ياسين أقطاي - الجزيرة مباشر

قرابة أحد عشر شهرًا هي عمر الإبادة الجماعية غير المسبوقة التي ترتكبها إسرائيل بحق شعب غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. ولا يزال الاحتلال الإسرائيلي يواصل ارتكاب جرائم الحرب والإبادة الجماعية بوحشية وإجرام تجاوز كل ما عرفته البشرية. ورغم اتساع دائرة الاحتجاجات في جميع أنحاء العالم من قبل العقلاء وأصحاب الضمير على هذه الأحداث المروعة، فإن أيًّا من تلك الاحتجاجات والمظاهرات لم تُجدِ نفعًا في ردع إسرائيل ووقف رعونتها ووحشيتها. فمرتكبو هذه المجازر والإبادة الجماعية غير الإنسانية يتمتعون بحماية أمريكا والدول الأوروبية، وتواطؤ بعض الدول التي تكتفي بالصمت والمراقبة.

ولا يزال هناك من يحاول تبرير العدوان الإسرائيلي بأنه رد على هجوم حماس في السابع من أكتوبر، وكأن إسرائيل كانت قبل ذلك دولة مسالمة تنشر العدل والسلام. فعلى مدار قرن تقريبا استغل الصهاينة قضية اضطهاد اليهود بهدف إنشاء إمبراطوريتهم المزعومة من السلطة والنفوذ. حيث نسجت الصهيونية التي كانت وراء تأسيس إسرائيل بناءً على هذا الاضطهاد المزعوم، الخرافات واختلقت الأساطير لخداع الشعوب وإغراقها في سباتٍ عميق حتى الآن.

ولقد نجحت حملات إعلامية ضخمة وتمويلات تفوق ميزانيات الدول ومخططات استراتيجية على مدى واسع، في تحويل اليهود من شعب تعرض للاضطهاد قبل قرن من الزمان إلى الكيان الإسرائيلي الوحشي المستبد الذي يمثل تهديدًا للبشرية جمعاء. وهذا دليل واضح على ازدواجية معايير الأنظمة العالمية التي ساهمت في صناعة كيان كهذا بشعب مدع للمظلومية. ولكن عندما نصبح أكثر دراية بقدرات الإعلام على الخداع وصناعة الأوهام، يصير من الواضح ضرورة التساؤل عن حقيقة الظلم والاضطهاد الذي يدعي هذا الكيان المتوحش أنه عانى منه في الماضي. ونعلم جميعًا مصير من شكك في هذا الأمر من قبل مثل روجيه غارودي، ولكن اليوم بين أيدينا الكثير من الأدلة. فقد كشفت أحداث السابع من أكتوبر بكل وضوح نفاق وزيف وهشاشة القيم الغربية التي ترعى الصهيونية.

وبالطبع، يجب ألَّا نقف مكتوفي الأيدي بعد ظهور تلك الحقائق التي أصبحت على مرأى ومسمع من الجميع. وأقل ما يجب الآن هو توثيق هذه الأحداث والجرائم وإيصالها إلى كل مكان لمن سمع ولمن لم يسمع بأكثر الطرق فعالية. فما لم يتم توثيقه، يكون مصيره أن يُنسى مهما كان واضحًا اليوم، وعندما يُنسى تزداد احتمالية تكراره بقوة ووحشية أكثر.

يوم السبت الماضي 24 أغسطس/آب في إسطنبول تم عرض فيلمين وثائقيين حول هذا الموضوع. أحدهما فيلم وثائقي بعنوان “الاحتلال المقدس” أنتجته قناة “TRT World”. الفيلم الذي تمكن منتجوه من التسلل إلى صفوف المستوطنين في الضفة الغربية (وليس غزة) لمدة شهرين بعد السابع من أكتوبر، يكشف استيلاء المستوطنين اليهود الذين يتوافدون من مختلف أنحاء العالم على أراضي الفلسطينيين باستخدام الدين لتحقيق أهداف الصهيونية. ويكشف هذا الوثائقي أن مسألة الاستيلاء تتم بشكل روتيني من قبل الاحتلال الإسرائيلي. وعلى مدار سنوات صورت وسائل الإعلام الغربية هذا “الاستيطان” على أنه عمل بريء له مبرِّراته، عن طريق قصص واهية عن المحرقة أو الظلم الذي تعرض له اليهود عبر التاريخ. كما قدم هذا الإعلام الفلسطينيين الذين تم اغتصاب أراضيهم، كما لو كانوا هم من ظلموا اليهود عبر التاريخ.

وهكذا عكست وسائل الإعلام الغربية التي تخدم المشروع الصهيوني الأحداث وخدعت الشعوب على مدار سنوات. ولكن منذ السابع من أكتوبر، ظهر البعد “الاستعماري” الابتزازي لهذه المستوطنات بشكل أكثر وضوحًا في جميع أنحاء العالم. وقد كانت هذه إحدى المساهمات الكبرى التي قدمتها عملية السابع من أكتوبر للقضية الفلسطينية، رغم الثمن الباهظ الذي تم دفعه حتى الآن وما زال نزيف الدماء مستمرًا.

وفي الوثائقي الذي أعدته قناة “TRT World”، تم تسليط الضوء بشكل لافت على الدوافع الدينية التي تحرك اليهود من مختلف أنحاء العالم للتطوع في هذا المشروع الاستيطاني، وهي دوافع مثيرة للاشمئزاز وتستند إلى لاهوت صهيوني مشبع بالكراهية بطبيعته ولا يحمل في طياته أي خير للبشرية في أي مكان.

ولا يمكن أن يكون ما يمثل العقيدة اليهودية السماوية الصحيحة هو هذا اللاهوت الذي لا يغرس في الأذهان سوى مشاعر الكراهية والازدراء والعداء لكل من لا ينتسب إليها أو يختلف معها. فهذه العقيدة المُحرَّفة بأيدي الإنسان التي تشكل خطرًا بالغًا على الإنسانية، هي التي تبرر اليوم ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية في غزة، وتصوغ الدوافع الدينية لدعم هذه الجرائم الوحشية.

إن موت كل طفل بريء يمزّق ضمائر الإنسانية، ومع ذلك فإن هذه القلوب المريضة وجدت فيه فرصة للفرح والبهجة. وهذا في الحقيقة أمر يصعب استيعابه. ما هذه العقيدة؟ وما هذه القيم؟ وما هذه الدوافع؟ فمنذ عدة قرون جعل الغرب الاستعماري نفسه وصيًّا على المسلمين يتحكم في شؤونهم، بدعاوى الحضارة والتمدن، تحت شعارات السلام وحقوق الإنسان والتسامح الديني والتعصب الديني والديمقراطية والعلم والعقل والحرية، فهل رأيناه ينبس بكلمة واحدة عن هذا التطرف الديني الصهيوني؟!

ولهذا فإن هذه الحقائق كفيلة بإثارة زلزال من الوعي وزوبعة جديدة في وجه مدعي التنوير. وكذلك فإن توثيق هذه الحقائق وإيصالها بأكثر الطرق تأثيرًا لا شك في أنهما سيوقظان الضمائر النائمة.

أما الوثائقي الثاني فقد أعدته قناة الجزيرة، ويركز على واحدة من أفظع الجرائم الوحشية التي تتصاعد حدتها وحشيتها بشكل مستمر منذ السابع من أكتوبر، وهي الهجمات المتكررة على مستشفى الشفاء في غزة.

ولو أردنا الحديث عن أي هجمة أو اعتداء من اعتداءات الكيان المحتل على مدار الـ11 شهرًا الماضية، لوجدنا تزايدًا واستمرارية لا تأبهان بما تخلفه تلك الوحشية والظلم والجرائم ضد الإنسانية من قتل ودمار. فكل اعتداءاتهم المتعمدة على المدارس ودور العبادة والمؤسسات الإعلامية والصحفيين تكشف بشكل صارخ عن جرائم كيان مرتزق مدعوم من قوى ونفوس خبيثة تستمتع بمناظر القتل والإبادة.

ولكن من بين هذه الجرائم، يبرز القصف المتكرر لمستشفى الشفاء في غزة وحصاره وقتل المرضى فيه، أو سحب المرضى والجرحى من أسِرَّتِهم قسرًا، وهو الواقع الذي صوره الفيلم الوثائقي بجودة الجزيرة المعهودة. وقد تم عرض الفيلم في إسطنبول بتنظيم مشترك بين مبادرة “قيد التسجيل لأجل الإنسانية” وفريق قناة الجزيرة. وقبل العرض تم تنظيم جلسة خاصة لعدد من الفنانين والسياسيين ونشطاء طلاب معروفين بمواقفهم الداعمة لفلسطين على مستوى العالم.

ويأتي هذان الفيلمان الوثائقيان خطوة مهمة في عملية قلب موازين جميع الروايات العالمية حول إسرائيل وإعادة بنائها. ولكن الخطوة الكبرى والأهم هي تلك التي اتخذها أبطال غزة في 7 أكتوبر، فأصابت إسرائيل بالذهول، وبدأت منذ ذلك الحين تكشف بجرائمها ضد الإنسانية عن وجهها الحقيقي وعن وجه الحضارة التي تدعمها. وما بقي الآن هو توثيق كل هذه الأمور بشهادات قوية وحجج دامغة.

عن الكاتب

ياسين أقطاي

قيادي في حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس