محمد سرميني - ترك برس
أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية في شهر آذار/ مارس على نشر قوات وآليات عسكرية لها في مدينة منبج السورية شمال شرق حلب، الخاضعة لسيطرة مجلس منبج العسكري، التابع لقوات سورية الديمقراطية الحليف الأبرز لواشنطن في سورية. وأعلن المتحدث الرسمي باسم البنتاغون جيف ديفيز في مؤتمر صحفي في 6 مارس/ آذار الجاري أن الهدف من نشر القوات هو "الردع ولإبقاء التركيز منصبًا على قتال تنظيم داعش"[i].
ويأتي هذا التحرك العسكري الأمريكي بعد احتدام الضغوط التركية لإجبار "وحدات حماية الشعب" – وهي ميليشيا سورية- كردية تُعدّ امتدادًا لحزب العمال الكردستاني في تركيا– على مغادرة مدينة منبج التي دخلتها في يوليو/ تموز 2016 وطردت منها تنظيم داعش بعد شهر تحت مظلة "قوات سورية الديمقراطية" وبغطاء جوي ومساندة عسكرية من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.
وفي تحرك آخر، كشفت واشنطن في 9 مارس/ آذار عن نشر الجيش الأمريكي وحدة "المدفعية" من قوات المارينز الأمريكية قرب مدينة الرقة السورية، وأوضحت صحيفة واشنطن بوست أن القوة الجديدة هي عبارة عن وحدة "المارينز 11" المزودة ببطارية مدفعية يمكن لها إطلاق القذائف من عيار 155 ملليمتر، من مدافع هاوتزر. وشملت القوة أيضًا وحدة تدخل سريع وفريق الهبوط من الفوج الأول[ii].
كما قامت الإدارة الأمريكية الجديدة بمنح القوات الأمريكية في سورية مرونة أكبر في عمليات الاستهداف التي تقوم بها، الأمر الذي أدّى إلى ارتفاع كبير في أعداد الضحايا من المدنيين في ضربات التحالف خلال الأشهر الماضية. وقد كانت قواعد الاشتباك التي تحكم عمليات الطيران الأمريكي في سورية من قبل تتطلّب التدقيق بشكل كبير في الأهداف التي يتم استهدافها، وضرورة تجنّب إصابة المدنيين ما أمكن[iii].
ويؤشّر التغيّر في قواعد الاشتباك المعتمدة إلى تغيّر في الاستراتيجية الأمريكية في سورية. وهو ما يحاول هذا التقرير استقراءه، من خلال استعراض المعطيات، وعرض المحددات، واستقراء السيناريوهات المتوقعة لهذه الاستراتيجية.
الوجود الأمريكي بسورية
البداية
أعلنت الولايات المتحدة لأول مرة إرسال جنود لها إلى سورية في إطار الحرب على تنظيم داعش نهاية أكتوبر/ تشرين الثاني 2015، وأعلنت إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، في وقت لاحق، إرسال 50 جنديًا من القوات الخاصة كدفعة أولى، لتقديم المشورة والتدريب والدعم اللوجستي وتسهيل التنسيق مع قوات التحالف الدولي. وفي 10 كانون الأول/ ديسمبر 2016 أعلن وزير الدفاع الأمريكي السابق آشتون كارتر عن وصول 200 جندي آخر.
ويبلغ عدد الجنود الأمريكيين في سورية قبل نشر القوة الإضافية في آذار/ مارس 503 جنود، وهو الحد الرسمي المقرّ سابقًا، ولكن المسؤولين العسكريين لديهم الصلاحية لتجاوز هذا الحد. وبلغ عدد القوات الإضافية التي تم إرسالها في آذار/ مارس 400 جندي[iv].
مناطق الانتشار والشركاء
تنتشر القوات الأمريكية في عدد من المناطق السورية، ويتركز انتشارها على مناطق سيطرة الجهات التي تعتبرها شريكة لها في الحرب على تنظيم داعش، وهي جهتان؛
الأولى قوات سورية الديمقراطية (قسد)، التي تقودها وحدات حماية الشعب الكردية YPG وتضم إلى جانبها بعض المجموعات العربية الصغيرة، وتنتشر في مناطق سيطرة ما يعرف بـ"الإدارة الذاتية"، وهي سلطة مدنية أنشأتها اوحدات حماية الشعب في مناطق سيطرتها شمال سورية،
والثانية إحدى فصائل الجيش الحر، وهو الفصيل الذي يحمل اسم "جيش سورية الجديد"، الذي ينشط في المنطقة المتاخمة لمثلث الحدود السورية – العراقية – الأردنية جنوب شرق سورية، ويسيطر على معبر "التنف" الحدودي.
كشفت تقارير صحفية لاحقاً عن إقامة الجيش الأمريكي قاعدة جوية له في منطقة الرميلان في محافظة الحسكة في أقصى شمال شرق البلاد، وهو ما لم تنفه واشنطن[v]، كما كشفت تقارير أخرى عن استخدام الجيش الأمريكي قواعد أخرى ولم يتسن التأكد من صحتها، لكن وصول عدد الجنود الأمريكيين في عموم سورية إلى 900 جندي حسب المعلن يرجح مثل هذه المزاعم.
تبدل المهام
اقتصرت مهام الجنود الأمريكيين قبل التطورات الأخيرة على إسداء المشورة والتخطيط العسكري والتدريب والتنسيق بين طيران التحالف الدولي والقوات الشريكة، لكن الانتشار الأخير في منبج والرقة حمل مهام جديدة، ففي منبج كانت مهمة القوات المنتشرة "الردع"، أما في الرقة فمهمتها المشاركة الفاعلة في المعركة المرتقبة لدحر تنظيم داعش.
وبشكل عام فإنّ مهمّة القوات الأمريكية من الناحية العسكرية هي:
- الإشراف والتوجيه للقوات الموالية لها، وخاصة قوات سورية الديموقراطية، في معركتها مع تنظيم داعش.
- استعمال الأسلحة النوعية الخاصة، والتي لا يمكن تقديمها للقوات الحليفة، وخاصة مضادات الطائرات وأجهزة التشويش.
- تأمين الغطاء الناري الواسع للقوات الحليفة، حيث تستطيع مدافع هاوتزر إصابة أهداف على بعد 30 كم.
وإلى جانب المهام القتالية والعسكرية، فإنّ القوات الأمريكية تقوم بمجرّد وجودها في سورية بمهمّة الردع وفصل الحلفاء عن بعضهم البعض. فرغم الشراكة المعلنة بين القوات الأمريكية وقوات سورية الديموقراطية، إلا أنّ هذا الأمر لا يحوّل هذه الأخيرة إلى شريك استراتيجي يمكن للولايات المتحدة أن تتخلّى بسببه عن علاقتها الاستراتيجية مع تركيا، وفي نفس الوقت، فإنّ المشروع الأمريكي لإنهاء داعش في الرقة لا يسمح بفتح المجال لأنقرة لاستهداف قوات سورية الديموقراطية، على الأقل في الوقت الحالي وقبل انتهاء مهمتها الوظيفية.
ويشكّل الوجود الأمريكي في المنطقة ضمانة لكلا الطرفين، التركي والكردي، من عدم استهداف أحدهما لمصالح الآخر. كما أنها ستشكّل ضمانة للسكان المحليين من كرد وعرب بعدم حدوث عمليات انتقام أو استهداف على أساس عرقي[vi].
وقد عبّر الناطق باسم البنتاغون عن هذا الأمر بشكل واضح في معرض تعليقه على نشر قوات أمريكية خاصة في منبج، واعتبر أنها بمثابة "إشارة واضحة للردع"، وأن هذه القوات ستسعى إلى "طمأنة وردع الأطراف من مهاجمة أي أطراف أخرى غير داعش نفسها"[vii].
أزمة منبج
YPG شرق الفرات
دأبت تركيا منذ دخول وحدات حماية وحدات حماية الشعب (YPG)، والمصنفة لديها على قائمة الإرهاب، إلى منبج، على مطالبتها بالخروج منها والعودة إلى شرق نهر الفرات، ومطالبة الولايات المتحدة بالوفاء بتعهداتها في هذا الصدد، وكانت أنقرة قبل ذلك تعتبر عبور هذه القوات إلى غرب الفرات خطاً أحمر، خشية تحقق الاتصال الجغرافي بين كانتون عفرين الخاضع لسيطرة (YPG) وكانتون عين العرب كوباني، ما يُمهّد الطريق لقيام كيان كردي معادٍ لتركيا يفصلها جغرافيًا عن محيطها العربي ويضرب وحدتها الاجتماعية، لكنها تغاضت عن عبور القوات الكردية تحت ضغط وتعهد أمريكي بإخراجها من المدينة بعد تحريرها من "داعش" فورًا، بيد أن قوات سورية الديمقراطية التي تقودها الوحدات الكردية، وتُمثّل أغلب تشكيلاتها لم تغادر منبج، وعمدت إلى تشكيل ما عرف بـ"مجلس منبج العسكري" الذي قالت إنها سلمته المدينة وانسحبت منها، وهو ما نفاه المسؤولون الأتراك.
درع الفرات
ردت تركيا على هذه المماطلة بصورة غير مباشرة من خلال عملية درع الفرات التي أطلقها الجيش التركي في 24 أغسطس/ آب 2016 داخل الأراضي السورية بالاشتراك مع عدد من فصائل الجيش السوري الحر وبغطاء من التحالف الدولي لمحاربة "داعش"، بدءاً من جرابلس، وذلك لتحقيق هدفين معلنين، الأول طرد تنظيم داعش من منطقة شمال محافظة حلب، والثاني طرد وحدات حماية الشعب من منبج وما حولها إلى شرق نهر الفرات، وبعد تحرير قوات درع الفرات لمدينة الباب في 23 فبراير/ شباط الماضي توجهت نحو منبج.
لكن أنقرة أعلنت في 29/3/2017 وقف عملية درع الفرات، قبل يوم من وصول وزير الخارجية الأمريكي إلى أنقرة.
السيطرة على الباب
كانت قوات الأسد قد حاولت أن تسبق قوات درع الفرات إلى الباب من المحور الجنوبي، كما شكلت قوات سورية الديمقراطية مجلساً عسكرياً مخصصاً للباب وأطلقت عملية لتحريرها من المحور الشرقي، بهدف إفشال عملية درع الفرات برمتها وثنيها عن التفرغ لمنبج، لكن الطرفين فشلا في ذلك، لتتركز جهودهما بعد وقوع الباب في قبضة درع الفرات على تأمين منبج والعمل على صد وإعاقة الزحف التركي، بعدما أعلنت أنقرة أن هدف درع الفرات التالي هو منبج.
دخول قوات الأسد
حثت قوات الأسد الخطى نحو منبج من خلال الاستيلاء على الأراضي الخاضعة لسيطرة تنظيم داعش المحاذية للأراضي التي سيطرت عليها درع الفرات، في المنطقة الواقعة بين الباب ومنبج، ولم تلق قوات الأسد أية مقاومة معلنة من طرف تنظيم داعش الذي انسحب سريعاً، الأمر الذي أوصل قوات الأسد إلى مشارف منبج من جهة الجنوب الشرقي، ومكنها من التواصل الجغرافي مع قوات سورية الديمقراطية.
تسليم قرى لقوات الأسد
قامت "سورية الديمقراطية" بتسليم قوات الأسد عدة قرى تفصل بين منبج وبين قوات درع الفرات، وأعلن مجلس منبج العسكري التابع لها، في بيان صحفي بتاريخ 2 مارس/ آذار الجاري، أنه سلَّم "قوة حرس الحدود" التابعة لقوات الأسد المنطقة بناء على اتفاق مع روسيا بهدف تجنيبها "ويلات الحرب" وأيضاً "لمنع القوات التركية من فرض سيطرتها على المزيد من الأراضي السورية"[viii].
ورغم نفي وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو عِلم بلاده بهكذا اتفاق؛ فإن رئيس الوزراء التركي، في تصريحات صحفية بتاريخ 5 مارس/ آذار، لم يُبد رفض بلاده سيطرة قوات الأسد على منبج، لكنه طالب بمغادرة وحدات حماية الشعب المدينةَ على أية حال[ix].
نشر قوات أمريكية
في غضون ذلك، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون، في 6 مارس/ آذار، عن نشر قوة صغيرة من الجيش الأمريكي داخل مدينة منبج وحولها رافعة العلم الأمريكي فوق آلياتها، بهدف الحيلولة دون مهاجمة الأطراف الموجودة في المنطقة بعضها بعضاً، وقال المتحدث باسم البنتاغون جيف ديفيس: "لقد نشرنا قوات إضافية في مهمة هدفها الطمأنة والردع"، وأضاف أن القوات الأمريكية منتشرة "بشكل واضح للتأكيد على أن العدو تنظيم داعش طرد من منبج وأن لا حاجة لتقدم قوات أخرى لتحرير المدينة"[x]، في رسالة واضحة موجهة إلى أنقرة وقوات درع الفرات، وبالنظر إلى أن عملية تسليم أراضي من منبج لقوات الأسد جرت في إطار اتفاق مع روسيا لحماية وحدات حماية الشعب من درع الفرات، فإن الموقف الروسي بدا متماهياً مع الموقف الأمريكي في نشر قوة عسكرية برية ورفعها للأعلام الأمريكية في منبج ومحيطها وهو التحرك الذي يحمل نفس الهدف، وهو ما يشير إلى اتفاق روسي – أمريكي ضمني على منع قوات درع الفرات من التوسع شرقاً.
قمة أنطاليا بدون نتيجة
وبعد الإعلان عن وجود القوة الأمريكية في منبج، عُقدت في مدينة أنطاليا التركية قمة عسكرية ثلاثية ضمت رؤساء أركان تركيا وروسيا والولايات المتحدة، بتاريخ 7 مارس/ آذار، في مسعى، حسبما أعلن مسؤولون من الدول المشاركة فيه، للتنسيق بين قواتها في سورية، واعتبر يلدريم في تعليق له مع بدء الاجتماع أن هدفه الرئيسي بحث التوصل إلى تنسيق، وكذلك استهداف العناصر الإرهابية التي تشكل تهديداً مشتركاً، وذلك بهدف منع وقوع اشتباكات غير مرغوب بها.
وفي تصريح يخفف من اللهجة التركية الصارمة فيما يتعلق بمنبج، قال يلدريم إن بلاده لن تقوم بعملية عسكرية في منبج "إلا بالتنسيق مع روسيا والولايات المتحدة"[xi]، وهي تصريحات كانت تهدف على الأرجح إلى استمالة واشنطن وانتزاع اتفاق منها بشأن الرقة حيث تواجه معضلة إرضاء الحليفين التركي والكردي معاً.
وتُشير التصريحات التركية الرسمية التي واكبت قمة أنطاليا العسكرية وتلك التي اعقبتها إلى أن الاجتماع لم يفض إلى أي نتيجة، فيما يتعلق بمنبج، أو حتى بالرقة التي لم تحسم واشنطن قرارها بعد بشأن القوات البرية التي ستعتمد عليها للسيطرة على عاصمة تنظيم داعش. فقد جدد وزير الخارجية التركية مولود تشاووش أوغلو في 9 مارس/ آذار، في تصريحات صحفية في أنقرة، تأكيد نية بلاده استهداف وحدات حماية الشعب (YPG) في منبج، مشدداً على أن قوات الجيش التركي ستتجه نحو منبج[xii]. كما أشار رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم إلى أن الولايات المتحدة "قررت على ما يبدو الاستعانة بقوات YPG في معركة الرقة" مضيفاً أن ذلك "سيكون له تداعيات على العلاقات التركية الأمريكية"[xiii].
محددات الحضور الأمريكي العسكري
لفهم أبعاد الانتشار العسكري الأمريكي الجديد في سورية، سواء في منبج أو في الرقة، لا بد من استعراض الملفات التي قد تكون مؤثرة بقرار البيت الابيض نشر المزيد من القوات في سورية ومنحهم مهمة جديدة ضمن استراتيجية سياسية وعسكرية جديدة.
تعمل الولايات المتحدة حالياً في سورية على 3 ملفات مرتبة بحسب أولويتها لدى إدارة ترامب؛ وهي معركة الرقة ودحر تنظيم من معاقله، والمناطق الآمنة وقانون سيزر، واستكمال فرز المعارضة السورية المسلحة بين معسكري الاعتدال والإرهاب، بالإضافة إلى ملف العلاقة مع روسيا، وتقاسم النفوذ معها في سورية والمنطقة.
1. معركة الرقة
تُولي الإدارة الأمريكية الحالية في سياستها تجاه سورية أولوية كبرى لمحاربة تنظيم داعش ودحره عسكرياً، وتتمثل الخطوة الأهم في هذا الصدد في معركة الرقة التي يجري التحضير لها على قدم وساق، ولكن لم تحسم واشنطن قرارها بعد بشأن هوية القوات البرية التي ستشارك في المعركة بغطاء وإسناد واسع من التحالف الدولي.
وكان ترامب بعد دخوله البيت الأبيض طلب من وزارة الدفاع البنتاغون وضع خطة لتسريع الحرب على تنظيم داعش في سورية والعراق وأمهلها شهراً، وصدرت خلال تلك المدة تصريحات لمسؤولين عسكريين تتحدث عن ضرورة تغيير الاستراتيجية القديمة، التي كانت تقوم على الاعتماد الكامل على قوات برية محلية والاكتفاء بمهام المشورة والتنسيق والغطاء الجوي، إلى استراتيجية جديدة تقوم على نشر قوات أمريكية برية للمشاركة الفاعلة في المعركة، وأعلنت شبكة CNN الأمريكية في 16 فبراير/ شباط أن البنتاغون يدرس نشر قوات أمريكية في سورية للمشاركة في معركة الرقة[xiv]. وجاء نشر وحدة المدفعية من المارينز في الرقة كدليل على توجه البنتاغون نحو هذه الاستراتيجية واعتمادها من قبل ترامب.
ويحتاج ترامب بشكل كبير إلى هزيمة داعش في مدينة الرقة ثم مدينة الموصل، حيث أن هذه الهزيمة سوف تمنحه الإنجاز الأساسي الذي سيطبع مرحلته، وسيكون هذا الإنجاز الأكثر سهولة مقارنة مع وعوده الانتخابية الداخلية، وهي الوعود التي يبدو أنه سيواجه مصاعب داخلية حقيقية في تحقيقها أو حتى في تحقيق أجزاء منها.
2. الموقف من تركيا
إذا كانت الإدارة الأمريكية حسمت قرارها بشأن نشر قوات برية لتسريع عملية طرد تنظيم داعش من الرقة فإنها لم تحسم قرارها بعد بشأن الاختيار بين مشاركة قوات من الجيش التركي في العملية، أو قوات "سورية الديمقراطية"، نظراً لأن أياً من الجانبين لا يقبل القتال إلى جانب الآخر. ولم تتمكن واشنطن وأنقرة من التوصل إلى تفاهم بهذا الخصوص، رغم قيام كل من وزيري الدفاع والخارجية الأمريكيين بزيارة أنقرة خلال الشهرين الماضيين.
وكانت مشاركة القوات التركية تبدو أنها سيناريو مرجح أمريكياً في البداية من خلال توافد القادة الأمنيين والعسكريين إلى أنقرة لبحث كيفية التعاون بشأن المعركة، إلا أن تركيا اشترطت استبعاد "سورية الديمقراطية" من المعركة، وهو ما لم يحظ بموافقة أمريكية، بل يبدو أنه خيار غير مرغوب به في واشنطن. ورغم أن واشنطن صرحت مراراً أنها لا تزال تدرس خياراتها في هذا الصدد فإن اعتماد نشر قوات برية لها في الرقة يرجح فكرة استغنائها عن الدور التركي.
3. المناطق الآمنة
صادق الكونغرس الأمريكي في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي على قانون لحماية المدنيين في سورية المعروف باسم "سيزر"، وهو قانون يعترف بارتكاب الأسد لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ويدعو الرئيس الأمريكي الجديد إلى إنشاء مناطق آمنة ومنطقة حظر جوي لحماية المدنيين السوريين، ومعاقبة الأسد وداعميه، ويمهل البيت الأبيض مدة 3 أشهر لوضع خطة لإنشاء المناطق الآمنة وفي حال تجاوز المهلة يقوم الكونغرس بوضع الخطة.
سارع ترامب إلى تطبيق القانون التشريعي بتكليف وزراتي الدفاع والخارجية بوضع الخطة في مهلة من 3 أشهر وهي لا زالت قيد الإعداد، وفي حال اتخذ البيت الأبيض قراراً بإنشاء المناطق الآمنة فإنه من المتوقع أن يكون للقوات الأمريكية العاملة في سورية مهام أخرى تتعلق بشكل أو بآخر بفرض هذه المناطق.
4. العلاقة مع روسيا
يمثل الوجود الأمريكي المباشر على الأرض في المنطقة الشرقية تأكيداً لتقاسم النفوذ بين موسكو وواشطن في سورية، فرغم أن الطيران الأمريكي يتحرك بحرية في هذه المنطقة، واستمر في ذلك حتى بعد إعلان موسكو تعليق الاتفاق المشترك بين الطرفين بهذا الخصوص بعد استهداف مطار الشعيرات، إلا أن الوجود العسكري على الأرض ولو بشكله الرمزي يؤكّد السيطرة الأمريكية هناك، كما يثبت الخيارات الأمريكية للحل وتوزيع النفوذ في هذا الجزء من سورية.
وترتبط أدوار الوجود العسكري الأمريكي في سورية بشكل مباشر بالعلاقة مع روسيا، حيث يمكن أن تتوسع هذه الأدوار غرباً وجنوباً في حالة التوصل إلى تفاهم مع موسكو، كما ترتبط الأدوار المستقبلية للقوات الأمريكية في سورية بنوع وشكل الاتفاق الذي يمكن أن يتم بناؤه أمريكياً وروسياً بخصوص سورية.
السيناريوهات المحتملة
يُعد عُمرُ الحضورِ العسكري الأمريكي في سورية قصيراً نسبياً، فهو لا يزيد على عامين ونصف، إلا أن تصاعده التدريجي، وتبدل مهامه بصورة لافتة، بالإضافة إلى تداخل الملفات التي توليها واشنطن عناية خاصة في سورية مع هذا الحضور العسكري يفتح الباب على توقع 3 سيناريوهات محتملة نوردها فيما يلي:
1. الاقتصار على قتال تنظيم داعش
في هذا السيناريو سيقتصر دور القوات الأمريكية زمانياً ووظيفياً على قتال تنظيم داعش، حيث ستقوم القوات المنتشرة حالياً والتي ستنضم إليها لاحقاً بأداء مهام واضحة ومحددة تتعلق بالحرب على التنظيم بغية دحره من الرقة وبعدها من دير الزور وبقية المناطق الخاضعة لسيطرة التنظيم مثل شرق حمص وتدمر وجنوب الحسكة، وهي سلسلة معارك قد تكون أهمها تلك التي ستشهدها مدينة الرقة، نظراً لرمزيتها بالنسبة للتنظيم وبالتالي للمعركة على التنظيم. ومن ثم يتوقع أن تكون المعارك في المناطق الأخرى بعد سقوط الرقة أكثر يسراً.
ولا يتوقع لهذه المعارك أن تنتهي قبل عام على الأقل من انطلاق معركة الرقة. ومن البدهي أن لا تغادر القوات الأمريكية أو يجري تقليصها قبل إخراج التنظيم من سورية بشكل كامل. وبعد ذلك يقوم الجيش الأمريكي بسحب وحداته القتالية ويبقي عدد محدد للقيام بمهام استشارية.
ورغم أنه لا يزال من غير المؤكد أن تسير عملية الرقة وما بعدها بطريقة سلسة إذا فشلت الإدارة الامريكية في إدارة أزمة الشركاء والتخير بين تركيا وقوات "سورية الديمقراطية"، ورغم ضبابية مسار التسوية السياسية ما يعني عدم وضوح في التوقعات، فإن هذا يبقى سيناريو متوقعاً بيد أنه غير مرجح.
2. مهام جديدة
في هذا السيناريو تقوم القوات الأمريكية بإضافة مهام جديدة بعد إنهاء وجود تنظيم داعش في سورية. ويرجح في هذا السيناريو أن يكون الإشراف على قتال هيئة تحرير الشام والمجموعات القريبة منها هو الهدف التالي.
لكن هذا السيناريو يرتبط ببقية المتغيرات في المشهد السوري، فالهيئة من طرفها تحاول سباق الزمن لتجنّب مثل هذا الاستهداف، كما أن استهداف الهيئة والمجموعات القريبة منها لن يكون وارداً قبل التوصل إلى حل سياسي شامل، وهو ما لا يبدو متاحاً في الوقت الراهن.
3. بقاء طويل الأمد بمهام متغيرة
أن تقوم القوات الأمريكية ببناء المزيد من القواعد العسكرية وتوسيعها وتجهيزها لمهام طويلة الأمد لا ترتبط بخروج تنظيم داعش من الخارطة، بالنظر إلى أن المرحلة التي تشهدها سورية تتسم بتقاسم النفوذ بين الدول الفاعلة في المشهد، ورجحان النظرة الجمهورية التقليدية في واشنطن التي تُملي ضرورة الاحتفاظ بنفوذ أمريكي دائم وملموس حول العالم، كما أن استحقاق المناطق الآمنة والحظر الجوي الذي يمكن أن يدخل حيز التنفيذ خلال أشهر قليلة ليس مرتبطاً بتنظيم داعش ولا حتى بتنظيم "هيئة فتح الشام".
ويمكن لقاعدة عسكرية أمريكية دائمة في المنطقة أن تمنح واشنطن تموضعاً استراتيجياً على المدى الطويل، حيث أنها ستستخدم في تلك المهام التي لا تستطيع قاعدة إنجيرلك القريبة القيام بها نظراً لمحددات السياسة الداخلية والخارجية التركية، كما أنها ستمنح واشنطن وجوداً مباشراً في قلب المشهد السوري، بما يُساعدها على إدارة مصالحها في المنطقة بأكملها بشكل مباشر.
كل تلك العوامل ترجح سيناريو بقاء القوات الأمريكية في سورية مدة طويلة، مع إضافة مهام أخرى لها ليست ثابتة بالضرورة بل تتبدل تبعاً للتبدلات الطارئة على عموم الملف السوري بجميع مستوياته.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس