سهيل المصطفى - خاص ترك برس
لم تكن محافظة دير الزور وريفها في يوم من الأيام لقمة سائغة لكل المحتلين والطغاة في تاريخها الحديث، ولم يكن المحتلون الإنكليز والفرنسيون مطلع القرن الماضي سعداء ومرتاحين في استعمارهم لتلك المنطقة، ويشهد التاريخ أن دير الزور كانت كابوساً لكل من أراد فرض هيمنته عليها، ولهذا كانت السباقة في التحرر والتحرير من غزاتها السابقين ولن تشذ عن القاعدة مع غزاتها اللاحقين.
فقد شهدت الأيام القليلة الماضية محافظة دير الزور وريفها وباديتها الواسعة، تصعيداً غير مسبوق بحرب العصابات من قبل تنظيم الدولة "داعش" على قوات النظام وحلفائه الإيرانيين والروس، وتناقلت وسائل الإعلام الموالية لحزب الله أخبار تشييع العديد من قتلى الحزب في مناطق ريف دير الزور.
وقام تنظيم الدولة بتصعيد حرب العصابات التي تعتمد على الهجمات المفاجئة، واستراتيجية الكرّ والفرّ وعدم مسك الأرض، وإلحاق أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوف ميليشيات النظام وحلفائه الإيرانيين والروس، وليست هذه المرة الأولى ولن تكون الأخيرة، وهذا ما سيُحدث الفارق وقد يؤدي لتحولات مفاجئة قد تضطر ميليشيات النظام للانسحاب وإعادة التجميع في نقاط محصنة، كما فعلت في بداية الثورة في دير الزور وريفها حين استطاع الثوار تكبيد النظام وميليشياته خسائر غير مسبوقة في جنوده وعتاده، وتحرير أول وأكبر مساحة جغرافية في سورية واستطاعوا حصار قوات النظام في مساحة محدودة، وقد أدرك النظام حينها أنّ الحل الوحيد لكبح جماح خسائره هو الانسحاب وتجميع قواته في مطار دير الزور والمربع الأمني في ثلاثة أحياء في المدينة، وكانت هذه الخطوة من أذكى قرارات النظام الذي بدا حينها متخبطاً بقراراته الغبية والتي أوصلته لمرحلة اللاعودة، وأدخلت سورية في نفق مظلم لن تخرج منه في المدى المنظور.
وقد أخطأ كل من قال بأن النظام لم يبدأ بإعادة السيطرة على دير الزور قبل المحافظات الأخرى لأنها أقل أهمية، بل على العكس فدير الزور تقع في قلب الشرق الأوسط، وهي حجر عثرة أمام امتداد المشروع الإيراني الطائفي، ولن يمر الحلم الإيراني الطائفي من خلالها نحو البحر المتوسط مرور الكرام، وطبيعة سكانها متمردة غير منضبطة، وهي أكبر خزان بشري صافي العرق والمذهب، ناهيكم عن ثرواتها الزراعية والباطنية من نفط وغاز مُستَثمر وغير مُستثمر، وتستحوذ دير الزور على أكثر من 60% من ثروات سورية الباطنية ولهذا فإن أهميتها لا تقل عن العاصمة السياسية دمشق، والعاصمة الاقتصادية حلب، وقلب سورية وصلة الوصل بين الشمال والجنوب حمص، ولهذا فإن ما أَجّل عمليات النظام العسكرية في دير الزور، هو صعوبتها وتداخلها مع الحسابات والمصالح الدولية التي اتضحت لاحقاً لكل من غفل عنها.
و قد أثبتت التجارب غير البعيدة أنه لا توجد قوة في العالم يمكنها أن تفرض سيطرتها على البادية ومساحتها الواسعة، والتي لا تُعرف حقيقة ولاء ساكنيها وميولهم وطريقة تفكيرهم، والمستنقع الأفغاني خير شاهد على هذه النظرية.
وتتميز محافظة دير الزور بتماسك نسيجها العشائري والإثني و المذهبي، فهي عربية الدم سُنّية المذهب ولهذا يسميها العارفون و الخبراء بالكتلة الصلبة، كما أن لدى سكانها كمية سلاح هائلة وقد لعبت دوراً كبيراً بداية الثورة في تصدير الأسلحة للمحافظات الأخرى، كما صدرت مقاتلين روت دماؤهم تراب سورية من أقصاها إلى أقصاها.
كما كانت دير الزور رأس حربة في ما سُمّي بمشروع (بنغازي) سورية، لتكون بذرة لتشكيل الجيش الوطني السوري الحر، الذي كان مخططاً له أن ينطلق من الشرق لتحرير كل سورية بتمويل ذاتي (اقتصادياً وبشرياً) دون الاعتماد على أي أجندة خارجية، وتدخل دولي في القرار الوطني الحر، ولكن هذا المشروع أُجهض وبقي في أدراج مكاتب الائتلاف والحكومة المؤقتة بفعل فاعل على الرغم من أنه كان مشروعاً واعداً وناجحاً بكل المقاييس.
تاريخياً لم يستطع الطاغية الراحل "حافظ أسد" السيطرة عليها وكسب ولاء أبنائها، وعُرف عنها كراهية أبنائها لنظام "حافظ أسد" وكذا وريثه الطاغية "بشار أسد" لم ينجح فيما فشل فيه أبوه.
ولهذا سعى النظام لتشييع سكانها منذ ثمانينيات القرن الماضي، لصناعة سكان موالين للنظام مذهبياً، ولكنه لم ينجح في تغيير مذهب ودين السكان في الحرب وهو لم يفلح بذلك في أوقات السلم، ولا سبيل أمام النظام وحلفائه إلا اتباع سياسة الأرض المحروقة وتصعيد القصف الجوي لدفع سكان المنطقة للهجرة أو الموت تحت ركام منازلهم تأسياً بالموصل، وقد عمل النظام على هذا، ولم تتوقف مجازره وقصفه الوحشي، ولكن ما ظلم دير الزور إعلامياً أنها كانت في وقت سابق تحت سيطرة تنظيم الدولة المُحارب عالمياً وإعلامياً، وما زالت حاليا بعض مناطقها شرقاً في حوزة التنظيم.
وبعيداً عن نظرية المؤامرة من الواضح انخفاض وتيرة قصف التحالف الغربي لمناطق سيطرة تنظيم الدولة عما سبق، وتسعى أمريكا لاستثمار التنظيم في استنزاف خصومها الإيرانيين والروس في دير الزور، والتقاء المصالح لا يعني توافقاً واتفاقاً بين تنظيم الدولة وأمريكا، وكلا الخصمين يلائمهما ويسرهما هذا الوضع طالما أن المصلحة المؤقتة تتطلب ذلك، تنظيم الدولة يثخن في النظام وحلفائه الإيرانيين والروس وبالتالي ستُخفف أمريكا الضغط على التنظيم، وتنظيم الدولة يُدرك هذه المعادلة وسيستثمر التناقضات ما استطاع، والحكمة السياسية وطبيعة المرحلة تتطلب ذلك.
وسيستمر تنظيم الدولة في استراتيجية حرب العصابات، والظهور والاختفاء كالأشباح، ولن تفاجئنا (مستقبلاً) هجمات التنظيم على قوات النظام وحلفائه في قلب البادية وقد حدث بعضها في شرق حمص مؤخراً، ولن نستغرب عودة غارات التنظيم الواسعة والمؤثرة على مدينتي السخنة وتدمر مستقبلاً، ولكن ما سيبعثر الحسابات والتوقعات هو عودة التنظيم لسياسة مسك الأرض، وإعادة سيطرته على دير الزور والسخنة وتدمر، ولا ثوابت في السياسة والتكتيكات العسكرية، فلكل مقام مقال والبراغماتية والتحولات المفاجئة هي الثابت الوحيد، وفي كل الأحوال ستبقى البادية مطحنة لقوات النظام ولن تتخلى دير الزور عن لعب دور (الثقب الأسود) الذي يبتلع كل غزاته، وستكون قادمات الأيام حبلى بمفاجآتها، فلا تستكينوا واربطوا الأحزمة!!
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس