د. محمد الصغير - الجزيرة مباشر

بعد فتح دمشق وانتصار ثورة سوريا، وهروب بشار الأسد لا يلوي على أحد، وظهور قادة التحرير بسمتهم الظاهر، وخلفيتهم الإسلامية المعروفة، تعالت أصوات مختلفة لا تريد نموذج حكم طالبان، ولا تريد سوريا صورة من أفغانستان، ولم يعلق أحد على هذا الكلام؛ مما جعله في حكم المقبول أو المسلم به، والحقيقة بخلافه تماما، لأن نظام حكم الإمارة الإسلامية في أفغانستان، بعد ثلاث سنوات من طرد الاحتلال، أراه مثالا ناجحا، ونموذجا ينسج على منواله في قطاعات شتى، فهي تجربة تحرر رائدة ونموذج حكم له إنجازاته، ويحتاج إلى التقييم والتسديد كأي عمل يقوم عليه البشر، فقد نجحت حركة طالبان في ثلاثة ميادين كبرى، قل من يحقق فيها نسبة نجاح كاملة:

أولها: فترة الحرب ومسيرة التحرير، التي استمرت عشرين عاما، انتصرت فيها على أمريكا وحلفها المكون من أكثر من أربعين دولة.

ثانيها: ميدان التفاوض الذي استمر في العاصمة القطرية الدوحة سبع سنوات كاملة، فشل فيها الأمريكان على مائدة التفاوض، كما فشلوا في ساحة المعارك، وكان آخر مطالب أمريكا أن تشرك عملاءها في الحكم، وتفخخ الحالة السياسية بفرض التشاركية على الطريقة الأمريكية، من خلال زرع الألغام في طريق المستقبل، وبقي أمام الأفغان الاختبار الثالث: وهو ميدان إدارة الدولة، والانتقال من الحالة الجهادية القتالية إلى الحالة الإدارية السياسية، وقد خطت فيه حركة طالبان خطوات متقدمة، وحققت نجاحات مقدرة، لكنها لم تستطع حتى الآن امتلاك الآلة الإعلامية المناسبة لما يشن عليها من حملات مغرضة، ولا سيما من الذين إذا رأوا حسنة كتموها، وإذا سمعوا سيئة طاروا بها.

وجاء في باكورة إنجازات الحكم الجديد في أفغانستان، الانتقال من حيز الحركة والتنظيم، إلى فكرة الدولة والمؤسسات، فانصهرت حركة طالبان في مؤسسات الإمارة الإسلامية وتولت قيادتها -وذلك عمل لو تعلمون عظيم- واستطاعت الإمارة الجديدة توحيد كافة التراب الأفغاني، وأصبحت أفغانستان لأول مرة تحت حكومة موحدة منذ 43 سنة، وتمكنت من بسط الأمن في ربوعها، بعد أن كان أعمال السلب والنهب والقتل تنتشر لأتفه الأسباب.

ومع التضييق المتعمد من المعسكر الغربي، ومخالفة الأمريكان لما تعهدوا به من الاعتراف ورفع العقوبات، وتسليم ما لديهم من مليارات -بلغت تسعة مليارات دولار من حقوق الشعب الأفغاني- ومنع الدول كلها من الاعتراف أو التمثيل الدبلوماسي الكامل، مع ذلك كله انشغلت حكومة الإمارة الإسلامية بالشأن الداخلي، والسعي إلى تحقيق الاستقرار للمواطن وتوفير سبل العيش الكريم، والسير بالبلد على طريق الاكتفاء.

ونظرا إلى أن أفغانستان تمثل المستقبل الواعد، لما فيها من خيرات وكنوز، لم تستغل خلال فترات الحروب المتصلة التي قاربت نصف قرن، وهُزمت فيها بريطانيا والاتحاد السوفيتي ثم الحلف الأمريكي؛ فإن الدول تسعى للتعاون مع أفغانستان وغض الطرف عن الاعتراف الذي سيغضب أمريكا، وبلغت الدول التي أقامت علاقات شبه كاملة مع الإمارة الإسلامية أكثر من خمسين دولة حتى الآن، وبدأ بعضها في تسيير رحلات طيران مباشرة إلى كابل، مثل باكستان وتركيا والسعودية وقطر.

شهادتي على نموذج الحكم الأفغاني جاءت بعد معاينة وسؤال، حيث زرتهم بعد مرور عام على فتح كابل، فوجدت عامة الوزراء من الشباب، وحولهم جمع من المساعدين يجيدون اللغات، وتخرجوا في أرقى التخصصات، وسألتهم عن أكبر التحديات التي تقابلهم، فذكروا في مقدمتها تنظيم الخوارج “داعش” وأنه لم ينشط إلا بعد خروج الاحتلال الأمريكي، وأنه خطر فاحش لاستهدافه المساجد وأماكن تجمع المسلمين التي يصعب تأمينها كالأسواق العامة. وفي زيارتي الثانية على رأس السنة الثانية أُخبرت أنه تم القضاء على أكثر من 90% من تنظيم الدواعش، حيث تبين أن العدد الأكبر منهم من خارج أفغانستان، ولم يذكر الإعلام شيئا عن هذا النصر الرائع، والهزائم الثقيلة التي حلت بالتنظيم المخترق، لأنهم أساتذته وكفلاؤه، ولا يريدون ذكر حسنة واحدة للنظام الإسلامي!

ومن المآسي التي تغلبت عليها حكومة الإمارة، ذلك العدد الرهيب الذي أدمن على الحبوب والمخدرات التي وفرها الاحتلال بكثرة، حيث زاد عدد المدمنين على أربعة ملايين مدمن، فيهم مليون من القصّر والنساء، جمعتهم الحكومة في مراكز إيواء، وقدمت لهم العناية الطبية اللازمة، كما سجلت الأمم المتحدة في تقرير لها أن زراعة المخدرات انتهت تماما خلال فترة حكم طالبان الأولى، وعادت بقوة في فترة حكم أمريكا والحكومة التابعة لها، ثم استطاعت حكومة الإمارة القضاء عليها مرة أخرى.

وخلال أول عامين من حكم الإمارة سددت ديونها الخارجية المتعلقة بالطاقة، حتى تلك التي اقترضتها الحكومة الموالية للاحتلال، كما أحصت الإمارة أعداد الأطفال اليتامى الذين خلفتهم الحرب لتقديم المساعدات لهم، وبلغ عددهم أكثر من 150 ألفا، ولم تفرق بين أبناء المجاهدين وأبناء المقاتلين الذين كانوا في صف الاحتلال، باعتبار أن الجميع أبناء أفغانستان المحررة.

وفي إطار النهضة الاقتصادية التي تشهدها إمارة أفغانستان الإسلامية، أعلنت وزارة الصناعة والتجارة تحقيق الاكتفاء الذاتي في إنتاج قضبان الحديد، وأكد المتحدث باسم الوزارة، أنها تمكنت العام الماضي من تصدير 60 ألف طن إلى ‎باكستان، وتم هذا العام توقيع عقد جديد مع ‎تركمانستان لتصدير 150 ألف طن بحلول عام 2025، مما يعكس الثقة المتزايدة بجودة الإنتاج الأفغاني، وتعتبر “قناة قوش تيپه” من أكبر مشاريع الإمارة الإسلامية، والمستهدف منها تحويل مجرى مياه نهر جيحون ليشق ثلاث محافظات هي بلخ، وجوزجان، وفارياب.

‏الطول: ٢٨٥ كم

العرض: ١٥٠ متر

العمق: ٨ أمتار

الهدف: تحويل أفغانستان إلى دولة مكتفية ومصدرة للقمح والقطن، وبلغت تكلفتها قرابة مليار دولار، وتعد من أكبر القنوات في قارة آسيا، بميزانية خاصة من الإمارة ودون دعم خارجي، كما أن خطة العمل أفغانية، وكل من يعمل فيها من الأفغان.

أكبر دليل على هذا التقدم الاقتصادي أن سعر العملة الأفغانية “الأفغاني”، يوم خروج الاحتلال الأمريكي، كان يساوي 130 أفغانيا للدولار، ولم يلبث طويلا حتى أصبح الآن الدولار يساوي 70 أفغانيا، وصنفت وكالة بلومبرغ العالمية العملة الأفغانية بأنها إحدى أكثر ثلاث عملات استقرارًا على مستوى العالم، وذلك في تقريرها الأخير حول أداء العملات الوطنية لعام 2024.

وهذه شهادة على النجاح الكبير في استقرار العملة وتقدم الاقتصاد الأفغاني في مواجهة التحديات العالمية، في الوقت الذي تشهد فيه العديد من الدول انخفاضًا حادًّا في قيمة عملاتها، دون خوض حروب، أو معاناة حصار.

كل ما يصل إلى الناس عن أفغانستان، هو ما يردده خصومها التاريخيون، أو الذين لم يتخلصوا من آثار الهزيمة بعد، وقد رأينا خلال حرب الإبادة على غزة كيف زوّر الغرب -الراهب في صومعة المصداقية الإعلامية- التاريخ والأحداث أمام شهود العيان، وعند مقارعته بسوء عمله ينتقل إلى موضوع آخر، والدليل أن الكل يردد الرواية الأمريكية، ولا يستطيع الخروج عن الدائرة المحددة في القضايا الدولية، يظهر ذلك في أن دول العالم المفروض عليها عدم الاعتراف بأفغانستان، هي نفسها التي طُلبت منها الهرولة إلى دمشق، والوقوف أمام باب أحمد الشرع، حتى الدول العربية التي تتعبد بمحاربة الإسلام السياسي، رأيناها ترحب بالتيار الجهادي، وأرسلت عن طريقه طائرات إغاثة للأشقاء في سوريا.

وعلى صعيد البعد عن نظام حكم الشريعة في أفغانستان، أو المبادرة إلى إدارة الشرع في الشام، فإن المهرولين فعلوا ذلك ابتغاء وجه أمريكا إيمانا واحتسابا، وأجرهم ليس على الله تعالى، وندعو الله كما صرف الكيد عن الأفغان حتى الآن، أن يتم نعمته على أهل الشام، وليس عيبا أن يقدموا صورة جديدة من نجاحات الحكم كما حدث في أفغانستان، وكلنا ثقة في فجر قريب وأمل لن يخيب، لأن الأيام دول، والدول أيام، وعصر المنظومة المهيمنة ووكلائها في بلاد المسلمين إلى أفول، ولا عزاء للفلول.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس