سعيد الحاج - عربي 21
تزخر الانتخابات البلدية التي أجرتها تركيا يوم أمس/الأحد برسائل الناخبين للنخب السياسية والأحزاب وقياداتها، ولعل أحد أهم الرسائل التي تحتفي بها الدوائر السياسية والإعلامية هي رسائل “الناخب الكردي”.
والتسمية، في الحقيقة، ملتبسة وفيها الكثير من التعميم الذي يستعصي على التحليل الدقيق والتوصيف السليم. ذلك أنه لا يوجد “صوت كردي” واحد في تركيا، بل عدة “أصوات” تعبر عن المكون الكردي في الشعب التركي، تماماً كما أن للمكون التركي أو غيره من المكونات أكثر من اتجاه واحد للتصويت.
فهناك صوت كردي إسلامي أو محافظ متمثل في حزب الدعوة الحرة، وهناك صوت كردي قومي – يساري يتمثل في حزب الشعوب الديمقراطي، وهناك أصوات كردية تتوزع على كل الطيف الحزبي في البلاد بما في ذلك الأحزاب القومية التركية، وفي مقدمة هؤلاء حزب العدالة والتنمية الذي – وللمفارقة – يضم العدد الأكبر مثلاً من النواب من أصول كردية …وهكذا.
أكثر من ذلك، لا يمكن التعميم على الأصوات الكردية حتى في تنويعاتها الداخلية، فليس كل كردي يساري يصوت للشعوب الديمقراطي ولا كل كردي محافظ يصوت للدعوة الحرة أو العدالة والتنمية، لكنها اتجاهات عامة يمكن رصدها لتسهيل المتابعة والتدقيق.
بغرض سهولة التعامل، يُستخدم مصطلح “الصوت الكردي” في كثير من وسائل الإعلام للإشارة للكتلة التصويتية للأحزاب الكردية اليسارية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، والتي يمثلها حالياً حزب الشعوب الديمقراطي. هذا الصوت يتوزع بشكل أساسي في منطقتين جغرافيتين، الأولى هي مناطق الشرق والجنوب الشرقي ذات الأغلبية العرقية الكردية، والثانية هي بعض أحياء المدن الكبرى وخصوصاً إسطنبول وأنقرة التي يتركزون فيها. هذا الصوت يُهتم بتوجهاته لخصوصية المسألة الكردية تاريخياً وحالياً في تركيا، بعد ما مر بها من مظلومية في بدايات الجمهورية، وإصلاحات مع العدالة والتنمية، ثم توقف للعملية السياسية وعودة العمال الكردستاني للعمل المسلح ومكافحة الدولة له في تركيا وخارجها بدءاً من 2015.
أكثر من ذلك، فقد شكّلت العملية القضائية التي طالت قيادات في حزب الشعوب الديمقراطي، بما في ذلك عزل رؤساء بلديات سابقين في مناطق الشرق إثر محاكماتهم بتهمة دعم الإرهاب وتعيين وزارة الداخلية “أوصياء” على هذه البلديات مكانهم، شكّلت تحدياً مهماً في هذه الانتخابات البلدية لاستجلاء ردة فعل الشارع “الكردي” على كل ذلك.
في انتخابات الأمس، أثبت “الصوت الكردي” حضوره، ولكن بشكلَيْن مختلفَيْن بل ومتناقضَيْن، كل منهما في إحدى المنطقتين الجغرافيتين المذكورتين، أحدهما بقرار الحزب والثاني في الاتجاه المعاكس.
ففي المدن الكبرى، خصوصاً أنقرة وإسطنبول، ذهبت معظم أصوات أنصار حزب الشعوب الديمقراطي لصالح مرشحي الشعب الجمهوري والمعارضة لضمان عدم فوز مرشحي العدالة والتنمية وتحالف الشعب/الجمهور، ما ساهم – على الأقل وفق الأرقام الأولية – في خسارة مرشحَي العدالة والتنمية يلدرم في إسطنبول وأوزحسكي في أنقرة، فضلاً عن عدد من البلديات الفرعية في أحياء المدن مثل حي أسنيورد في إسطنبول. وبهذا المنطق سيفتخر الحزب بأنه وإن لم يفز بأي بلدية فرعية في المدينتين الأهم، إلا أنه أسهم في خسارة العدالة والتنمية. هذا الإطار، المساهمة في التخسير دون الفوز، يشترك به مع الشعوب الديمقراطي الحزب الجيد المنشق عن الحركة القومية، وبدرجة أقل حزب السعادة في بعض مدن الأناضول وليس في إسطنبول تحديداً حيث قدم السعادة مرشحه الخاص به.
في المقابل، لا يبدو أن كتلة الشعوب الديمقراطي التصويتية في مناطق الشرق والجنوب الشرقي قد التزمت بتوجهاته كما في السابق بل تبدو وكأنها عاقبته من خلال الصناديق، بدليل خسارته لثلاث بلديات، شرناق – أحد معاقله الرئيسة – وبيتليس لصالح العدالة والتنمية وتونجلي لصالح الحزب الشيوعي التركي.
لهذه النتيجة في الشرق والجنوب الشرقي تحديداً أهمية بالغة لتملامسها المباشر مع المسألة الكردية وملف العمال الكردستاني أكثر من أنصار الحزب المتواجدين في المدن الكبرى، الذين تتأثر قراراتهم بعوامل أخرى غير هوياتية. ولذلك لطالما اهتم الساسة الأتراك بنسبة تصويت هذه المناطق وفي مقدمتهم اردوغان الذي يتحدث عادة عن تلك المناطق بشكل خاص ومستقل بعد الحديث عن عموم تركيا، ولعله ردد جملة “وصلتنا الرسالة” أكثر من مرة موجهاً كلامه لناخبي تلك المناطق.
ذلك أن نسبة تلك المحافظات تعني بشكل غير مباشر استفتاءً شعبياً فيها على الكثير من السياسات الحكومية والحزبية، تبدأ من مكافحة العمال الكردستاني في تركيا وسوريا والعراق، وتمر بإجاءات تعيين “أوصياء” على بعض بلدياتها إثر المسار القضائي الذي يلاحق قيادات الشعوب الديمقراطي، ولا تنتهي بتحالف العدالة والتنمية مع الحركة القومية المحسوب على اليمين التركي المتشدد لا سيما فيما يخص الملف الكردي.
ثمة أسباب عديدة لهذا التصويت اللافت لأكراد الشرق، أهمها:
أولاً، انزعاج طيف مهم منهم من سياسات حزب الشعوب الديمقراطي التي بدت أسيرة للعمال الكردستاني، والتي أفقدتهم مكاسب كبيرة حصلوا عليها عبر حزمات الإصلاح المتتالية والعملية السياسية السابقة.
ثانياً، حرية الاختيار التي حظي بهاأهالي تلك المناطق بعد رفع قبضة العمال الكردستاني عنهم ودحره من مناطقهم، وهو الذي كان يضغط عليهم بقوة السلاح في كثير من المناسبات الانتخابية السابقة.
ثالثاً، الأداء الجيد والمرضي عنه لمعظم “الأوصياء” على بلديات تلك المناطق وما قدموه لها من خدمات.
رابعاً، الثقة التي ما زال يوليها الأكراد في عمومهم باردوغان للاستمرار في عملية الإصلاح ومعالجة المسألة الكردية سياسياً، ورضاهم بالحل تحت سقف الدولة ومن خلال المواطنة المتساوية وليس عبر السلاح والمشاريع الانفصالية.
وبغض النظر عن المكسب الحزبي المباشر للعدالة والتنمية، إلا أن انزياح طيف مهم من الناخبين الأكراد من سكان تلك المناطق نحو الخيارات السلمية الداخلية وتعبيرهم عن ذلك بكامل حرياتهم في سياق انتخابات نزيهة لم يشكك أحد بها هو مكسب كبير ومهم لتركيا ولحزب العدالة والتنمية وللطيف الكردي من الشعب على المدى البعيد.
ولعل هذه النتائج، في مناطق الغالبية الكردية وفي عموم تركيا، تدفع العدالة والتنمية واردوغان لمراجعة شاملة تتعلق بالسياسات والخطاب، خصوصاً ما يتعلق بالملف الكردي الداخلي، بما يضمن استمرار هذا المنحى الإيجابي وحصاد ثماره على المدى الطويل.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس