د. سمير صالحة - المدن
برر الرئيس الاميركي دونالد ترامب قراره بنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس المحتلة والاعتراف الرسمي بالمدينة عاصمة لإسرائيل بأنه سيطوي صفحة عقود من السياسة الأميركية المترددة حيال اسرائيل لأن القدس لطالما كانت عاصمة للدولة العبرية ولان خطوة بهذا الاتجاه " ستدعم السلام في المنطقة " .
ترامب وشركاؤه اثاروا بقرارهم هذا موجة واسعة من الاستنكار المحلي والاقليمي والدولي وسيتحملون حتما مسؤولية اشعال فتيل الانفجار مجددا في فلسطين المحتلة لكنهم قد يكونوا أيضا قدموا للعالم فرصة لا تعوض هي انكشاف سياسة الادارة الجديدة للبيت الابيض وخريطة الطريق التي تطرحها لتسوية وانهاء الصراع العربي الاسرائيلي .
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي لا يتوقف يوما عن مهاجمة اميركا وسياساتها الاقليمية خصوصا في سوريا والعراق والذي استطاع بصعوبة تجميد توتر علاقات بلاده مع اسرائيل التي تراجعت في العقد الاخير بسبب القضية الفلسطينية كان في مقدمة من تحركوا ضد القرار مبديا استعداده لهدم جسور الهدنة مع اسرائيل واضرام النار بسفن العودة في مواجهته مع الولايات المتحدة عندما قال" قرار ترامب لاغ وباطل أمام الضمير البشري والقانون والتاريخ " .
أردوغان الذي يستفيد أيضا من دعم الأحزاب التركية له في بيان مشترك أصدرته في" البرلمان التركي يرفض بشكل قاطع قرار ترامب، ويعتبره أمراً غير مقبول على الإطلاق " ، كان أول ما فعله هو توجيه نداء مفتوح كرئيس للدورة الحالية لقمة منظمة التعاون الإسلامي إلى الرأي العام العالمي يحدد فيه استراتيجيات التحرك التركي للرد على القرار الاميركي ، وهو يعرف ان ما يفعله سيكون مكلفا على مسار ومستقبل علاقات انقرة بواشنطن وتل ابيب . " القدس هي خط أحمر بالنسبة لتركيا والمسلمين .. لن يتحقق السلام للجميع إلا مع انتهاء الاحتلال الإسرائيلي للقدس الشرقية والضفة الغربية وغزة وحتى يتسنى للفلسطينيين العيش بحرية في وطنهم .. على الدول التي لم تعترف بالدولة الفلسطينية حتى الآن، أن تتخذ هذه الخطوة المهمة والملحة من أجل تحقيق التوازن الذي من شأنه أن يحفظ الحس السليم والعدالة في المنطقة .. وهذا القرار سيزيد من مساحات التوتر ويعمق من الصراعات بسبب الأهمية الرمزية والدينية للقدس " .
اردوغان سارع كرئيس للدورة الحالية لمنظمة الدول الاسلامية للدعوة الى اجتماع استثنائي عاجل في اسطنبول مراهنا على وقوف دول اسلامية كبرى الى جانبه في المواجهة مثل ايران وباكستان واندونيسيا وماليزيا تحسبا لاحتمال غياب التمثيل العربي الرفيع من مصر والسعودية وبعض دول الخليج التي قد لا تريد منحه مثل هذه الفرصة لتصدر الصورة التاريخية على ضفاف البوسفور .
تحرك الرئيس التركي لوضع نفسه في فوهة المدفع كما فعل خلال الاعتداءات الاسرائيلية على غزة وحادثة " ون ميونيت " ومهاجمة اسطول الحرية في عرض المتوسط، يغضب البعض من الذين يرون في ذلك مزايدة على مواقفهم وعملية محاصرة لهم أمام شعوبهم قبل أن تكون تستهدف اسرائيل واميركا، وتعرقل تفاهماتهم من وراء الستار لصناعة تسوية تخرجهم من ورطة الملف الفلسطيني الذي يطاردهم منذ عشرات السنين حتى ولو كان الخيار التوقيع لترامب هذه المرة على هذا الانتحار .
ما سيثير غيظ البعض ايضا اعلان الرئيس التركي انه سينسق خلال عملية التحرك والرد مع نظيره الروسي ، وهي رسالة تركية متعددة الجوانب تلتقي عند نقطة أن انقرة ستتعاون بعد الان مع شريكها الجديد ضد واشنطن لمنعها من محاولة التفرد في صناعة المشهد الاقليمي كما تشاء ، خصوصا في التعامل مع ملفات تراجعت فيها السياسة الاميركية امام الزخم الروسي والايراني والتركي كسوريا والعراق ولبنان .
"أنقرة قد تبلغ موسكو أن واشنطن عبر قرار من هذا النوع ارادت قطع الطريق على مشروع روسي طرح قبل أشهر يشمل تحرك موسكو لاقناع الجانب الفلسطيني بقبول الادارة على شرق القدس كعاصمة لفلسطين مقابل تسليم غربها الى الجانب الاسرائيلي . واحتمال بروز قناعة اميركية ان الخطة الروسية نوقشت مع انقرة وطهران وحصلت على دعم مقابل قبولها من القيادات الفلسطينية .
اردوغان على قناعة ان موسكو لن تتخلى عنه هنا لأن ما يقوله ويفعله ترامب هذه المرة يتعارض مع مصالح موسكو الشرق أوسطية ، حيث يراهن على معادلة الزام الجميع بقبول ما يقوله ويريده في صفقة استباقية من هذا النوع عقدها مع البعض أو التلويح باضرام النار في توازنات المنطقة ليخرج الجميع خاسرا بوقوع الانفجار الاقليمي.
تنسق انقرة مع موسكو الان في خطوة تحريك مجلس الامن الدولي ضد الخطوة الاميركية وسيكون الكرملين سعيدا جدا اذا ما لجأت واشنطن لحق النقض لاي قرار ادانة او تعطيل ما لا يناسبها لفقدان المزيد من الاعتبار أمام الراي العالمي .
وتنسق انقرة مع ايران في المواجهة هذه المرة لأنها تدرك حاجة طهران لها أمام التصعيد الاميركي المتزايد ضدها في الخليج او الحدود اللبنانية – الاسرائيلية فترامب مغامر مقامر لن يتردد في اشعال الفتيل هناك أيضا طالما انه هو الذي سيخرج منتصرا أمام خسارة الجميع .
يدرك أردوغان ان الرئيس الاميركي ومن يدعمه يراهنون على استسلام الرئيس الفلسطيني امام هذا المشروع والزام حماس القبول به كخيار لا بديل له مستفيدين من التراجع والتفكك في المواقف والسياسات العربية . والاعلام التركي يطرح العديد من الاسئلة الان : مايك بنس نائب الرئيس الاميركي سيتوجه إلى الشرق الأوسط خلال الأيام القليلة المقبلة هل ستكون انقرة بين العواصم المدرجة على برنامج تحركاته ؟
هل قرار ترامب يندرج في اطار الجهود التي يقوم بها صهره جاريد كوشنر لتقريب وجهات النظر بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي ؟
وزير الخارجية الاميركي تيلرسون يقول أن هذا القرار اتخذ بعد التشاور مع " كثير من الأصدقاء والشركاء والحلفاء " تركيا حتما ليست بينهم فمن هم هؤلاء ؟
استقبال الرئيس التركي للعاهل الأردني في انقرة خلال الساعات التي كان ترامب يضع اللمسات الاخيرة على مسودة قراره حول القدس قد يعني الوصول الى قناعة تركية اردنية مشتركة ان هذا المشروع هو مؤامرة لا يمكن السكوت عنها والدليل قول أردوغان أن بلاده تدعم استمرار الوصاية الهاشمية الأردنية على الأماكن الإسلامية في مدينة القدس المحتلة، فيما أكد العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني على أن القدس ستبقى مفتاح الاستقرار في كل الشرق الأوسط .هل يدعو الملك الاردني بصفته رئيساً للدورة الحالية القمة العربية الرئيس التركي اردوغان مثلا للمشاركة في قمة عربية طارئة تعقد كرئيس لمنظمة الدول الاسلامية في هذه الفترة ؟
تركيا وجهت الدعوة لزعماء الدول الاسلامية للاجتماع يوم الاربعاء المقبل في اسطنبول وهي تقول أن
نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس قد يؤدي إلى إنهاء مساعي السلام والاستقرار في المنطقة، وأنه لا يحق لأحد التحكم بمصائر ملايين الناس إرضاء لأهوائه الشخصية . لكن تركيا أيضا تعرف ان ثمن مواقفها سيكون عبر الرد والاستهداف الاميركي لها في اضعف نقطتين : في سوريا مع مشروع الكيان الكردي المستقل على حدودها الجنوبية أولا ثم اخراج سموم "علبة الباندورا " في 24 نيسان / ابريل المقبل واحتمال اعلان ترامب التزامه بقرارات اميركية سابقة لم تنفذ لكنه يلتزم بها هذه المرة وهي موضوع قبول حصول المجازر الارمنية في العهد العثماني رسميا بعدما كان الرؤساء السابقون يرفضون الاقدام على خطوة من هذا النوع لتجنب القطيعة بين انقرة وواشنطن .
ترامب المنزعج من المواقف التركية الاخيرة على مستوى العلاقات الثنائية والملفات الاقليمية لن يتراجع عن استراتيجية المضي في التصعيد ضد انقرة وهو سيلعب الكثير من الاوراق التي يملكها في الداخل التركي وخارجه لمحاصرة حزب العدالة والتنمية وتضييق الخناق عليه في قضايا بينها الملف الكردي ببعده الاقليمي وورقة الكيان الموازي وقياداته المحمية اميركيا وملف رجل الاعمال التركي من اصل ايراني رضا صراف المعتقل في نيويرك والمتهم بخرق قانون الحظر الاميركي على ايران لكنه تحول من متهم الى متعاون يتهم شخصيات سياسية وبيروقراطية بتلقي الرشاوى منه لتسهيل عمليات تهريب الاموال الى ايران . ترامب لم يعد يهمه الاتصال بأردوغان والتنسيق معه والاصغاء الى ما يقوله في قضايا اقليمية لذلك هو لم يبلغه بخطوته هذه قبل الاقدام عليها كما فعل مع العديد من الزعماء والقيادات السياسية العربية .
الاولوية الان بالنسبة لحكومة العدالة والتنمية هي تنظيم القمة الاسلامية الاستثنائية في اسطنبول في 13 الشهر الجاري لناحية الدعوات والجلسات والبيان الختامي واستراتيجية التحرك الميداني للرد على القرار الاميركي لذلك هي تريد ان تكون الدعوات والمشاركة على مستوى القيادات السياسية في العالم الاسلامي وبحضور مكثف . لكن السؤال هو من سيمثل العديد من الدول العربية التي تعتبر علاقاتها متوترة مع تركيا مثل مصر والسعودية والامارات والنظام في سوريا ؟ هل تقع مفاجاة اخر لحظة ؟
ثم هناك مسألة اتخاذ قرارات جماعية ملزمة في القمة وكذلك التنسيق والدمج بين هذه القرارات وقمة عربية استثنائية تعقد للغاية نفسها . كيف ستكون صيغة البيان الختامي وقراراته واحتمالات حصول اصطفافات مشابهة لاخر قمة اسلامية عقدت في تركيا قبل عامين ووضعت ايران في قلب العاصفة وقتها ؟
الرد الاسرائيلي التصعيدي ضد انقرة كان مختصرا " انتهى العهد العثماني وعهد السلطنة وتل ابيب لا تتلقى تعليمات من احد " وهذا يعني أن التوتر سيستمر ويتصاعد بين تركيا واسرائيل ويتحول الى ازمة دبلوماسية.
ثمة قناعة تركية أن اللاءات الاسرائيلية هذه المرة هي التي تتقدم مثل لا للمساس بالمستوطنات ولا لعودة اللاجئين الفلسطينيين من الخارج ولا لانسحاب اسرئيلي الى حدود ما قبل العام 1967 . وان التوتر هو تركي أميركي قبل أن يكون تركياً اسرائيلياً .
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس