جمال الهواري - خاص ترك برس
في العالم المتمدن وشبه الإنساني تعمل الحكومات على جلب الرفاهية والإستقرار لشعوبها، بينما في عالمنا العربي تسعى الحكومات والأنظمة الديكتاتورية والقمعية لصناعة الأزمات وإفتعال المشاكل والخلافات، للتغطية وصرف الإنتباه عن متطلبات الشعوب ولجعل ملفات الإقتصاد والتعليم والصحة والحريات العامة وحقوق الإنسان وغيرها تتذيل أولوياتها بحثاً عن الأمن وأملاً في التخلص من الإرهاب "النغمة السائدة والمفضلة للأنظمة القمعية"، والتخويف من مصير مؤلم ينتظر من لم ينضم لركب المحاربين له، وتشعر المواطن وهو يتابع الأخبار أن المنطقة قد تحولت إلى ساحة حرب شعواء تُسْتَعرض فيها أحدث طرق القتل والتعذيب والقمع والتهجير والتشريد "وتلك حقيقة"، وأنه مُعَرض لنفس المصير لو حاول الخروج للمطالبة بحقوقه والثورة ضد النظام، ولكن تلك الأنظمة تميع الحقيقة وتزيفها كون السبب الحقيقي لما يحدث هو تجبر أنظمة تلك الدول على شعوبها وحرمانها من أبسط حقوقها الإنسانية.
بدايةً لست من المقتنعين بأن هناك ما يمكن ان يطلق "سياسة" بمفهوميها الأكاديمي والشعبي في معظم بلدان وطننا العربي العامر بالتخبط العارم على كافة الأصعدة والمستويات خصوصاً في الأونة الأخيرة، ومع ما طرأ من مستجدات أو بمعنى أدق "أزمات" و"نزاعات" على الساحة العربية من المحيط إلى الخليج.
تحول الواقع السياسي العربي من كون السياسة هي "فن الممكن" و"التعايش المشترك" و"المصالح المتبادلة" إلى نهج استئصالي قمعي سلطوي، في ظل جو مشحون بالنزاعات والحروب بشقيها "أهلية" أو بين "دول وتحالفات"، وغارق في مستنقع من المشكلات بشتى أنواعها وتغطيه سحابة قاتمة تمطر سيلاً من الأزمات الداخلية "بين طوائف الشعب الواحد" والأزمات الإقليمية "بين دول الجوار"، ولا أتحدث هنا عن الحكومات فقط بل الشعوب أيضاً.
ثورات الربيع العربي والحالة المروعة التي آلت إليها بلدانه جميعاً،إنقلاب عسكري دموي في مصر وحرب ضروس تدور رحاها في سوريا واليمن وصراع متشابك في ليبيا ومشاكل داخلية في"تونس"، وما تلاها من أحداث وصولاً للأزمة الخليجية وحصار قطر"أحد أهم أسبابه هو وقوفها بجانب الشعوب المغلوبة على أمرها وإنحيازها للإنسان"، وما يحدث في العراق من أزمات وصراعات داخلية متوالية، وقضية العرب المركزية "فلسطين"، والتي تراجع الحديث عنها ناهيك عن الإهتمام بها، كل تلك الأحداث أفرزت لدى شعوب المنطقة حالة فريدة من الإلحاد السياسي نظراً لما تعانيه ووصلت إليه من انقسامات على أرض الواقع وحتى في العالم الإفتراضي "عالم الإنترنت وشبكات التواصل الإجتماعي".
ومما أسهم في نمو تلك الحالة حلم التحرر والتخلص من الأنظمة الإستبدادية والقمعية والذي تكسر وتحطم على أرض الواقع المرير بعد نشوة الإنتصار الواهن والوجيز لإرادة الشعوب مع إنطلاقة موجات الربيع العربي، والذي انتكس وأصبح في مرحلة "الشتاء القارص" بردة فعل سياسية وعسكرية من دول وأنظمة في المنطقة، وبرعاية دولية "أمريكية وأوروبية وروسية" وبمباركة "صهيونية" رأت أن أفضل سياسة يمكن انتهاجها في المنطقة وتمكنها من حصد المكاسب بشتى أنواعها "سياسية واقتصادية" بجانب الحفاظ على أمن الكيان الصهيوني "الطفل المدلل للغرب"، هي العمل على نسف أسس التعايش المشترك عبر استثمار الخلافات العرقية والطائفية والمذهبية في العالم العربي، وألا تكون هناك حياة سياسية يُمكنها استيعاب وجهات النظر المختلفة بين مكونات الشعب الواحد وعلاقات متوازنة بين الدول العربية وبعضها البعض.
لقد أثرت الإنتكاسة التي منيت بها ثورات الربيع العربي بدرجة كبيرة في إصابة شعوبه بما يشبه اليأس المخلوط بالقهر، خاصةً من هم في مرحلة الشباب وتشتت الغالبية العظمي منهم في إتجاهات عدة ومتضادة تماماً وهم يرون دولاً غرقت في بحور من الدماء، وأخرى أنهكتها الخلافات، وثالثة تعاني من التفتيت والتقسيم، ورابعة سحقتها الإنقلابات، وخامسة تحول شعبها لما يشبه الأيتام على مائدة اللئام.
هناك من فقد الأمل في الوصول لمجتمع ديمقراطي حر يكفل الحقوق والحريات وتحولوا إلى البحث عن سبيل للهروب من هذا الواقع وبأي وسيلة كانت لمغادرة دولهم التي ثاروا لأجلها وتحول الكثيرون منهم إلى كتلة من الغضب والسلبية في آن واحد، أو رقم في طابور المنتظرين للهجرة بشتى أنواعها أو سائرين في ركب اللجوء والهجرة غير الشرعية بكل طرقها الخطرة ودرامية ما يحدث خلال رحلتها المجهولة النهاية والنتائج في آن واحد أو طابور المعتقلين خلف القضبان بتهم تبعث على الأسى المكتسي بالسخرية المُرة.
وهناك من أصيبوا بردة فعل عكسية غاضبة دمرت بداخلهم كل أمل في حدوث تغيير في الأنظمة القمعية وسببت الإنتكاسة وعودة تلك الأنظمة بطريقة أعنف وأشد قسوةً وإجراماً من السابق في إنسلاخهم وتدمير الإنتماء للوطن من داخل الكثيرين شيئاً فشيئاً، بعد رؤية أنفسهم قد أصبحوا غرباء ومنفيين ومغيبين داخل أوطان ظنوا أنها قد أصبحت أوطانهم فعلياً بعد النجاح المبدأي والجزئي والقصير للربيع العربي.
وهناك من تحولوا من شباب ثائر يحلم ببناء دولته إلى مقاتلين في صفوف القوى المتحاربة على أرض الوطن نفسه ووجدوا أنفسهم يساهمون في تدميره، حتى لو كان في صفوف القوى التي تحارب لأجل الحرية ففي المحصلة النهائية كل رصاصة بندقية تخرج أو قذيفة مدفع تُطْلَق تزهق في طريقها روحاً أو تنسف منزلاً أو منشأةً وتخطو بالوطن خطوةً أخرى في طريق الضياع والإنهيار "مع الفارق الأخلاقي والإنساني بين من هم في صف الشعوب وبين من يقاتلون نيابةً عن كفلائهم في الشرق والغرب".
ولا أتحدث هنا عن هؤلاء المنتمين لتلك الطبقة المخملية المنفصلة عن الواقع المرير الذي تعانيه الغالبية العظمي من شعوب الربيع العربي، ففي أي مجتمع توجد هناك طبقة تستطيع القول أنها منفصلة تماماً عن هذا الواقع بل أجزم أنها لا تراه وتحسبه خيالاً فهي لا تعاني من أي نقص يشتكي منه الآخرون، بل ترى في تغيير تلك الأنظمة القمعية تهديداً مباشراً لها وتدميراً لنمط حياتهم المستمد استقراره ورفاهيته من تلك الأنظمة، فمن الطبيعي أن تحارب وتضحي بالغالي والنفيس من أجل استمراريتها.
المضحك المبكي في حالتنا السياسية العربية الفريدة من نوعها أن الحكومات القمعية تساندها الدول الغربية"الديمقراطية إسمياً مع غير شعوبها"، وتمدها بالسلاح وتمنحها الغطاء السياسي والقانوني ونفس تلك الدول تنظر إليها الشعوب الثائرة أملاً في مساعدتها لنيل حريتها والتخلص من طغاة متجبرين ساموا شعوبهم القهر واذاقوها الويلات، لينطبق علينا المثل القائل "كالمستجير من الرمضاء بالنار".
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس