أرنست خوري - العربي الجديد

تسود نزعة في الإعلام العربي عمومًا، والفلسطيني خصوصًا، إلى التعاطي مع اتفاق تطبيع العلاقات التركية ــ الإسرائيلية، إما باعتباره حدثًا عظيمًا يكاد يوازي تأميم قناة السويس، وكأن قطاع غزة تخلص من حصاره، وهو أمر غير صحيح طبعًا، أو فاجعة ناتجة عن "تخاذل تركي وبيع للقضية"، وكأن تركيا دولة عربية لديها أراضٍ محتلة من إسرائيل مطلوب منها إعلان الحرب عليها، بينما الدول والتنظيمات التي تدعي حمل همّ "إزالة إسرائيل" لم تشبع من قتل شعوبها باسم فلسطين من دون تحريك أي جبهة مع دولة الاحتلال، جريًا على القول الشهير من حافظ الأسد لبيار الجميّل: "ضع فلسطين على لسانك وافعل ما شئت".

نظرًا لحدّة الانقسام الإقليمي بين محورين، أحدهما يناصب القيادة التركية العداء، وآخر يعتبرها أبرز ما أنجبته الأمة، يفوت البعض أن الاتفاق التركي ــ الإسرائيلي، الذي أبرم بعد سنوات ثلاث من المفاوضات السرية والعلنية، وقد ضغطت في سبيله دول عظمى، هو أولًا وأخيرًا عبارة عن وثيقة براغماتية بين دولتين وقعتاه بحسب ما يخدم مصلحتيهما السياسية والاقتصادية أولًا وأخيرًا. حتى بالنسبة إلى ما يتعلق بالشق الانساني الذي أنجزه الاتفاق بالفعل، للفلسطينيين، في غزة أولًا وفي الضفة الغربية رمزياً (المدينة الصناعية في جنين)، فهو يدخل ضمن نظرة القيادة التركية لبلدها ولدوره الإقليمي ولنفوذه المطلوب توسيعه من القطاع إلى الضفة، وهو ما يمكن أن يتحقق من خلال "اتفاق روما".

بعيدًا عن الخطابات الحماسية للرئيس رجب طيب أردوغان، لم تكن تركيا يوماً تدّعي أنها ترغب لا بإزالة إسرائيل، ولا بشنّ الحرب ضدها، حتى بعد مجزرة أسطول الحرية 2010 حيث سقط لها 11 قتيلًا في عمل حربي موصوف في المياه الدولية قبالة الشواطئ المصرية ــ الفلسطينية. أكثر من ذلك، التزمت تركيا، حتى في ذروة تصعيدها الدبلوماسي والاقتصادي ضد دولة الاحتلال، سقف القانون الدولي والأعراف الدبلوماسية (قوانين محاكمة جنرالات جيش الاحتلال واستدعاء السفير الإسرائيلي وسحب السفير من تل أبيب وتخفيض التمثيل الدبلوماسي وإلغاء مناورات عسكرية واتفاقات اقتصادية...). لكن ما جعل الكثير من العرب والفلسطينيين يتعاطون مع المواقف الصادرة عن القيادة وفئات واسعة من المجتمع في تركيا، ضد إسرائيل، على اعتباره "سلوكا نضاليا"، هو المستوى غير المسبوق من الانهيار العربي الرسمي والشعبي الحاصل لجهة القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل. انهيار لم تكن موجة ثورات 2011 سوى استثناء لم يدم أكثر من أشهر قبل أن تخبو المشاعر العربية ــ الفلسطينية من الساحات العربية مجدداً، إثر الانتصارات المتلاحقة للثورات المضادة.

غير أن أي قراءة هادئة لبنود الاتفاق الذي يتم التوقيع عليه رسمياً الثلاثاء، وبمجرد تذكُّر أبرز الملابسات التي تخللت وسبقت القطيعة التركية ــ الإسرائيلية، إثر جريمة مافي مرمرة، تسمح بالخلوص إلى اعتبار الاتفاق حمّال أوجه من النوع الذي يجعل تقييمه بأسود أو أبيض مستحيلاً. من جهة، حقق الاتفاق بالفعل مكاسب للفلسطينيين، فمن شأنه، لو تم تنفيذه، أن يخفف من الحصار الإسرائيلي لا المصري على غزة، والمعاناة الرهيبة الناتجة منه والتي حوّلت القطاع إلى أسوأ مكان للعيش في المعمورة بحسب المعايير الدولية. فإعادة إعمار القطاع ليس تفصيلًا بالنسبة للغزيين. كذلك أزمة المياه وحلّها عبر إنشاء محطات لتحلية مياه البحر، وبناء مستشفيات وإيصال الأدوية والأطباء، كلها أساسيات لا أولويات تتقدم عليها في حياة الفلسطينيين المحاصرين، حتى وإن كانت مصر ودول عربية أخرى ستظل تنظر بسلبية إلى تنامي الدور التركي فلسطينياً وربما التعاطي معه كأنه منافس أو بديل للدور المصري الذي كان ولا يزال، منذ عدوان غزة الأخير على الأقل، يتبنّى الرواية والموقف والشروط الإسرائيلية بلا أي تمايز "حيادي" حتى. وإن كان تخفيف الحصار عن القطاع وأهله، مصلحة فلسطينية سياسية بالمعنى غير المباشر للكلمة، فإنّ ما تضمنه الاتفاق من احتمالات أن تؤدي أنقرة دورًا ما مستقبلًا في ملف مفاوضات لإعادة جثث وجنود للاحتلال وقعوا بين أيدي المقاومة في عدوان 2014، إنما يعتبر مساهمة تركية سياسية مباشرة في الحؤول دون حصول عدوان جديد. أكثر من ذلك، فإنّ مدّ اليد التركية إلى الضفة الغربية، ولو رمزيًا، من بوابة تضمين الاتفاق ما يسمح ببناء مدينة صناعية في جنين، قد يكون عاملًا إيجابيًا، ولو بشكل غير جذري، بالنسبة للفلسطينيين. أما الانزعاج الصادر عن مسؤولي حركة "فتح" إزاء الاتفاق، فلا يفهمه كثيرون خارج إطار الحرص على احتكار بعض دول الخليج ومصر للملف الفلسطيني، من دون السماح بأي مساهمة تركية.

هذا فلسطينيًا، أمام الوجه الآخر من ميدالية الاتفاق التركي ــ الإسرائيلي، أي مصلحة تل أبيب منه، فتبدو بدورها كبيرة جدًا. اقتصاديًا، من النافل القول إن تأمين طريق تركي أقل كلفة من اليونان وقبرص لتصدير الغاز الإسرائيلي، يتقدم مصالح دولة الاحتلال. كذلك فإنّ استعادة الحرارة في العلاقة مع دولة بحجم تركيا، يشكل مكسبًا كبيرًا لبنيامين نتنياهو وحكام تل أبيب عمومًا. أكثر من ذلك، فإنّ التخلص من عبء الملاحقة القانونية لجنرالات الاحتلال بموجب القوانين التركية التي سيتم إلغاؤها، تطبيقًا للاتفاق الجديد، في مقابل 20 مليون دولار كتعويضات لذوي القتلى الأتراك في "مافي مرمرة"، يعتبر انتكاسة، ولو رمزية، للحالمين بحصول محاكمة حقيقية، يوماً ما، للمسؤولين الإسرائيليين عن الجرائم بحق الفلسطينيين والعرب عمومًا.

الاتفاق التركي ــ الإسرائيلي كان بالنسبة للفلسطينيين والأتراك، أفضل الممكن في الظروف الحالية. ويدرك متابعو ملف المفاوضات الطويلة، أن دولًا عربية أدت أدواراً مهمة لمنع تحقيق المزيد من المكاسب للفلسطينيين خصوصًا في ملفات بناء ميناء بحري تركي في غزة، ومطار... وهو ما عزّز الإصرار الإسرائيلي على الاكتفاء بهذا القدر من "التنازلات".

صحيح أنّ عودة العلاقات الممتازة بين الجيشين التركي والإسرائيلي خسارة غير هامشية بالنسبة للمتمسكين بحق مقاومة إسرائيل، إلا أن كثيرين يعرفون أنه نتيجة لحجم جريمة مافي مرمرة، وبناءً على ما تراكم لدى الأتراك خلال السنوات الست من القطيعة الإسرائيلية ــ التركية من مشاعر سلبية إزاء حكومة الاحتلال، يصعب وربما يستحيل أن يعود اسم تركيا في الشيفرة العسكرية الاستخبارية الإسرائيلية، هو "الميركافا" (فخر الدبابات الإسرائيلية)، على غرار ما كانت عليه قبل العام 2010 خصوصًا، وقبل الـ2002، تاريخ تسلم حزب العدالة والتنمية السلطة في تركيا عمومًا.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس