د. باسل الحاج جاسم - إندبندنت عربية
يبدو أن الاتفاق الذي رعته موسكو قبل أيام، أنقذ أرمينيا، وحفظ ماء وجه السلطات في يريفان، وجاءت موافقة الأرمن على هذا الاتفاق نتيجة إدراكهم أن جيشهم لم يعد قادراً على الاحتفاظ بالواقع الذي كرسه بدعم روسي مباشر، خلال حرب قره باغ الأولى أوائل التسعينيات.
وفي المقابل، لم يسمح الاتفاق لأذربيجان بتحقيق نصر عسكري كامل، وهي كانت على وشك ذلك خلال أيام من سيطرتها على بلدة شوشا الإستراتيجية، ثاني أكبر مدن إقليم ناغورنو قره باغ، ومسألة الانتصار الحاسم لم تكن سوى مسألة وقت.
فرص كبيرة للنجاح
وتبدو فرص نجاح الاتفاق الذي رعته روسيا بين أرمينيا وأذربيجان بالتنسيق مع تركيا، كبيرة، مقارنة بالاتفاقات السابقة، التي كانت عبارة عن مفاوضات فاشلة طوال 28 عاماً.
وما يميز هذا الاتفاق عما سبقه أن هناك جدولاً زمنياً، على الرغم من وجود غموض في آليات تنفيذ بعض بنوده في ما يتعلق بوضع السكان الأرمن في المنطقة التي قد يكون لها وضع خاص داخل جغرافيا قره باغ ، حيث لم يوضح أي شيء بخصوصها، لا سياسياً ولا عسكرياً، سوى دخول قوات حفظ السلام الروسية إليها، إضافة إلى تمركزها في مناطق ونقاط أخرى على خطوط التماس، مع وجود بند بفتح ممر يربط بين هذه المنطقة وأرمينيا بإشراف روسي، في مقابل ممر تشرف عليه روسيا أيضاً، يربط أذربيجان بإقليم ناخشيفان عبر الأراضي الأرمينية، وكذلك فإن آليات عودة اللاجئين الأذربيجانيين الذين تم تهجيرهم من أراضيهم خلال حروب التسعينيات، غير واضحة، إذ يقدر عددهم بحوالى مليون شخص.
ولا بد من الانتظار أسابيع عدة، وإلا فسنكون أمام مجرد مرحلة من مراحل هذا النزاع الممتد منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، حين بدأت معاركه مع انهيار الاتحاد السوفياتي.
وهذه المرحلة سيكون عنوانها الرئيس "منع حرب قره باغ الثانية"، واتضح فيها أن الكفة تميل لمصلحة باكو التي عوضت جزءاً كبيراً من خسارتها خلال الحرب الأولى، إلا أنه كما يقال: "الشيطان يمكن في التفاصيل".
الاتفاق
وجاء في الاتفاق المعلن وقف تام وكامل لإطلاق النار بين أرمينيا وأذربيجان، اعتباراً من منتصف ليل 10 نوفمبر (تشرين الثاني)، كما بقي الجيشان الأذربيجاني والأرمني في مواقعهما، مع تعهد الأطراف بتبادل أسرى الحرب.
ونص الاتفاق على أن تعيد أرمينيا منطقة "كيلبجار" إلى أذربيجان بحلول 15 نوفمبر، ومنطقة "لاتشين" بحلول الأول من ديسمبر (كانون الأول) 2020، وفتح ممر من "لاتشين" بعرض خمسة كيلومترات، والذي يربط قره باغ بأرمينيا. وبحلول 20 نوفمبر يجب على يريفان تسليم باكو منطقة "أغدام"، وجزءاً من منطقة "غازاخ" الأذربيجانية.
وبموجب الاتفاق، ستنتشر وحدة حفظ سلام روسية قوامها 1960 عسكرياً، بأسلحتهم النارية مع 90 ناقلة جند مدرعة، و380 قطعة من المعدات الخاصة، على طول خط التماس في قره باغ، وعلى طول ممر "لاتشين". كما ستنتشر القوة الروسية بالتزامن مع انسحاب الجيش الأرمني، وستقتصر مدة بقائها على خمس سنوات، مع التجديد التلقائي لفترات إضافية مدتها خمس سنوات، إذا لم يقرر أي من أطراف الاتفاق الانسحاب منه، ومن أجل مراقبة تنفيذه، سيتم نشر مركز حفظ السلام لمراقبة وقف إطلاق النار.
واستعادت أذربيجان سيطرتها على جميع مناطقها التي احتلتها أرمينيا عام 1992 خارج قره باغ، وستحتفظ كذلك بأراض داخل قره باغ استعادتها خلال هذه الحرب، بما في ذلك مدينة شوشا الإستراتيجية، فيما سيحتفظ الأرمن بالسيطرة على بقية الإقليم، فضلاً عن إمكان استخدام ممر "لاتشين" الذي ستسيطر عليه القوات الروسية للتواصل مع جمهورية أرمينيا.
ضمانات
السؤال الكبير يدور اليوم حول ضمانات تنفيذ هذا الاتفاق، بعد غياب الثقة المتبادلة بين باكو ويريفان، وأيضاً لا بد من مراقبة الوضع الداخلي في أرمينيا، إذ قد تنهار الحكومة الحالية أو يتم إسقاطها، فكثيرون داخل أرمينيا اليوم يطلقون صفة "اتفاق العار" على ما قام رئيس الحكومة الأرمينية نيكول باشنيان بالتوقيع عليه مع الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأذري إلهام علييف، ومن يصل إلى السلطة سيكون معارضاً لهذا الاتفاق، وهنا ستتحول الأمور إلى مزيد من التعقيد، مع وجود قوات حفظ سلام روسية في قلب النزاع، لذلك لا بد من الانتظار حتى بداية الشهر المقبل، وهو الموعد النهائي لانسحاب أرمينيا من المناطق الأذربيجانية الثلاث المحتلة، وبعد ذلك التاريخ ستتضح الصورة أكثر، ويخرج الشيطان من التفاصيل، وتكون الخريطة السياسية داخل أرمينيا انكشفت أيضاً.
في الوقت نفسه، وبعد التوقيع على البيان الثلاثي، لا تزال أسئلة عدة مثاراً للجدل، فقد جاء في البيان أن وحدات عسكرية أرمينية ستغادر قره باغ، فهل المقصود جيش جمهورية أرمينيا، أم التشكيلات والميليشيات المسلحة للأرمن في الإقليم؟ وقد تؤدي التفسيرات المتباينة إلى تفاقم النزاع في أية لحظة.
وإذا ما تم تنفيذ بنود هذا الاتفاق بشكل كامل، فسيكون اتفاق سلام تاريخياً، أنهى نزاعاً مضت عليه عقود، وبدأت معاركه مع انهيار الاتحاد السوفياتي، وستتمكن أذربيجان من تحرير ثلاث مناطق من أراضيها من دون إطلاق رصاصة واحدة، وهذا إنجاز سياسي كبير، سيصبح أكيداً معه أن حرب جنوب القوقاز ستدخل التاريخ، إذ إنه للمرة الأولى تستطيع دولة على الخريطة بعد الحرب العالمية استعادة أراضيها المحتلة بعد فشل 28 عاماً من المفاوضات، وتطبق قرارات مجلس الأمن والقرارات الدولية عبر قوتها العسكرية.
الاتفاق نصر كبير لموسكو
المؤكد الوحيد اليوم أن الاتفاق نصر كبير لموسكو، ولأنقرة بدرجة أقل، إذ تمكنت روسيا من إظهار قوتها من دون ارتباط مع أطراف "مجموعة مينسك"، ومن دون صفقات مع تركيا أو إيران أو الغرب، واستطاعت إيقاف حرب قره باغ الثانية، وستعزز روسيا بذلك موقعها في المنطقة، وتسيطر على حركة النقل بين أرمينيا وجزء من قره باغ، وبين أذربيجان وجيب إقليم ناخشيفان الأذربيجاني عبر الأراضي الأرمينية، كما ضمنت روسيا مكان اللاعب الرئيس في أية مفاوضات مستقبلية بين الطرفين.
وعلى الرغم من عدم ذكر تركيا في البيان المشترك لقادة روسيا وأذربيجان وأرمينيا، إلا أن الرئيس الأذربيجاني أعلن نشر قوات حفظ سلام تركية في المنطقة، وعلى الأرجح قد نشهد إنشاء قاعدة تركية على أراضي أذربيجان من أجل خلق توازن، والضغط على يريفان وموسكو، كما أنها ستكون جزءاً من مركز تنسيق لمراقبة وقف إطلاق النار في الإقليم، بحسب وزارة الدفاع الروسية، وتكون تركيا تجاوزت بالفعل مشاركتها السابقة كعضو عادي في "مجموعة مينسك" التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، والتي تقود تسوية النزاع القوقازي.
كان هناك هدف استراتيجي مشترك لموسكو وأنقرة معاً، يتمثل في منع أي أدوار للاعبين من خارج المنطقة، لا سيما واشنطن وباريس، حيث تشترك الولايات المتحدة وفرنسا مع روسيا برئاسة "مجموعة مينسك" التي تقود عملية التفاوض حول النزاع الدائر منذ 28 عاماً، وتدخل تركيا في هذه المجموعة بصفة عضو عادي. وقد حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استغلال هذا النزاع لتعزيز مكانة بلاده داخل الاتحاد الأوروبي، وسط الاهتزازات التي تتعرض لها سياسته الخارجية في أكثر من محفل.
يبقى القول، إن كان الاتفاق الثلاثي أوقف الحرب في جنوب القوقاز بنجاح، على الرغم من أن الصراع قد تم تجميده فعلياً ولفترة غير محددة من الزمن، إلا أن الأسباب الموضوعية لاندلاع حرب جديدة ما زالت قائمة، ولا تزال التسوية القانونية لقضية قره باغ بعيدة المنال.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس