ياسين أقطاي - يني شفق
ذكرنا سابقًا أنه من الممكن القول بأن الخطاب المعارض الذي كان يسلكه العدالة والتنمية قد انتهى داخل البلاد، لأنه في الحقيقة قد تم القضاء "على المستوى الداخلي" على أولئك الذين ينظرون من فوق ويعتبرون أنهم فوق القانون، كما تم احتواء قوتهم بالكامل. ومن الطبيعي بعد ذلك أن لا يكون بعد هذا الوقت مجال للتبرير عن أشياء يجب القيام بها ولم يتم القيام بها. ومن جهة أخرى وصلت المعارضة الموجودة إلى مستوى معتبر من خلال المنافسة وسط بيئة ديمقراطية ومن خلال تصفية الحسابات في الانتخابات.
نلاحظ بأن خطاب المعارضة لدى العدالة والتنمية كلما تراجع إلى مستواه الطبيعي داخل البلاد، فإنه يزيد حدة على المستوى العالمي، فماذا كانت نتيجة ذلك؟ هل اكتشف العدالة والتنمية الربحية السياسية للأدب الذي انتقدناه لسنوات والذي يقوم على وجود دول وأعداء يكيدون لنا؟ أو انها نوع من الأدبيات التي تحاول تبرير إخفاقاتها الداخلية عبر صرف النظر نحو المتآمرين الخارجيين؟
بادئ ذي بدئ، لا بدّ أن الجميع يقدّر بأن حزب العدالة والتنمية مع سلسلة نجاحاته التنموية منذ البداية، لم يكن محتاجًا للبحث عن معذرة لشيء لم يقم به. لقد جسّد ثورة تنموية حقيقية، من قطاع التعليم إلى الصحة، من المواصلات إلى الخدمات الاجتماعية، من الصناعات الدفاعية إلى الإنتاج الصناعي الشامل، ومن الإسكان إلى التحول الحضري، فضلًا عن تطوير مستوى الدخل القومي.
إلا أن جميع هذه التطورات بينما كانت تحصل في تركيا، كانت هناك تطورات أخرى تحصل على المستوى الإقليمي والعالمي، وعلى الرغم من تركيا كانت تتخذ مواقف بنّاءة من تلك التطورات على الدوام، فإنها كانت تقف في النهاية وجهًا لوجه أمام حملات عداء تستهدفها. إن الربيع العربي لم يكن شيئًا أوجدته تركيا أو أطلقته، إلا أنها استقبلت إرادة الشعوب المنعكسة عن ذلك باحترام وتبجيل. وبغير قصد ساهمت تلك المراحل بوضع تركيا في مركز التغيير الأكبر على مستوى القرن. ولقد تكون محور منافق لم يُعلن عنه؛ ضد تركيا، بعد ان انبثق عن الثورات المضادة والانقلابات وكل ما هو إنساني لمواجهة موجة الربيع العربي. ومن الواضح للغاية ما هو هذا المحور على المستوى العالمي، وأي قيم يمثلها. لطالما كان عنوانًا للانقلابات والمجازر وانتهاك حقوق الإنسان، والمناشير، والدسائس والاحتلال والفساد في العالم الإسلامي. ومن اللافت أن هذا المحور يزاول عمله هذا دون أي مشاكل مع الولايات المتحدة أو دول الاتحاد الأوروبي.
بينما كانت تركيا تمضي في طريقها الخاص، تعرضت لأكثر من محاولة انقلاب من قبل هذا المحور الذي تترأسه الولايات المتحدة المباشرة، وتموّله دول أخرى. يُقال أن شعبية الرئيس أردوغان قد تراجعت في الولايات المتحدة، بسبب كونه سلطويًّا للغاية. هل حقًّا بسبب ذلك؟ متى كانت الولايات المتحدة تعاني من مشاكل ضد الديكتاتوريين -إن صحت الفرضية-؟
لماذا لا تعاني الولايات المتحدة مع السيسي الذي قتل ثلاثة آلاف من شعبه في يوم واحد، وأسس لنظام ديكتاتوري لا نظير له منذ أن وصل للحكم؟
لماذا لا تعاني من مشاكل مع محمد بن سلمان الذي اظهر وحشية لم نر مثلها حيث أمر بشكل مباشر بقتل أحد مواطنيه داخل قنصلية بلاده بإسطنبول، عبر تقطيعه "بالمنشار" إربًا إربًا؟ من الوضح أن مشكلة الولايات المتحدة مع أردوغان ليست كما تدعي. من الواضح أن مجيء أردوغان للحكم عبر عملية ديمقراطية صافية قد أزعج الولايات المتحدة ولم يسرّها. وإن الديمقراطية تنبثق عنها إرادة الشعب، وإن إرادة الشعب تأبى على الولايات المتحدة التي تزعم أنها حليفة تركيا، بأن تقدّم الدعم لمنظمة إرهابية تشكل تهديدًا وخطرًا على تركيا. لقد فعلت الولايات المتحدة ذلك في التسعينات. لقد فعلت الشيء ذاته شمالي العراق، ولم يكن أحد غير تركيا يمكنه رفع صوته بوجهها لسنوات. إلا أن تركيا الآن ليس كما تركيا التسعينيات، ولا أردوغان بالشخص الذي يمكن أن يغض نظره عن ذلك.
على صعيد آخر، لقد تسرّبت تصريحات للمرشح الديمقراطي الأمريكي جو بايدن أدلى بها قبل 7 أشهر، ويكاد اليوم ان يكون العدالة والتنمية هو المذنب. في الحقيقة لقد رأيت تلك التصريحات من جديد، ولم أجد شيئًا أكثر طبيعة من ذلك. ما الفرق بين أن تكون تلك الانتقادات الآن أو قبل 7 أشهر؟ لقد أفصح بادين في الحقيقة عن سلسلة من السياسات تنبع من وجهة نظر يبدو أنها لن تتغير من يوم لآخر.
لقد كانت تصريحات بايدن حول نظرة الولايات المتحدة لأردوغان وكيف ستصنع من أجل إسقاطه، بمثابة اعتراف لما قام بها حتى اللحظة. هل قال شيئًا لا نعرفه؟ لا. هذه الولايات المتحدة التي تدعم منظمات غولن وبي كاكا وبي يي دي وي ب ك، وتوجهها نحو شتى العمليات من أجل العمل على تعطيل الاستقرار في تركيا. أما أردوغان لطالما خرج في وجه الولايات المتحدة، التي تقوم بدعم إسرائيل دون قيد وشرط وتريد أخذ القدس كاملة لها.
هل الهدف في هذه المسألة تركيا أم أردوغان؟
أول دعونا نسأل بشكل آخر؛ هل القضية أن الولايات المتحدة أو أوروبا تفضَل أن يكون في تركيا إدارة أكثر ديمقراطية من أردوغان، أم أن القضية هي استبعاد أن تكون تركيا نموذجًا يُحتذى به للثورات العربية، وأن يكون هناك مزيد من التقسيم والتشرذم لجميع دول المنطقة بما فيها تركيا، وأن تريد ديكتاتوريًّا حقيقيًّا يضمت عن انهاك حقوق بلاده في شرق المتوسط، وان يصم أذنيه عن نداءات شعبه؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس