معاذ السراج - خاص ترك برس
بات من المألوف أن نرى بالعين المجردة كيف تتحول كوارث الحروب والنزاعات بشكل أتوماتيكي إلى مكاسب وأرباح تجنيها الأطراف قوية، والتي عادة ما تكون من خارج الدائرة، ولم تعد تلك المكاسب تقتصر على غنائم الحروب، وتجارة السلاح، كما جرت العادة، لكنها تتجاوز ذلك كله لتضيف أشكالًا جديدة، تتناسب مع مستوى الجشع والطمع الذي تبديه هذه الأطراف، ولو كان على حساب معاناة البشر وآلامهم.
بالنسبة لشعوب الشرق الأوسط فقد ألفت مثل هذه الديناميكية التي تقضي بدفع الأمور أكثر فأكثر خارج السيطرة، حتى تقع الكوارث، الواحدة تلو الأخرى، فتقع النزاعات والحروب المدمرة وتنتج عنها الضحايا والخراب والدمار والمجاعات والنزوح جماعي وما إلى ذلك، ومن ثم العودة بالشعوب إلى حالة أشبه بالبدائية، كما هو مشاهد اليوم في الكثير من البلاد.
وفي ضوء الكثير من المعطيات والمشاهدات، والأبحاث والدراسات، يمكن الجزم، ودون مجازفة تذكر، بأن هذه الكوارث لا يمكن أن تحدث من تلقاء نفسها، وإن حدث ذلك ابتداءً فإن هناك من يقف وراء إدامتها وإطالتها ويديرها بشكل محترف بعيدًا عن العواطف والمشاعر الإنسانية البراقة. والأغرب في هذا كله أنه يحدث في عالم اليوم الذي يسمى بالمجتمع الدولي، وتحت مظلة القانون الدولي ومنظمات الأمم المتحدة ومجلس الأمن وغيرها.
في سورية على سبيل المثال، حيث تستمر أحداث ثورة عارمة منذ نحو عشر سنوات، أسفرت عن دمار هائل وأعداد مرعبة من الضحايا والنازحين والمهجرين، ومن السخرية المرة، وفي سياق الحديث عن المكاسب الجانبية للطراف الخارجيين، فإن هذه الحرب قدمت لأولئك الكثير ولا شك، ومن بين ما قدموه آلاف مؤلفة من الخبرات الفنية الجاهزة، في شتى الاختصاصات والمهن والحرف النادرة، وحتى الأطفال كانوا من بين تلك المكاسب، وعلى طبق من ذهب، ليسهموا في تجديد حيوية مجتمعات تسير نحو الشيخوخة. ولنا بعد هذا أن نستمع بين الفينة والأخرى، إلى الإشادات وشهادات المديح، لذلك السوري الذي يثبت حيثما حل، بأنه ينتسب إلى شعب يتمتع بالحيوية ويستحق مصيرا أفضل من هذا المصير البائس.
ولنا بعد أن نتساءل، حول هذا الذي يحدث للسوريين، وتحت أعين المجتمع الدولي والقوى الكبرى، ألا يمكن أن يصنف سوى على أنه وسيلة من وسائل التعذيب والاضطهاد الجماعي، مهما كانت مسوغات هؤلاء وأعذارهم، ومع هذا فالنتيجة هي أن الشعوب ستخضع، وستتوسل الرحمة والشفقة، فيما يتضاحك الجلادون، كما يقال، بقسوة وسادية "شايلوك"، المرابي الشهير، في قصة تاجر البندقية، دون أن يرمش لهم طرف.
من بين معادلات الحروب التي اعتاد القادة الصهاينة طرحها، صيغة "الأرض مقابل السلام"، و"الأمن مقابل السلام"، وفي هذا السياق يمكن أن نعثر لشمعون بيريز، صاحب المشروع المبكر للشرق الأوسط الجديد، على مقولة تلخص المشهد كله: "نحن لا نبحث عن راية السلام، بل نهتم لسلام الأسواق".
ربما لا يعلم أكثر أولئك الساسة، أنهم يتقاسمون مع المجرمين فكرة القدرة غير المحدودة على التدمير وإتلاف الأروح والممتلكات، تحت مختلف الذرائع، وبالمقابل أي منفعة حقيقية تعوض ما ارتكبوه من فظائع وكوارث.
من يستعرض ما قاله الرئيس الأمريكي ترامب أمام جنوده في أفغانستان، وهو يشيد بمكاسب أمريكا وما تجنيه من انتشار جنودها حول العالم، وما قاله قبل ذلك وهو يتحدث عن نفط دير الزور، أو ذلك التسابق المحموم بين الفرنسيين والإيطاليين في ليبيا، وحول التنقيب عن النفط والغاز في حوض المتوسط، بل ما يحدث على امتداد جغرافيا الأرض من دول أمريكا الوسطى والجنوبية، إلى أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، لا شك يأخذه الكثير من العجب والدهشة، ويستذكر غير بعيد، زهو الحلفاء وقهقهات دبلوماسييهم وضحكاتهم المتعالية، ويتفاخرون بمنجزات حروبهم ويتقاسمون مكاسبها.
لكن التساؤلات تبقى يلاحقهم، هل يمكن لهذا كله أن يغطي أو يبرر حجم الخسائر والكلف الحقيقية للأزمات السياسية التي افتعلت كمبرر لدخول الحروب المدمرة، واستخدام الألاعيب السياسية كمحفز لتحقيق المكاسب الاقتصادية؟؟
هل كان على ألمانيا واليابان أن إلى خوض تلك الحرب الهائلة للحصول على مكاسب النمو الهائل الذي تلا الهزيمة؟؟
وهل كان على السوريين أن يدفعوا كل هذه الأثمان، لكي يحتفى بالنابغين منهم في هذه الدولة أو تلك، ويشاد بهم، ثم يقال هؤلاء هم السوريون؟؟
بعد الحرب العالمية الثانية اعتمدت القوى الغربية الكبرى المبدأ القائل بضرورة حفظ القدر الكافي من كرامة المواطنين بحيث لا يتوجه فريق منهم للبحث عن أيديولوجيات أكثر جاذبية للتعويض عن خسائرهم في الحروب والصراعات، "الرأسمالية اللبقة"، وعلى هذا الأساس كانت فكرة نشر الديمقراطية والحرية، ومحاولات إقامة دول حديثة على أنقاض الإمبراطوريات القديمة، ومع أن أكثر تلك المحاولات باء بالفشل، فإن العامل الأهم كان التغير المتواصل للاستراتيجيات الغربية، وبروز عوامل جديدة تتسم كلها بالطابع الأمني، مثل مكافحة الإرهاب، ومخاطر الهجرات المتزايدة، نتيجة انعدام الاستقرار السياسي في الكثير من البلدان، إضافة لحماية مصادر الطاقة، مما زاد من فرص التدخلات الأجنبية، واندلاع الحروب في العديد من بلدان الشرق الأوسط خاصة كالعراق وأفغانستان، وما أسفر عنها من نتائج وخيمة، مما أثار أكثر فأكثر، شكوكًا عميقة حول النوايا الحقيقية لصناع القرار في أمريكا والغرب، وما إذا كانوا يرغبون حقا في رؤية مجتمعات ديمقراطية حرة في بلدان الشرق الأوسط والعالم.
ومع التسليم بأن الولايات المتحدة والقوى الغربية الكبرى تمتلك من القوة والتأثير ما يضمن حضورها الدائم في شتى بقاع العالم وقضايا الشعوب، بالإضافة إلى هيمنتها على المؤسسات الدولية ونفوذها الكبير، فإن تساؤلات عديدة تبرز حول ما إذا كان لبلد ما مثل سوريا أو ليبيا أو العراق أو اليمن غارقة في بحار الفوضى كيف لها أن تنهض من تلقاء نفسها في ضوء التدخلات السلبية لهذه القوى، هذا إذا ما قُدّر لثورات شعوب المنطقة أن تصل إلى برّ الأمان؟؟
لا يمكن أن يكون هناك أدنى شك في أن أقوى العواطف إنما تبرز من شعوب محبطة إحباطًا حقيقيًا وعميقًا، وستمثل يوما ما المصدر الأساسي لجدول أعمال معاداة الغرب وأمريكا، ولعل الثورات التي تعم الكثير من بلدان المنطقة اليوم، تعكس هذه الحقيقة، في أحد وجوهها على الأقل، وربما تعني بشكل من الأشكال، تحدي الغرب، ومواجهة تسلط وفساد الأنظمة المدعومة من قبله. وإذا ما اختار العالم الإبقاء على مقاربة الاستبداد وسياسات القتل الجماعي والتشريد والإفقار الذي تعاني منه شعوب المنطقة اليوم، فإن الارتدادات ستكون وخيمة أكثر فأكثر، وتنذر بكوارث مستقبلية لا حصر لها، وستتحول عاجلًا أو آجلًا إلى غضب شدي ومعاداة على المستوى الشعبي الاجتماعي لصانعي القرار الدولي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس