ترك برس

تناول مقال تحليلي للكاتب والأكاديمي التركي أحمد أويصال، التحديات الديموغرافية التي تواجه دول الكتلة الغربية، حيث يشير إلى الانخفاض الحاد في معدلات الخصوبة وارتفاع نسبة كبار السن، مما يُنذر بأزمة سكانية واقتصادية متفاقمة.

ويعرض الكاتب في مقاله بصحيفة الشرق القطرية الأسباب المتعددة لهذا التراجع، من بينها تأثير التمدن، وارتفاع تكاليف التعليم والمعيشة، وتأخر سن الزواج، وانتشار الثقافة الليبرالية التي تقلل من قيمة الأسرة والإنجاب.

كما يناقش محاولات الدول الغربية لمواجهة هذه الظاهرة من خلال سياسات تشجيع الإنجاب أو استقدام المهاجرين، وما ترتب على ذلك من تحديات ثقافية واجتماعية، مثل صعود التيارات الشعبوية والقلق من التغيرات الديموغرافية.

وفيما يلي نص المقال:

رغم أن دول الكتلة الغربية لا تمثل سوى 12% من سكان العالم، فإنها تستحوذ على نحو نصف الدخل العالمي. إلا أن هذه الدول تواجه في الوقت الراهن أزمة سكانية متفاقمة، إذ تُعد من بين أقل الدول في معدلات النمو السكاني، مع ازديادٍ مستمر في نسبة كبار السن. جميع البلدان في الكتلة الغربية لديها معدلات خصوبة أقل من معدل التجديد البالغ 2.1 في المئة. فقد تزعزعت الحياة الأسرية كما فرضتها الثقافة الليبرالية الغربية، وانخفضت معدلات الخصوبة بشكل خطير بسبب الانحرافات الجنسية المختلفة، وبدأ عدد السكان بالتراجع في هذه الدول بالتزامن مع قلة الشباب وكثرة الشيوخ.

هناك العديد من الأسباب التي تقف وراء هذه الظاهرة، ولها نتائج خطيرة. وقد عدَّ علماء الاجتماع «التمدّن» من أبرز هذه الأسباب؛ ففي حين يرى سكان القرى العاملون في الزراعة وتربية المواشي أن كثرة الأطفال ضمانٌ للحياة، فإن تربية الأطفال في المدينة لم تعد بنفس الجاذبية. كما أن ارتفاع معدلات وفيات الأطفال في الريف كان يدفع الأسر إلى إنجاب عدد أكبر من الأبناء، بينما تؤدي الخدمات الصحية المتقدمة ووسائل تنظيم النسل المتاحة في المدن إلى انخفاض عدد الأطفال المولودين.

في الدول الرأسمالية المتقدمة، يُعد التعليم – وخاصةً التعليم المدفوع – عبئًا كبيرًا على كاهل الأسر، مما يجعل تربية الأطفال مسؤولية مالية ثقيلة. وتُشكّل خدمات الحضانة عبئًا إضافيًا، خصوصًا بالنسبة للأمهات العاملات والآباء من ذوي الدخل المحدود. ومع ارتفاع مستوى التعليم، وخاصة لدى النساء، يتأخر سن الزواج، وينخفض عدد الأطفال المولودين. كما تميل النساء العاملات إلى إنجاب عدد أقل من الأطفال. وفي الولايات المتحدة، تؤثر قروض التعليم التي يحصل عليها الطلاب الفقراء من الدولة – والتي يتوجب سدادها لاحقًا – على خطط الزواج، وتُصعّب اتخاذ خطوة الزواج.

مع ازدياد مستوى التعليم، تزداد وتيرة تبنّي الثقافة الليبرالية، ويضعف الإيمان بقيمة الأسرة وأهمية إنجاب الأطفال. فهذه الثقافة تشجّع على السعي وراء الحياة المهنية بدلاً من تكوين أسرة، وتروّج لمفاهيم مثل السفر والاستقلالية الشخصية. وفي البيئة الحضرية، ومع انتشار التعليم والإنترنت، تتراجع الالتزامات الدينية والتقاليد الاجتماعية، مما يؤدي إلى ضعف الروابط الأسرية. ونتيجة لذلك، تقلّ الضغوط أو التوقعات المرتبطة بالزواج والإنجاب. كما تُظهر الدراسات أن الفئات العلمانية في الدول الغربية تميل إلى إنجاب عدد أقل من الأطفال مقارنةً بالفئات المحافظة.

إن انخفاض معدلات النمو السكاني يؤدي إلى العديد من النتائج الخطيرة، وأبرزها ازدياد نسبة كبار السن، مما يؤدي إلى انخفاض في الإنتاج. كما أن رعاية المسنين وتكاليف الخدمات الصحية تُثقل كاهل خزائن الدول وتزيد العبء المالي على السكان العاملين. وتُشكّل هذه الأعباء المتزايدة تحديًا كبيرًا أمام سياسات دولة الرفاه الاجتماعي المعتمدة في أوروبا. كما أن إنفاق كبار السن واستهلاكهم الاقتصادي ينخفض، مما يؤدي إلى تراجع الحيوية الاقتصادية. فعلى سبيل المثال، بينما تزداد الحاجة إلى المدارس والإنفاق العام في الدول النامية، فإن الدول المتقدمة تواجه تزايدًا في الحاجة إلى دور رعاية المسنين.

لمواجهة المشاكل الناجمة عن شيخوخة السكان، بدأت الدول في تطبيق سياسات تهدف إلى رفع معدلات الولادة، إلا أن هذه السياسات لم تُحدث تأثيرًا كبيرًا. وأصبح من الضروري بالنسبة لمعظم الدول المتقدمة الاعتماد على استقدام المهاجرين من الخارج. وقد أدى قدوم غالبية هؤلاء المهاجرين من دول العالم الإسلامي وأفريقيا وآسيا الفقيرة إلى ارتفاع نسبة السكان من أصحاب الديانات والثقافات المختلفة في المجتمعات الغربية. ونتيجة لذلك، تصاعدت في الغرب النقاشات حول الاندماج، وظهرت توترات ثقافية، كما أدى هذا الظاهرة إلى صعود الأحزاب الشعبوية والعنصرية. ومن جهة أخرى، فإن ارتفاع معدلات الخصوبة لدى الأقليات المسلمة أصبح مصدر قلق إضافي بالنسبة للجماعات العنصرية في الغرب.

تقدّم بعض الدول الأوروبية مثل فرنسا والسويد دعماً متنوعًا لتشجيع الأسر على إنجاب المزيد من الأطفال. وتشمل هذه التدابير إجازة الأمومة، والمساعدات لرياض الأطفال، وإجراءات اقتصادية أخرى، والتي رغم أنها حققت بعض النتائج، إلا أن عكس انخفاض معدلات الخصوبة بعد حدوثه يُعد أمرًا بالغ الصعوبة. فعلى سبيل المثال، ورغم أن الصين قد ألغت سياسة الطفل الواحد في عام 2016، إلا أن ذلك لم يؤدِ إلى زيادة ملحوظة في معدلات الولادة. ومن أجل معالجة هذه المشكلة، قد يكون الحل في تقوية مؤسسة الأسرة، وتعزيز النظرة إلى الطفل كمصدر للبركة، وتقدير دور الوالدين، وتشجيع الزواج المبكر، والعمل على إعادة إحياء مفهوم الأسرة الممتدة في المجتمعات.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!