ياسين أقطاي - يني شفق

في أول ليلة من ليالي رمضان كانت توقد نار عظيمة لاستقبال الشهر الكريم، فكانت تلك النيران إعلانًا رسميًا لحلول شهر رمضان، وطقسا احتفاليا يعلن عن دخوله.

ولم يكن إشعال النيران في سيرت مقتصراً على استقبال شهر رمضان، بل كانت توقد أيضاً في العيد الشعبي "سيجور" إلا أنه اندثر تمامًا اليوم. ففي الماضي كان أهل ولاية "سيرت" يحتفلون بهذا المهرجان يوم الاثنين في الأسبوع الثاني من شهر مارس. فبعد غروب الشمس، كان الجميع يُشعلون مشاعل خشبية أعدوها قبل أيام، ويلوحون بها من فوق أسطح المنازل. كانت هذه الحركة المتزامنة للمشاعل في مختلف أنحاء المدينة تخلق عرضًا بصريًا استثنائيًا، ومع مرور الوقت، أضيفت إلى هذا المشهد أصوات طلقات المسدسات الصوتية والألعاب النارية، ليتحول إلى عرض ناري صاخب يستمر من نصف ساعة إلى ساعة. وفي ختام العرض كان الأهالي يتناولون أطباق "الممبار" المعد في البيت، والحلوى المعروفة باسم "ساري بورمه"، مشاركين في مهرجان لا يعرفون بالضبط أصله أو معناه.

وقد يربط البعض ذلك بالمجوس أو ثقافات الشرق الأدنى الأخرى التي تقدس النار بسبب التقارب الجغرافي أو الثقافي، ولكن لم يكن هناك تقديس للنار على الإطلاق لا في استقبال رمضان ولا في عيد "سيجور". على العكس من ذلك كانت النار في استقبال رمضان تحديدًا ترمز إلى قدسية رمضان نفسه. وكان إشعال النار بمثابة ترسيمٍ للحد الفاصل بين ما قبل رمضان وما بعده، وكأنها تبرز الحدود الرمضانية بين الحلال والحرام، لتكون أيضاً بمثابة "بسم الله" لدخول عالم جديد.

ومع مرور الوقت بدأت عادة "إشعال النار" تأخذ طابعا مختلفًا، إذ ظهرت في العديد من الأماكن ضمن احتفالات "النوروز"، لكن بفارقٍ جوهري، إذ اقتصر الأمر على إشعال نارٍ ضخمة في الساحات العامة، والقفز فوقها. غير أن الاختلافات بين نار رمضان واحتفالات النوْروز جلية، سواء في التحضيرات أو المعاني؛ ففي النوروز لم يكن هناك اي تحضير مسبق كتلك الطقوس التي كان يُمارسها شبان الأحياء عند إشعال نار مضان، ولم تكن هناك مشاعل تُهيّأ قبل أيام، ولا استعداداتٌ تُضفي على النوروز نفس الرمزية العميقة. بل يكتفى بجمع بعض الأخشاب وإطارات السيارات، لتُضرم بها النيران سريعًا، فتتصاعد سحب من الدخان الأسود القاتم جراء الإطارات الممزوجة بمخلفات النفط.

ولم يكن إشعال نار رمضان هو الحدث الوحيد المهم، بل كانت التحضيرات التي يقوم بها شباب الحي على مدار 15 إلى 20 يومًا ذات أهمية كبيرة أيضًا. فقد كانوا ينخرطون في استعداداتٍ مكثفة دون انقطاع، لكن يبقى السؤال: كيف كانوا يتابعون التقويم ويُدركون قُرب رمضان؟ كيف كانوا ينظمون أنفسهم رغم صغر سنهم؟ والأهم، كيف استطاعت المدينة بأكملها أن تشارك في هذا الحدث الجماعي، دون أن يُستثنى منه أحد، لقد كان أشبه بلعبة جماعية، لكنها كانت تحظى بأقصى درجات الجدية، حيث يؤدي كل فرد دوره دون تخاذل؟ كان الشباب يعتبرون ما يفعلونه مسؤولية كبرى ويأخذونه على محمل الجد، وكأنهم في هذا السن المبكر يحملون على عاتقهم مهمة تمثيل الحي.

في الواقع لم يكن الدافع الأساس في بادئ الأمر هو إدراك المعاني الروحية لرمضان، بقدر ما كان تنافس الأحياء فيما بينها، وما ينشأ عن ذلك التنافس بين الفتية من إحساسٍ قويّ بالانتماء للحيّ. فحين يتشكل الفريق، تظهر القيادة تلقائيًا، فيبرز أفرادٌ يتولون زمام الأمور، ويقودون الآخرين، مما يرسّخ في نفوس هؤلاء الفتيان منذ نعومة أظافرهم فكرة الانخراط في الجماعة، وتجاوز حدود الفردية والأنانية، وتعزيز روح التعاون والمشاركة والشعور بالانتماء في عملٍ يتجاوز مصالحهم الشخصية ليصبح شأنًا يجمع أبناء الحيّ كله.

ولجمع الأموال كان الشباب يلجؤون إلى طريقتين، إما قطع الطريق على المارة وطلب المال منهم. أو التجول بين المنازل، حيث كانوا يقرعون الأبواب، وينشدون أناشيد جماعية مليئة بالمديح والثناء على أهل البيت، ويطلبون الحطب أو الأسياخ أو المال. ولم يكن أهل البيوت يعطونهم التبرعات فورًا، بل كانوا يتلكؤون عمدًا، كي يطيل الفتية في إنشاد المدائح، خاصة عندما تكون موجهة لأطفال المنزل المدللين. ومن تلك الأهازيج التي تناقلتها الألسن:

"حية مافي خلف البيت

الله يخلي الناس البيت

ليكن عجينكن اختمر

صرلكن ابن كمل القمر"

والتي تعني بالفصحى:

"الحية ليست خلف البيت

اللهم بارك لأهل البيت

لقد اختمر العجين

وصار ابنكم بدرًا مكتملًا"

في الحقيقة، كان جميع الأطفال مدللين في بيوتهم، ولذلك كان الدعاء الأشهر عند طرق الأبواب هو: "الله يخلي المدلل"، أي: "ليحفظ الله مدلل البيت، آمين". وكان الحماس يدفع الأطفال إلى ذكر أسماء أفراد المنزل واحدًا تلو الآخر: "ليحفظ الله إسماعيل، آمين"، "ليحفظ الله محمد، آمين…". وإن كان في البيت شابٌ ملتحق بالخدمة العسكرية، كانوا يدعون له بالعودة سالمًا. وما إن تُلقي ربة المنزل بعض الحطب أو الأغصان اليابسة من على السطح، حتى تعلو أصوات الدعاء، يتبعها تصفيق حار من الأطفال، تعبيرا عن فرحتهم.

ورغم أن هناك تنافسا بين الأحياء حول مدى ارتفاع النيران، إلا أنها لم تكن منافسة شرسة، ولكن خلال فترة التحضير التي تستمر 15-20 يومًا، كان من المستحيل ألا تتقاطع طرق المجموعات. فكانت تنشأ منافسة طريفة ومسلية، لكنها لم تكن دائمًا ودّية أو نزيهة. فقد كان بعض الفتية يتسللون خلسةً إلى مواقع تخزين الحطب الخاصة بالأحياء الأخرى، في انتظار لحظة إهمال أو غفلةٍ لسرقة بعض الحطب، لذلك، كان اختيار مكان آمن لتخزين الحطب أمرًا بالغ الأهمية. وقد أتاحت هذه الأجواء لكبار الحي فرصة التدخل، لإرساء القيم الأخلاقية وتعليم الأطفال الآداب والسلوكيات الحميدة.

ولم تكن هذه الفعالية مقتصرة دائمًا على الحيّ نفسه، فقد كانت هناك جولات استطلاعية بين الأحياء، وكانت هذه الجولات إما تحدّيًا وإما طلب إذن للدخول بأدب، حيث يُنشدون: "جينا، جينا، جينا، لمحلتكن جينا " ومع مرور الوقت، تحوّل إلى حدث عام يضمّ المدينة بأكملها بسبب التواصل بين جميع أحيائها. وهكذا، كان كل شيء يستمر بشكل جماعي حتى اللحظة المهيبة التي يضاء فيها مشعل رمضان الأول، فتتوهّج ألسنة اللهب لترسم حدا فاصلا بين الأيام العادية وشهر رمضان معلنةً دخول الشهر العظيم بكامل أجوائه الروحانية.

عن الكاتب

ياسين أقطاي

قيادي في حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس