د. جمال نصار - خاص ترك برس
لا يزال العالم يشهد تصاعد وتيرة انتشار فيروس كورونا، الذي أدى إلى إصابة الملايين، وقتل عشرات الآلاف، مع إحداث بعض التغييرات في بنية العديد من الدول، وخصوصًا الدول الضعيفة الهشة التي لا تقوى على مواجهة هذا الفيروس القاتل، نتيجة لإهمالها البنية الأساسية في مجال الصحة، والبحث العلمي.
فهل ستقلب جائحة كورونا الموازين رأسًا على عقب، وتُغير موازين القوى في العالم، وهل ستكون الأوضاع ما بعد كورونا غير ما كانت عليه قبل كورونا؟!
الحقيقة أن هذا القول فيه قدر من الصحة، ولكنه لا يخلو من المبالغة في ذات الوقت، ذلك أن كورونا شأنها في ذلك شأن طواعين، وجوائح، وكوارث طبيعية أخرى ضربت البشرية قديمًا وحديثًا، وستمر آجلاً أو عاجلا، ولن تكون نهاية التاريخ أو بدايته، ولكنها بكل تأكيد ستترك آثارًا نفسية، وسياسية، واقتصادية، واجتماعية واسعة النطاق داخل الدول وفيما بينها، وفي نظام العلاقات الدولية.
والمؤكد أن العالم مقبل على تحولات كبرى ومخاضات عسيرة، ستختلط فيها الأزمات الاقتصادية بالمطالب السياسية والاجتماعية، والصراعات الدولية بالنزعات الشعبوية.
مسلسل أم هارون والدعوة إلى التطبيع
لعل أخطر ما يصيب الأمم، انتشار الأفكار الغريبة التي تغير في هوية أي أمة، وتحاول من حين لآخر إدخال الغريب على ثقافتنا، وإيهام الناس بأنه لابد من المعايشة مع الصهاينة الذين جاؤوا من أقاصي البلاد، وأنهم خير لنا من الفلسطينيين الذين باعوا أرضهم، وضيعوا مقدرات الدول العربية!
هذه العبارات، وغيرها كثير، عبّر بها بعض المحسوبين على الأمة العربية من أشباه المثقفين، الذين يدّعون أنهم أصحاب فكر ورؤية، ظنًا منهم أنهم بذلك يتقربون إلى ولي أمرهم، ويبيعون قضايا أمتهم من أجل الفتات، الذي ربما لا يصل إليهم!
وظهر ذلك أيضًا في بعض المسلسلات التي عُرضت في بعض الدول الخليجية، للتطبيع مع الكيان الصهيوني بشكل علني، كان آخرها مسلسل "أم هارون" الذي أدى إلى موجة من الانتقادات عبر مواقع التواصل الاجتماعي في أول أيام عرضه، حيث اعتبره البعض "تمهيدًا للتطبيع مع إسرائيل"، و"تشويه للحقائق التاريخية". والحقيقة أن مثل هذه الأعمال يمثل أخطر حلقات التطبيع، حيث يشرعن عودة اليهود إلى الجزيرة العربية، وإلى خيبر بالذات.
ويحكي مسلسل (أم هارون) بعد عرض أولى حلقاته على قناة MBC، قصة طبيبة يهودية في أربعينيات القرن الماضي، والتحديات التي واجهت أسرتها، والجالية اليهودية في دول الخليج. وقامت الفنانة الكويتية المخضرمة حياة الفهد (٧٢ عامًا) ببطولة المسلسل، وهي التي أثارت الجدل في بداية شهر إبريل/ نيسان 2020، بعدما دعت لترحيل الوافدين الأجانب المصابين بفيروس كورونا من الكويت، عبر مداخلة في برنامج تلفزيوني.
والملاحظ أن المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي للإعلام العربي (أفيخاي أدرعي) احتفى بعرض المسلسل، كما وجه (مركز الملك حمد للتعايش السلمي) في البحرين، الذي يشرف على عملية التطبيع الثقافي مع إسرائيل في الخليج العربي، الشكر لطاقم المسلسل، إضافة إلى تصويره وإنتاجه في الإمارات وعرضه على قناة MBC، كل هذا يؤكد الشكوك حول أهداف هذا المسلسل.
وقد شهد المسلسل خطأ تاريخيًا تمثل في الحديث عن سقوط بيت المقدس عام 1948، بينما سقطت في حقيقة الأمر تحت الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب يونيو/حزيران عام 1967.
وقام وزير الإعلام الكويتي، محمد الجبري، بتشكيل لجنة تحقيق لمعرفة أسباب قيام وزارة الإعلام بإجازة النص والسماح للشركات الكويتية المتعاونة مع مجموعة قنوات MBC بإنتاجه، وانتهى إلى إيقاف عرضه في الكويت.
خطورة التطبيع مع إسرائيل
التطبيع: هو تغيير ظاهرة ما بحيث تتفق في بنيتها وشكلها واتجاهها مع ما يعتبره البعض طبيعيًا، ومن ثمَّ فإن التطبيع؛ هو إزالة ما يعتبره المطبَّع شاذًا، ولا يتفق مع العادي والمألوف.
ويعتبر التطبيع المعرفي والثقافي من أخطر أنواع التطبيع، لأنه يشكل عقلية الأجيال بصبغة جديدة تخالف الواقع والحقيقة، بحجة أن إسرائيل ليست إلا بلدًا صغيرًا، لا يمكن أن تشكِّل خطرًا ثقافيًا، أو اقتصاديًا على العالم العربي.
وقد نما في الخطاب الثقافي العربي في تحليله للظاهرة الصهيونية توجه يدّعي العقلانية، أو الواقعية، أو الموضوعية، والذي يذهب إلى أن (إسرائيل)، هي دولة مثل أي دولة أخرى، ومن ثمَّ يصبح الحديث عنها أمرًا عاديًا.
وهؤلاء يُخطئـون من الناحيـة المعرفيـة التاريخية، ومن الناحيـة الأخلاقيـة القيمية؛ فمن الناحية المعرفية، يحاولون تغيير الواقع الذي تعرفه كل الأجيال ودوّنته كتب التاريخ والجغرافيا، وأصبح أمرًا مستقرًا في الأذهاب، بأن الكيان الصهيوني اغتصب أرضًا ليست له، بمعاونة المستعمر البريطاني الذي أقر وعد بلفور في العام 1917، وبموجبه تم دعم تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين.
كما أنهم يُخطئون من الناحية الأخلاقية، إذ يروجون لكيان نشأ باغتصاب أرض عربية، وذبح بعض سكانها، وطرد البعض الآخر، بمساندة بعض الدول المستعمرة التي سلبت خيرات المنطقة، ونتيجة لحالة الانكسار الذي أصاب الأنظمة الحاكمة وقتئذ.
إن التطبع الثقافي لا يقتصر خطره على الثقافة بالمعنى الضيق، بل يشمل أيضًا الخطر الذي يواجهه نمط الحياة والسلوك والقيم واتجاه الانتماء وطبيعة الولاء.
وإذا قُدِّر لمثل هذا الاتجاه التطبيعي الاستسلامي أن ينجح لبعض الوقت، فإن أقل الاحتمالات سوءًا هو أن يمنعوا العالم العربي من تقديم أية مساهمة فريدة للحضارة الإنسانية، وأن يتحولوا إلى مقلدين، ولو تعدَّى التقليد ميدان الاستهلاك إلى ميدان الانفتاح!
فسلطين قضية كل حر في العالم
على الرغم من كمّ المؤامرات والتحديات التي تمارسها بعض الأنظمة العربية المُطبِّعة مع الكيان الصهيوني، إلا أن قضية فلسطين ستبقي في وجدان وضمير كل عربي ومسلم، وكل منصف أبد الآبدين، لأنها قضية عادلة، وسوف تتحرر من المحتل الغاصب بإرادة الشعوب ولو بعد حين.
فقضيّة فلسطين في نظر المسلمين مسألة دين وعقيدة إلى جانب التاريخ والجغرافيا، ومعاني الأخوّة الإيمانيّة والقربى، بالإضافة إلى البعد الإنساني، والمسجد الأقصى له عند المسلمين المكانة الدينيّة التي لا تخفى على أحد، وبذل المهج فداء له كبذلها من أجل المسجد الحرام والمسجد النبوي، فثلاثتها هي المساجد المصطفاة التي تضاعف فيها الصلاة وتهوي إليها القلوب لأنّها من أكبر رموز هذا الدِّين، وهذه الأمّة.
وختامًا أقول: إن محاولات الأنظمة المستبدة المستسلمة، وبعض الفنانين والمثقفين من دعاة التطبيع مع (إسرائيل)، ستبوء بالفشل، ولن يُكتب لها النجاح، وسيذكرهم التاريخ بكل قُبح وازدراء، لأنهم يحاولون أن يُلبسوا على الشعوب العربية والإسلامية تزوير التاريخ، وقلب الحقائق التي يعرفها الداني والقاصي. وستبقى المقولة الخالدة "ما ضاع حق وراءه مُطالب"، حية في نفوس المؤمنين بعدالة قضيتهم.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس