د. مصطفى حامد أوغلو - خاص ترك برس
ليست المرة الأولى التي تخوض بها تركيا انتخابات البلديات في نهاية هذا الشهر الجاري، ولن تكون الأخيرة...
لكن الاهتمام الزائد بهذه الانتخابات هذه المرة، والاصطفاف الحزبي، والاستقطاب المجتمعي، والتخندق الإعلامي، جعل هذه الانتخابات المحلية أكثر أهمية وتكاد تكون أكثر أهمية من الانتخابات البرلمانية...
لقد تحول النقاش إلى مستوى أكبر من خدمات البلديات والمسائل المحلية ومشاريع المرشحين، واصبح الحديث يدور حول مستقبل النظام الرئاسي بل وحتى بقاء تركيا وأمنها ووحدة أراضيها.
لقد تحول الأمر من انتخابات بلديات إلى شأن قومي ومستقبل تركيا ومسألة بقاء ووجود أوعدم وجود...
فلماذا أخذت هذه الانتخابات هذه الأهمية وهذا الاستقطاب وهذا التخندق والاحتقان...؟؟
لقد خاضت تركيا عدة انتخابات متعاقبة في السنيين القليلة الماضية، اعتبارا من الانتخابات المحلية في العام 2014 إلى انتخاب رئيس الجمهورية، ومن ثم الانتخابات البرلمانية في حزيران/ يونيو 2015 والانتخابات المبكرة ثم الاستفتاء الدستوري ومن ثم الانتخابات الرئاسية الأخيرة..
في كل هذه الانتخابات (باستثناء كبوة حزيران القصيرة) كانت المعارضة هي المهزومة والحزب الحاكم ورئيس الجهورية طيب أردوغان هو الفائز...
أهمية هذه الانتخابات تأتي من كونها هي الانتخابات الأولى التي تجري بعد انتقال تركيا للنظام الرئاسي ولم يبقى أمام الحزب الحاكم سوى الفوز بها ليتفرغ لقيادة تركيا لأربع سنيين قادمة خالية من الانتخابات...
كما أنها هي الفرصة الأخيرة أمام المعارضة للفوز هذه المرة ،للمحافظة على وجودها أمام ناخبيها من جهة، ومن جهة ثانية - وهي الأهم – إمكانية إعادة طرح كثير من المواضيع والمطالب من جديد، وعلى رأسها مناقشة النظام الرئاسي برمته...
ومن هنا تحولت هذه الانتخابات من انتخابات محلية إلى مثابة تصويت ثقة أو حجب ثقة عن الاستفتاء والنظام الرئاسي...
فبدل أن تُناقش مشاريع المرشحين للبلديات وخططهم ووعودهم، انقسم السياسيون إلى صفين، الأول هو اتفاق "الجمهور" بين العدالة والتنمية والحركة القومية من جهة..
وبين اتفاق أحزاب المعارضة "المللة" الذي يجمع حزب الشعب الجمهوري والحزب "الجيد" وبدعم مباشر وغير مباشر ومعلن وغير معلن أحياناً من حزب الشعوب الديمقراطية الكردي العلماني، وبشكل معلن على استحياء من قبل حزب السعادة "الإسلامي!".
ليست المعارضة هي المسؤولة الوحيدة عن هذا الاصطفاف والتخندق وتحويل هذه الانتخابات إلى انتخابات وكأنها مصيرية...
فالفريق الأول أيضاً يرى أن هذه الانتخابات تمس بقاء تركيا وأمنها ووحدة أراضيها في حال نجحت أحزاب المعارضة بها، ويرى أن المعارضة في حال فوزها ستعتبر النتيجة بمثابة تصويت حجب الثقة عن النظام الحالي، وستبدأ بالمطالبة بانتخابات مبكرة، وستدخل تركيا في دوامة جديدة وتمنع الاستقرار السياسي والتفرغ لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والنمو والازدهار... ناهيك عن الأهداف الخارجية التي تهدد وحدة الأراضي التركية...
أما الفريق الثاني الذي يرفض هذه الادعاءات والاتهامات "حاليًا" ويصر على أن هذه الانتخابات هي انتحابات محلية، بلدية، يجب النظر إليها من هذه الزاوية محاولاً كسب العدد الأكبر من البلديات الكبرى خاصة أنقرة وإسطنبول، ليطرح بعدها كل هذه الأجندات التي يحذر منها رئيس الجمهورية وفريق الجمهور...
فريق المعارضة لا يخفي أحياناً هذه الأهداف وهذه الأجندات ولكنه يتخذ حاليًا "التقية" أسلوباً لكي لا يخيف الناخب ولا يريد أن يدفع به للتمسك بالاستقرار والنظام الرئاسي الحالي...
فهو يريد الفوز أولًا...
والمتتبع لتصريحات المعارضة والاستراتيجية التي انتهجتها يجد أنها مبنية على إضعاف العدالة والتنمية وخسارته وكسر شوكته أكثر من الاهتمام بالفوز الحزبي الذاتي...
فحزب الشعب الجمهوري يصر على ترشيح أسماء لا تنتمي لفكره وهي أقرب للطرف الآخر، وحزب الشعوب الديمقراطية "الكردي" يمتنع عن ترشيح أسماء في كثير من المدن -وخاصة الكبرى- دعمًا للحزب الجمهوري، وحزب السعادة هو الآخر لا يجد حرجًا من الإعلان عن موقفه الداعم لكل من هو معارض للعدالة والتنمية...
العدالة والتنمية ورغم كل الإنجازات والنجاحات التي أبدع بها خلال الخمس وعشرون سنة الماضية.. لكنه اليوم يخوض هذه الانتخابات في ظروف اقتصادية ليست لصالحه وظروف خارجية صعبة تحيط بتركيا، وفتور وملل وترهل بكوادر الحزب، وثقة بالذات تحولت لدرجة الكبر والغرور، وإقالة وتغيير لبعض رؤساء البلديات في مدن كبيرة وهامة مثل أنقرة وإسطنبول، واستكمال لأهم المشاريع الخدمية الأساسية...
كل هذه السلبيات أدركها رئيس الجمهورية وشخصها منذ الساعات الأولى لنتائج الاستفتاء الدستوري وهو يعمل على علاجها والتحذير منها والتقليل من سلبياتها...
أردوغان الذي يجيد قراءة نتائج الانتخابات ورسائل الناخبين بكل مهنية وواقعية، لا يجد حرجا من النقد الذاتي ومراجعة المواقف والتصريحات واتخاذ الإجراءات والخطوات اللازمة لكسب ثقة الناخب من جديد...
مشكلة ثانية تواجه العدالة والتنمية وهي محاولة كسب أصوات الشباب الذين ولدوا في ظل سيطرة العدالة والتنمية، الذين اعتادوا على هذه الخدمات ولم يروا ما كانت عليه حالة البلديات قبل وصول حزب الرفاه ومن ثم العدالة والتنمية وخاصة وصول أردوغان لرئاسة بلدية إسطنبول في العام 1994.
هؤلاء الشباب الذين غاب عنهم الفرق بين حالة البلديات سابقًا وحاليًا يتطلعون إلى خدمات جديدة ومغايرة تماما عن الخدمات الروتينية.. وكسب أصواتهم يحتاج لجهد خاص واقتراب أكثر لفكرهم وهموهم...
كل استطلاعات الرأي تشير إلى أن انتخابات البلديات هذه المرة لن تكون سهلة أبدًا.
وستكون النتائج متقاربةً جدًا وكأنها سباق خيل وسباق المارثون..
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس