أو الانفصال". هل سنسمع كلاماً مشابهاً من بشار الأسد أو القوى السياسية العربية التي تنسق مع صالح مسلم في هذه الآونة؟
ومعلوم أن مشروع فدرلة سورية يتقدم على الأرض، على الرغم من أصحاب هذه الأرض، وهو يكاد يتحول إلى أمر واقع، وظروف تفرض قبول ما يجري أو رفضه والخروج منه كما حدث مع سنة العراق، ليجدوا أنفسهم بعيدين عن كل السيناريوهات والحلول التي طرحت في مستقبل العراق الجديد. وتتعارض مقولة "فيدرالية شمال سورية" مع أدبيات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري وطروحاته، المنقولة حرفياً عن أسس حزب العمال الكردستاني ومبادئه، وأفكار قيادات شمال العراق الذين يتطلعون استراتيجياً إلى كونفدرالية كردستان المؤقتة في بلدان الكثافة السكانية الكردية، لتكون مقدمةً نحو الوحدة والاندماج بين الكيانات باتجاه إعلان كردستان الكبرى.
هل هدف تركيا هو إقناع واشنطن التخلي عن صالح مسلم، أم أن واشنطن هي التي ستقنع تركيا بفوائد برزنة صالح مسلم؟ لم يعد هناك فرق بين الحالتين، على ما يبدو.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس