زاهد جول - القدس العربي
إن المتابع للردود الروسية على إسقاط الطائرة الروسية سوخوي 24 يوم 24/11/2015 من قبل الطائرات التركية ف16 يدرك أن روسيا تعمل على استثمار هذه الحادثة في توسيع ساحة العداء مع الدولة التركية، وهو ما يرجح ان بوتين والمخابرات الروسية العسكرية افتعلت هذه الحادثة عن طريق تكرار انتهاك الأجواء التركية من الطائرات الروسية منذ بداية الغزو الروسي لسوريا بتاريخ 30/9/2015 بتعمد عدم الالتفات إلى التحذيرات العلنية التركية للحكومة الروسية، ودون التقيد بالتحذيرات الرسمية العسكرية التركية من قبل قيادة الأركان التركية لقيادة الأركان الروسية، التي تمت في اجتماعات عسكرية بين قيادات الأركان التركية والروسية قبل شهر من تاريخ إسقاط الطائرة الروسية.
فقد أعلمت قيادة الأركان التركية قيادة الأركان الروسية أن قواعد الاشتباك على الحدود التركية السورية تختلف عن غيرها من الحدود، مثل حدود تركيا مع روسيا في البحر الأسود أو غيرها من الأماكن، لأن هذه الحدود تشهد حالة حرب منذ خمس سنوات، ولأن النظام السوري قام بإسقاط طائرة حربية تركية في ايلول/سبتمبر 2012 عن طريق الدفاعات الجوية الروسية في ذلك الوقت، ولذلك ومنذ عام 2012 أعلنت قيادة الأركان التركية أن قواعد الاشتباك الجوية قد تغيرت في شمال سوريا، وان على الطيران الروسي ان يأخذ ذلك بعين الاعتبار هذه القواعد التي أعلنها الأتراك علانية ومن خلال الاجتماعات الرسمية مع قيادة الأركان الروسية.
إن إصرار الطائرات الروسية على انتهاك الأجواء التركية بعد كل هذه التحذيرات هو دليل على ان روسيا تريد من تركيا ان تسكت على تحركاتها العسكرية في شمال سوريا وعلى الحدود التركية السورية دون اعتراض، وهو ما لم توافق عليه تركيا، وهدف الروس من ذلك ان تصل رسالة إلى الأتراك مفادها انه لا يحق لتركيا بعد التدخل العسكري الروسي في سوريا في الحديث عن منطقة آمنة في شمال سوريا، ولا حتى الحديث عن حل سياسي إلا في المحافل الدولية بشكل دبلوماسي فقط، وغير مؤثر إطلاقاً. فبوتين لا يريد تدخل تركيا في سوريا، أما قرار الحل في السلم والحرب فقد جاءت روسيا إلى سوريا لأخذه من إيران ومن خامنئي ومن أمريكا ومن أوباما ومن كل الدول العربية وقادتها، وأيضاً من تركيا ومن أردوغان، هذه الرسالة لم توافق عليها كل الدول المذكورة، ولذلك أرادت روسيا ان توجه رسالة إلى هذه الدول بالتحدي الروسي لتركيا، وهي تهدف تحقيق أحد الهدفين أو كلاهما، وهما إما أن تسكت تركيا عن انتهاك أجوائها، أي أن تسكت على التحركات العسكرية الروسية في المنطقة، أو أن تدخل تركيا في صراع وخسائر وندم في حالة تحديها للإرادة الروسية في سوريا.
وفي ظن روسيا أن تركيا سوف تندم وتذهب صاغرة معتذرة إلى القيادة الروسية على إسقاط الطائرة، ولذلك تعمد بوتين رفع درجة العداء للقيادة التركية ومحاولة تحميلها المسؤولية أمام الشعب التركي وأمام الشعب الروسي والعالم، حتى لا تكرر تركيا اعتراضها على الطائرات الروسية، وأرسلت منظومة صواريخ س400، المضادة للطائرات، حتى تفرض منطقة هيمنة جوية ضد تركيا وغيرها من الدول التي قد تقف ضد المشروع الروسي في سوريا.
إن روسيا تريد أن توصل هذه الرسالة ليس لتركيا فقط وإنما لكل الدول التي قد تعارضها في سوريا، ولذلك رفض بوتين لقاء أردوغان بعد الحادثة مباشرة، لأنه يريد أن يأخذ مدة زمنية كافية لإيصال هذه الرسالة، فإذا نجح في إخافة تركيا من تكرار الحادثة أو تعلن تركيا اعتذارها لبوتين فإنه يكون قد أخذ مراده من التهديدات ومن إسكات السياسة التركية في سوريا.
ولكن الرؤية التركية غير ذلك ولا توافق على هذه الخطة الروسية، فتركيا لا ترى نفسها الدولة المتسببة بالأزمة وإنما روسيا، وترى أن من حقها المطالبة بالاعتذار الروسي لتركيا وليس العكس، لأن روسيا هي من تسببت باسقاط الطائرة.
ما يؤكد صحة هذا التحليل أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أخذ فور اسقاط الطائرة بإصدار تصريحات وأفعال تصعيدية تزيد من حالة العداء مع الشعب التركي، وضد الدولة التركية ورئيسها وحكومتها وحزبها الحاكم، وقد كان يمكن اعتبار تصريحات اليوم الأول للرئيس الروسي والتي كانت بعد ساعات من إسقاط الطائرة صادرة عن موقف غاضب ومنفعل وعاطفي، وأنه سوف يتراجع عن تلك التصريحات العدائية ضد تركيا باتهامها انها وجهت طعنة في الظهر لروسيا، وان هذه الطعنة جاءت من جهات داعمة للإرهابيين، فهذه التصريحات على رعونتها إلا انها ردود أفعال غير محسوبة، وقد لا تتخذها الدولة التركية على جديتها ولا تصدر نحوها قرارات محاسبة، ولكن التصريحات الروسية اللاحقة وفي اليوم نفسه لإسقاط الطائرة طالبت الحكومة الروسية من الشعب الروسي بعدم الذهاب إلى تركيا، ومطالبة الروس الموجودين في تركيا بالعودة إلى روسيا باعتبار تركيا دولة غير آمنة، ومن الدول التي يمكن أن يكون فيها تهديدات إرهابية، كل ذلك يدلل على ان هناك خطوات وإجراءات روسية تريد ان تدفع بالخلاف الروسي التركي إلى الامام وإلى التصعيد، وان من يقف على رأس هذه السياسة الروسية هو فلاديمير بوتين، وان كادر دولته السياسي والإعلامي يسير وراءه في خطة العداء لتركيا، وذريعتهم العلنية الأولى إسقاط الطائرة التركية التي ادعوا انها اسقطت وهي فوق الأراضي السورية، بخلاف الادعاء التركي بانها كانت في الأجواء التركية عندما أسقطت.
جاء اليوم التالي فإذا بالرئيس الروسي بوتين قد خرج بأحلام جديدة اكتشف خلالها ان أردوغان يقوم ومنذ سنوات بسياسة أسلمة في تركيا، وان بوتين يطالب العالم بالتنبه إلى خطورة هذا الرجل، وكانه لم يكن يعرفه من قبل وهو القائل في حقه:»إن أردوغان رجل دولة صادق ويثق به وبشجاعته»، وقد دعاه قبل شهر واحد لمشاركته في افتتاح مسجد موسكو الكبير بتاريخ 23/9/2015، أي قبل أسبوع واحد من شن الحرب الروسية على سوريا، وهكذا وجد بوتين نفسه في حالة تناقض واضطراب في سياسته العدوانية ضد تركيا، وبالأخص في القرارات الاقتصادية التي يظن أنه يعاقب بها الاقتصاد التركي، بينما هو يعاقب بها نفسه وشعبه أكثر من عقوبته لتركيا وشعبها، ولذلك يخرج بوتين كل يوم بقرارات جديدة ويتوعد بتهديدات جديدة كما فعل في خطابه أمام المجلس الفيدرالي الروسي أثناء كلمته السنوية بتاريخ 3/12/2015، فقد جاء بأقوال تنم عن غير وعي بما يتخذه من تهديدات وقرارات، بادعائه أن خلافه مع القيادة التركية وليس ضد الشعب التركي.
وكأن بوتين وطاقمه السياسي وعلى رأسهم رئيس وزرائه ميدفيدف الذي تبادل معه ديمقراطية السيرك الروسي، بان يكون أحدهما رئيس الدولة والآخر رئيس الوزراء لأربع سنوات، ثم يبادلان أدوارهما فيكون رئيس الوزراء رئيس جمهورية ورئيس الجمهورية رئيس وزراء للتحايل على الدستور الروسي، واستغفال واضح للشعب الروسي، في حركة انتقال السلطة بطريقة تشبه دول العالم الثالث، التي تدعي الديمقراطية فتغير دستورها خلال ساعات من أجل شخص الرئيس.
إن الخاسر الأكبر من العقوبات الاقتصادية هي روسيا وشعبها، فهو فضلاً عن خسارته العسكرية والمالية والبشرية في سوريا، يريد أن يصرف الأنظار في روسيا إلى خسائر أخرى مع تركيا لتحميلها مسؤولية الحرب الروسية في سوريا، وما سوف ينتج عنها من دمار.
لقد أعلن بوتين في خطابه الفيدرالي أنه لن يقوم بعمل عسكري يستعرض فيه عضلاته، أي انه يريد ان يستعرض عضلاته الاقتصادية والتهديدات السياسية لأردوغان بالندم، ولكن نفيه للخطوات العسكرية ليست لأنه لا يريد القيام بذلك بل لعجزه عن أي فعل عسكري ضد تركيا، بعد ان استبقت الإدارة الأمريكية بوزارة الخارجية والدفاع البنتاغون تكذيب المزاعم الروسية بان طائراتها لم تنتهك الأجواء التركية، فأكدت واشنطن ان الرواية التركية أصدق من الرواية الروسية اولاً، ووصف بيان للبنتاغون بتاريخ 2/12/2015 أن المزاعم الروسية بوجود علاقة تعاون بين الحكومة التركية وتنظيم الدولة في مسألة بيع النفط السوري والعراق هي تهم كاذبة أولاً، وسخيفة ثانياً، وخرقاء ثالثة، وفي ذلك أن الحجة الروسية لمحاربة الدولة التركية باطلة، وبالتالي فإن حلف الناتو لن يقبل الأكاذيب الروسية حول تعاون الحكومة التركية مع تنظيم الدولة، ولن تقبل ما يمكن ان يترتب عليها من مزاعم روسية، بادعاء ضرورة محاربة الدول التي تدعي محاربة الإرهاب بينما هي داعمة له، وبذلك فإن أمريكا والناتو يقفون إلى جانب الموقف الروسي، ويطالبون بضرورة حل الخلاف الروسي التركي بالطرق الدبلوماسية، وهو الطريق الذي تحاول القيادة الروسية تاخيره وهي بحاجة له أكثر من الأتراك، بهدف استثمار الحادثة لأكبر مدى ممكن لتضليل الرأي العام الروسي عن فشل الخطة العسكرية في سوريا عسكريا، وبالأخص في انها عجزت عن تركيع المعارضة السورية المعتدلة والجيش السوري الحر، الذي أسرع القصف الروسي باستهدافه دون تحقيق أهدافه في فرض الحل السياسي عليه في مؤتمر فيينا، الذي أوشك على الفشل أيضاً، فبوتين سوف يفرغ غضب فشله في سوريا على ما لا يستطيع رده، فإذا فشل مع الأتراك فلن يجد غير الإيرانيين للانتقام منهم، وقد يكون العديد من الجنرالات الإيرانيين القتلى في الأشهر الأخيرة من أوائل ضحاياه، بمن فيهم قاسم سليماني الذي ذهب إلى بوتين شخصياً وأقنعه بالمهمة السهلة في سوريا!!
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس