احسان الفقيه - خاص ترك برس
"إن البيئات التي تستمتع بمقادير كبيرة من الحرية هي التي تنضج فيه الملكات، وتنمو المواهب العظيمة، وهي السِناد الإنساني الممتد لكل رسالة جليلة وحضارة نافعة".
استوقفتني هذه الحقيقة التي عبّر عنها المفكر الراحل محمد الغزالي بعباراته البليغة، وألفيْتُها تأخذني إلى حيث الشأن التركي وميدان التنافس السياسي الذي تفجرت إزاءه نُعوت الاستبداد والدكتاتورية لإلصاقها بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
فالتقدم والازدهار لا يكون إلا في بيئة حاضنة تتمتع بالحرية، بعيدة عن الاستبداد وحكم الفرد الواحد، وتلك حقيقة لا تغيب عن أذهان الطغاة أنفسهم، لكنهم لا ينشغلون بنهضة ولا بتقدم، وكل ما يشغلهم الحفاظ على العروش، وهذه الحقيقة لا تغيب كذلك عن أردوغان وفريقه وهم يدشّنون لتركيا جديدة بحلول المئوية عام 2023، وفق استراتيجيات عالية الدقة، وسياسات وأهداف مرحلية، يتم العمل لها بنجاج منذ 2002، والواقع يشهد بأن الرجال يصدقون إذا تحدثوا ويوفون إذا وعدوا، وأنهم بعيدون عن شبهة الفساد ونهب ثروات البلاد.
فمن ثم لا تنسجم أوصاف الاستبداد والدكتاتورية التي يُرْمَى بها أردوغان مع تطلعاته إلى قيادة دولته إلى عالم الكبار.
وحتمًا لا أسوق هذه المقدمة ولا مقولة الغزالي باعتبارها دليلًا على براءة ساحة أردوغان وحكومة حزبه من تهم الاستبداد، لكن النظر إلى سياق التنافس في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في حد ذاته، يكفي للتدليل على البيئة الصحية ومناخ الحرية، وأن التناول السلبي لصورة أردوغان وتعمُّد تشويهه في الإعلام الغربي وإعلام الدول العربية القمعية، ما هو إلا إنعكاس لتوجهات القوى الإمبريالية والاستعمارية الغربية، والأنظمة الاستبدادية العربية.
فمجلة "لو بوان" الفرنسية تصف أردوغان بالديكتاتور، والواشنطن بوست الأمريكية تقول إن اندفاع أردوغان للسلطة يُحدث فوضى جديدة، وصحف عربية في بلاد لا تعرف الحياة الحزبية وتعيش في ظل احتكار العائلات للسلطة تتحدث عن ديكتاتورية أردوغان، ولم يُقدّم لنا أحدهم حتى الآن دليلًا دامغًا مفصلا على مناخ الاستبداد الذي تجرى فيه الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
أردوغان لم يتجاوز يومًا الاحتكام النزيه إلى صناديق الاقتراع، فلم يفرض شيئًا على الشعب رغمًا عنه، وحتى تقديم موعد الانتخابات لم يخرج عن صبغته المشروعة، بعد أن التقى الرئيس التركي بـ "دولت بهجلي" زعيم حزب الحركة القومية الذي كان قد بادر إلى الدعوة لانتخابات مبكرة باعتباره شريكا للحزب الحاكم ضمن تحالف الشعب.
أردوغان لم يعتقل منافسيه في الترشح للرئاسة بتهم ملفقة على غرار ما فعله أحد حكام الدول العربية الذي أراد أن يدخل الانتخابات بمفرده ومعه مرشح (كومبارس) لتحسين الوجه أمام المجتمع الدولي.
أردوغان لم يطلق وسائل الإعلام الرسمية لإفزاع الشعب بالكوارث المُحتملة إذا لم يتم انتخابه، ولم يسع من خلالها لتغفيل وخداع وتوجيه الرأي العام عبر استطلاعات رأي وهمية تقول أن نسبة مؤيديه تتجاوز التسعين بالمئة.
من يرقب التحركات الآمنة في الدعاية الانتخابية لمنافسي أردوغان وسير التحالفات والتفاهمات بين الأحزاب المختلفة لا يرى ما يشير إلى المناخ الاستبدادي الذي يزعم البعض وجوده، والذي لا يتفق مع لقاءات أردوغان بمنافسيه في أجواء هادئة ناضجة.
كما أن النتائج التي جاءت في صالح أردوغان وحزب العدالة والتنمية بعيدة عن المبالغات، وتعكس التنافس العنيف في الحياة السياسية بتركيا، فعلى سبيل المثال أجرت شركة ماك للتعاون استطلاعا للرأي حصل فيه أردوغان على 51.4%، فأين تلك النسبة مما حصل عليه بعض رؤساء العرب الذين كانوا يتجاوزون الخمسة وتسعين بالمئة.
هناك دول تتهم أردوغان بالقمع بسبب إجراءات التطهير ضد المتورطين في الانقلاب الفاشل وعناصر الكيان الموازي، وكأن ما مرت به البلاد من المحاولة الانقلابية التي كادت تعصف بها شيئًا هينًا يستوجب العفو والتسامح، في الوقت الذي يغضون أبصارهم عن قمع الأنظمة الأخرى للمعارضين السلميين بالقتل والسجن والتشريد.
لا هم للصحف الغربية والعربية في هذه الآونة لدى تناولها الشأن التركي إلا الحديث عن الحريات المسلوبة في تركيا، حتى وإن كانت الأنظمة التي تتبعها هذه الصحف ذات ملفات حقوقية معيبة.
ولكن لا يمكننا النظر إلى هذه الاتهامات المحمومة التي تتسارع وتيرتها مع اقتراب الانتخابات، بمعزل عن تواطؤ جهات خارجية على استهداف تركيا، وخاصة الولايات المتحدة التي أفزعها خروج الأتراك عن التبعية لها، ودول عربية ذات أنظمة استبدادية راعها القبول التركي لتطلعات الشعوب العربية الرامية إلى نيل الحرية وإسقاط تلك الأنظمة الاستبدادية.
لكنه على الرغم من هذه الحملة، ستتجه أصوات الناخبين الأتراك بمشيئة الله تعالى إلى دعم أردوغان وحزب العدالة والتنمية.
فوز أردوغان يعني لديهم الاستقرار واستئناف المسير نحو تركيا الجديدة، بخلاف المرشحين الآخرين الذين سيدخلون حال فوزهم في صراع مع الأوضاع القديمة، وهو أمر محفوف بالمخاطر، ويعرض الدولة للتعثر والاضطراب، ويفتح الباب أمام أزمات تم التغلب عليها في حقبة أردوغان والعدالة والتنمية بصورة كلية أو جزئية، كملف تدخل الجيش في الحياة السياسية، وملف الأكراد، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس