د. علي حسين باكير - عربي 21
أعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ يوم الخميس الماضي أنّه وبعد محادثاته مع القادة اليونانيين والأتراك، وافق الحليفان في حلف شمال الأطلسي على الدخول في مفاوضات تقنية في الناتو وذلك لإنشاء آلية لخفض التوتر والحد من مخاطر وقوع حوادث أو صدامات بينهما شرق البحر المتوسط.
الخارجية التركية عقّبت على تصريحات الأمين العام لحلف شمال الأطلسي بشكل إيجابي مشيرة إلى أنها تدعم هذه المبادرة التي تهدف إلى منع الحوادث غير المرغوب فيها بين العناصر البحرية والجوية للبلدين، مذكّرة في نفس الوقت بأنّ أنقرة مستعدة كذلك للحوار دون أي شروط مسبقة بشأن النزاع الأساسي شرق المتوسط وذلك من أجل إيجاد حلول دائمة وعادلة ومنصفة لكافة المسائل مع اليونان في الإطار القانون الدولي.
على المقلب الآخر من المعادلة، أصدرت اليونان نفياً قاطعاً لما أورده أمين عام حلف شمال الأطلسي مشيرة إلى أنّ ما ذكره ينس ستولتنبرغ ليس دقيقاً ولا يتطابق مع الواقع، مؤكّدة في الوقت عينه أن تخفيض التصعيد يبدأ عندما تنسحب القطع البحرية التركية فوراً من الجرف القاري اليوناني. وبهذا التصريح تكون اليونان قد كذّبت أمين عام حلف شمال الأطلسي ورفضت إجراء تفاوض تقني يهدف إلى تلافي وقوع صدام عسكري غير مقصود، وادّعت حقوقاً في الجرف القاري التركي.
هذه المؤشرات تؤكّد مرةّ أخرى عدم رغبة اليونان في تخفيض التصعيد أو الجلوس إلى طاولة التفاوض، وهي جزء من سلسلة تدابير تصعيدية كانت قد اتّخذتها أثينا لقطع الطريق على محاولات التهدئة وجهود دفع الطرفين للتفاوض بدءًا من اتفاق ترسيم الحدود الذي أجرته مع مصر، مروراً بالمناورات العسكرية مع قبرص وفرنسا، وليس إنتهاءً بالمطالبة بفرض عقوبات على تركيا داخل الاتحاد الأوروبي ورفض مبادرة أمين عام حلف شمال الأطلسي.
هناك عدّة تفسيرات في ما يتعلق بالتضارب الذي حصل بخصوص مبادرة الأمين العام لحلف شمال الأطلسي:
التفسير الأوّل هو أن يكون الجانب اليوناني قد وافق بالفعل ثمّ عاد وانسحب نتيجة الضغط الداخلي وعدم الرغبة في الظهور بمظهر الضعيف أو نتيجة افتراضه المسبق أنّ تركيا لن توافق وبالتالي تكون موافقتها (اليونان) بمثابة تسجيل نقطة مجّانية ضد تركيا في معركة كسب الرأي العام العالمي وتحسين الموقع التفاوضي.
أمّا التفسير الثاني، فهو أنّ أمين عام حلف شمال الأطلسي كان قد قام بهذا التصريح ليضع الطرفين أمام الأمر الواقع ويجبرهما على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
التصريحات التركية تشير الى أنّ الاحتمال الثاني ضعيف في أفضل الأحوال، إذ من غير المناسب ولا المتوقع أن يقوم الأمين العام للحلف بالإعلان عن موافقة الطرفين على مبادرة لم يقم باستشارتهما حولها قبل إعلانها.
لكن بغض النظر عن كل ذلك، تبقى الحقيقة أنّ اليونان ترفض خفض التصعيد أو التفاوض المباشر. لماذا؟
هناك عدّة عناصر موضوعية تفسّر السلوك اليوناني المتشدد هذا بالرغم من قدرات اليونان المتواضعة في مواجهة تركيا:
العنصر الأوّل والأهم هو الدعم اللامحدود تاريخياً من قبل الاتحاد الأوروبي لليونان. بمعنى آخر، ليس هناك حافز حقيقي لدفع أثينا إلى طاولة التفاوض، فإذا كانت ستتلقى دعم الاتحاد الأوروبي في جميع الأحوال والظروف والمواقف، فإنّ المسؤولين اليونانيين يرون أنّه ليس هناك حاجة إلى تهدئة أو تفاوض خاصة إذا لم تكن الظروف لصالحهم. وعليه، فإنه ما لم يتراجع الاتحاد الأوروبي عن مثل هذه السياسة، فمن المفترض أن لا نتوقع تحوّلاً في الموقف اليوناني في ما يتعلق بالعوامل الداخلية المُفسّرة لديناميات العمل داخل الاتحاد الأوروبي.
هناك نقطة أخرى مرتبطة بهذا العنصر أيضاً وتتمثّل بموقف فرنسا التصعيدي والذي ترى فيه اليونان الورقة الأقوى حالياً لها داخل الاتحاد الأوروبي في مواجهة محاولات أي من الدول الأوروبية الأخرى الضغط عليها لخفض التصعيد أو إقناعها بالجلوس إلى طاولة المفاوضات.
العنصر الثاني هو موقف الولايات المتّحدة. تقليدياً، دعمت الولايات المتّحدة موقف اليونان شرق البحر المتوسط، لكنّها ولأسباب ترتبط بعلاقة ترامب الشخصية مع أردوغان بالإضافة إلى حاجة البنتاغون إلى دور تركي أقوى في مواجهة روسيا في سوريا وليبيا، قامت بتعديل موقفها بداية هذا العام لتأخذ الموقف التركي بعين الاعتبار. الولايات المتّحدة المتّحدة دعت الطرفان إلى الحوار، لكن قرار واشنطن قيل أيام قليلة رفع القيود عن صادرات السلاح إلى قبرص بشكل جزئي ومؤقت في هذا التوقيت بالتحديد فهم من قبل اليونان على أنّه عودة في الموقف الأمريكي إلى سياستها التقليدية الداعمة لأثينا، وهو الأمر الذي حفّزها على التعنّت واستبعاد المحادثات حتى لو كانت على أمور تقنيّة وصادرة عن حلف شمال الأطلسي.
من المفارقات أنّ رفض اليونان خفض التصعيد بالإضافة إلى رفضها مبادرة حلف شمال الأطلسي قد يصبّ في صالح تركيا لأنّه سيظهرها بمظهر الدولة الحريصة على التفاهم والداعية إلى تغليب لغة الحوار والعقل والمستعدة للجلوس على طاولة المفاوضات، وهذه كلّها عناصر تقوّي المعسكر الذي قد يفكر بالضغط على اليونان لاحقاً كما أنّها تبرّر لأنقرة إتّخاذ قرار متطرّف في حال تمّ إغلاق باب التفاوض لسبب أو آخر وذلك على اعتبار أنّها تنازلت وقدّمت فُرصاً لخفض التصعيد ودعت إلى الحوار غير المشروط لكن الجانب اليوناني هو الذي رفض.
لكن حتى لو افترضنا نظرياً قبول أثينا دعوة تركيا الأساسية لحل النزاع عبر التفاوض، فهي لا تريد أن تجلس بمفردها مع أنقرة لأنّ ذلك يجعلها في موقف غير متوازن لناحية القدرات والإمكانيات وهو ما تفسّره على أنّه أفضلية لصالح تركيا. علاوة على ذلك، فهي لا تفضّل أن يكون الناتو المكان المناسب للحوار على اعتبار أنّ حلف شمال الأطلسي يعطي كل منهما الأهمية ذاتها على الأقل من الناحية القانونية وهذا لا يناسب اليونان التي تسعى إلى كفة وازنة وهو ما يعيدنا إلى المربع الأوّل والدعم اللامحدود الذي تحصل عليه من الاتحاد الأوروبي.
هناك فرصة حتى الـ 24 من هذا الشهر لمعرفة ما إذا كان الاتحاد مستعداً لإحداث تغيير في سياسته بشكل يدفع إلى تحقيق إختراق في المعادلة القائمة أم إنّه سيُفضّل الالتزام بها بشكل يؤدي إلى إقفال باب الحوار ويهدد بتصعيد إضافي الشهر المقبل.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس