ترك برس-الأناضول
في ليلة عاشوراء من عام 1630، رأى شاب عثماني نفسه بين جمع كبير في جامع "أخي جلبي" في مدينة إسطنبول، وإذا به يرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يطلب منه الشفاعة..
لكن لسان الشاب تعثر، فقال: "السياحة" يا رسول الله، فكانت ليلة فارقة في اهتمامات هذا الرحالة العثماني الأبرز، المعروف باسم أوليا جلبي، والذي قطع رحلة طويلة قاربت نصف قرن من الزمان.
جاب في رحلته الشهيرة 23 دولة وسجل ملاحظاته، فكانت مرجعا تاريخيا عظيما، واستحق أن يُصنفه الاتحاد الأوروبي ضمن عشرين شخصية خدمت الثقافة الإنسانية. فمن هو الرحالة العثماني الذي لا يعرفه كثير من العرب؟
ولد أوليا جلبي في 25 مارس/ آذار 1611 بإسطنبول من أجداد كانوا قد نزحوا إلى الأناضول مع أرطغرل بن سليمان شاه، والد عثمان مؤسس الدولة العثمانية، وبعد فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح، عام 1453م، نزحت أسرته إلى تلك المدينة التي تحولت إلى إسطنبول.
والده هو درويش محمد ظلي، وكان نديما للسلطان سليمان القانوني، وكبير مؤذني جامع السليمية، وصانع الميزاب الذهبي فوق الكعبة المشرفة.
كان أوليا جلبي حافظا للقرآن متقنا لتلاوته، عُرف بسرعة الحركة ودقة الرمي وركوب الخيل والنقش على الذهب والفضة، وكان أديبا شاعرًا فصيحًا ذكيًا وخطاطًا ماهرًا.
قام أوليا جلبي برحلة شهيرة استمرت حوالي 44 عاما، وشملت 23 دولة ضمن حدود الدولة العثمانية أو خارجها على اختلاف مسمياتها بين الماضي والحاضر، وهي: تركيا وروسيا وألبانيا وبلغاريا واليونان ورومانيا ويوغسلافيا والمجر وتشيكوسلوفاكيا والنمسا وبولندا وإيران والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن والسعودية ومصر والسودان والحبشة والصومال وجيبوتي.
دَوَّنَ أوليا جلبي رحلته في كتابه الشهير "سياحة نامة"، وهو من عشرة مجلدات، وتُرجم إلى الألمانية والروسية والإنجليزية والفرنسية والمجرية والبلغارية والصربية واليونانية والأرمنية، إضافة إلى ترجمة عربية لبعض صفحاته.
وهذه الرحلة الموثقة هي محل اهتمام المؤرخين، لما تضمنته من تفاصيل غزيرة لمشاهدات رحالة يقظ ذكي سدّت نقصا كبيرا في المعلومات عن تلك البلاد.
بل إن ملاحظاته كانت محل اهتمام الأطباء، فخلال رحلته سجل ما تعرف عليها من أمراض وطرق التداوي منها.
كما أنها مثلت مرجعا كبيرا للمهتمين بالآثار، وخاصة الإسلامية، حيث سجل في رحلته ما رآه من آثار ونقل شواهد أثرية كثيرة كانت مكتوبة.
تمتاز رحلة أوليا جلبي بأن صاحبها لم يقطعها كمجرد سائح، بل كان عالمًا صاحب قراءات غزيرة حول البلاد التي يزورها.
فقبل أن يقوم برحلته كان يقرأ عن البلاد التي سيزورها، فقرأ عن بلاد العرب ما كتبه المقريزي والذهبي والقزويني والطبري وغيرهم، إضافة إلى مراجع في لغات أخرى غير العربية.
وبلغت دقة تسجيلاته أنه كان يهتم بالأرقام اهتماما بالغًا، حيث كان ينقل من السجلات الرسمية والإحصاءات والتعداد السكاني للبلاد، فمثلا دوّن في رحلته تعداد سكان القاهرة في عهدي سليم الأول ومراد الرابع.
اعتمد أوليا جلبي على نفسه في توفير نفقات الرحلة الطويلة، فبعد أن استنفد ماله في المرحلة الأولى من إسطنبول إلى بورصة، اعتمد بقية الرحلة على الكسب من عمل يده، فالتحق بأعمال عديدة، منها كاتب ضرائب، والصيدلة، والإمامة في المساجد، إضافة إلى مهن وحرف عديدة أكسبته خبرة كبيرة.
ومن أغرب مشاهداته في إسطنبول، حاضرة الخلافة العثمانية، حديثه عن شخص يدعى أحمد جلبي هزار فن، وقف على مكان مرتفع مرتديا جناحي نسر، وقام بمساعدة الرياح بمحاولة الطيران ثماني مرات، وصعد بعدها إلى برج غالاطه، وطار من قمته مع اتجاه الريح، ونزل في ميدان دوغانجيلر، وكان السلطان مراد الرابع يشاهده، وأجزل له العطاء.
ويتحدث عن شخص آخر استخدم فكرة ما يشبه الصاروخ حاليا، حيث ركب جهازا مزودا بالبارود، تم إشعاله فحلق به في الجو إلى أن نفد البارود، فارتدى جناحي نسر، وقفز في البحر.
زار أوليا جلبي مدينة صوفيا، عاصمة بلغاريا حاليا، مرتين، وقال إن بها مائة جامع، أكبرها جامع قوجه محمود باشا، وبها واحد وعشرون منتزها عاما.
كما وصف مدينة كييف، عاصمة أوكرانيا، وتحدث عن تقديس الأرثوذكس لها، والنزاعات الدولية حولها.
وزار كذلك مدينة بلغراد، التي فتحها السلطان سليمان القانوني، ووصف قلعتها بالتفصيل، والعدد الهائل من المساجد في أراضيها.
وفي فيينا، عاصمة النمسا، وصف سوقها الأكبر، وكان يضم 6500 دكان. وتحدث عن جسور بوخارست، عاصمة رومانيا، وأديرتها وكنائسها.
وفي إيران تناول مدينة تبريز بوصف دقيق شمل لغة أهلها وتفاصيل دقيقة لقلعتها وعدد سكانها وتبني أهلها للمذهب الشيعي.
وزار بغداد، وقال إنه ليس على وجه الأرض مدينة بشهرتها إلا ما ندر، وتحدث عن حرب استعادتها من الإيرانيين، التي شنها مراد الرابع، واستمرت أربعين يومًا، وأحصى عدد خسائر الإيرانيين فيها.
كما قدم إحصائية دقيقة لمدارس بغداد في المراحل المختلفة وجوامعها ودور القرآن والحديث فيها، وكذلك عدد الحمامات والكنائس والمعابد اليهودية، والتقسيمات الإدارية للمدينة والصناعات المنتشرة فيها.
وسجل أوليا جلبي أيضا مشاهداته في القدس، وتناول الأسماء التي يطلقونها عليها، واحتفالات المسيحيين فيها بأعيادهم، وأحصى العدد التقريبي لزوار المدينة من المسيحيين والإجراءات الأمنية التي يوفرها العثمانيون للزائرين.
وأولى الرحالة العثماني اهتماما خاصا بمصر، وخصص لها أغلب صفحات الجزء العاشر من كتابه، وزارها مرتين بينهما خمس سنوات.
ويعد كتابه "سياحة نامة" مرجعا كبيرا في المعلومات عن الحياة المصرية، حيث تحدث عن معدن الزمرد في أسيوط (جنوب)، وعن الجراد الذي يأتي من خارج مصر، لكنه سرعان ما يموت فيها.
وفي البيوع، قال إن المصريين يبيعون الدجاج بالكيلة وليس بالواحدة كسائر البلدان، وأحصى في القاهرة عدد المعماريين والأطباء والجراحين والصيادلة والنساجين والخياطين والتجار والجزارين وسائر أصحاب الصناعات والحرف.
كما أحصى عدد المنازل والحمامات والآبار، وتحدث عن الجوامع، وأهمها الجامع الأزهر، وبلغت دقته في التدوين والتسجيل أنه كان يدون مساحة الأحياء الشهيرة وعدد طوابق الدكاكين.
كل هذا غيض من فيض تفاصيل رحلة أوليا جلبي الطويلة، فالمقام حتما لا يتسع ولو لجزء بسيط من التفاصيل التي دونها حول الدول الكثيرة التي زارها.
لكنها محاولة لتسليط الضوء على تلك الشخصية العثمانية الفذة المجهولة لدى كثير من العرب، من أجل فتح الطريق للبحث عن سيرته والتعرف عليه.
وقد توفي أوليا جلبي في إسطنبول، عام 1684، في أواخر عهد السلطان مراد الرابع، عن عمر ناهز 74 عاما، بعد رحلة أسفار طويلة قطعها بين عامي 1640 و1683م، ليبرز حقيقة أن التاريخ العثماني عامر بشخصيات حضارية فذة أسهمت في خدمة الإنسانية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!