د. علي حسين باكير - تلفزيون سوريا
أعلنت الولايات المتّحدة يوم الأحد الماضي أنّها قامت بإقناع أرمينيا بقبول وقف لإطلاق النار في ناغورنو قره باغ، وأنّ أذربيجان رفضت ذلك قبل أن يعلن الطرفان الأذربيجاني والأرميني لاحقاً وقفاً مؤقتاً لإطلاق النار لدواعٍ إنسانية. وفي السياق نفسه، طلبت روسيا من تركيا أن تقوم باستخدام نفوذها من أجل الضغط على أذربيجان للقبول بوقف دائم لإطلاق النار مشيرة إلى أنّه لا حلَّ عسكرياً للأزمة.
ويعطي سياق التصريحات الأميركية والروسية للوهلة الأولى انطباعاً بأن هناك أزمة وقعت بين أذربيجان وأرمينيا وأنّ الجانب الأذربيجاني يرفض حلّها بالطرق الدبلوماسية على الرغم من "التنازل" الذي قدّمته أرمينيا بقبولها وقف إطلاق النار. بمعنى آخر، يعتقد المتابع لمواقف واشنطن وموسكو أنّ أذربيجان هي المعتدية وأنّها تريد التصعيد في الوقت الذي تسعى فيه جميع الأطراف بما في ذلك أرمينيا إلى خفض التصعيد وصولاً إلى الحل.
لكن، في حقيقة الأمر، فإنّ وقف إطلاق النار الذي ساد خلال ال30 عاماً الماضية هو أحد أهم أسباب اندلاع الحرب الأخيرة وذلك لأنّ وقف إطلاق النار يعني أنّه بإمكان أرمينيا الاحتفاظ بأراضي أذربيجان التي احتلتها قبل نحو ثلاثة عقود، وهذا من دون شك بمثابة خسارة فادحة لأذربيجان لا سيما أنّها انتظرت جيلاً كاملاً دون أن تستعيد شبراً واحداً من أراضيها في وقت كان من المفترض فيه أن تقوم به مجموعة "مينسك".
تمّ إنشاء مجموعة "مينسك" تحت مظلة منظمة التعاون والأمن في أوروبا في العام 1992 وذلك لحل الأزمة بين أذربيجان وأرمينيا بعد أن قامت الأخيرة باحتلال نحو 20% من مساحة أذربيجان، يترأس المجموعة كل من الولايات المتّحدة وروسيا وفرنسا. منذ ذلك الوقت حتى اليوم، لم تقم المجموعة بأي شيء يُذكر باستثناء بعض البيانات والتصريحات التي تطالب بضرورة الحفاظ على وقف إطلاق النار وإدانة الخروق التي تحصل بين الفينة والأخرى.
انتظرت أذربيجان المجموعة سنوات طويلة دون أن تستعيد أراضيها المحتلة. علاوةً على ذلك، فقد استغلت أرمينيا العقود الثلاثة الماضية لتقييم وقائع جديدة على الأرض لا سيما من الناحية الديمغرافية والاجتماعية والاقتصادية بعد أن تمّ تهجير نحو مليون أذربيجاني من المناطق التي احتلتها أرمينيا. السؤال البديهي الذي يطرح نفسه في مثل هذا المقام هو، لماذا لم تستطع مجموعة مينسك أن تُحقّق ولو تقدّماً طفيفاً في الأزمة خلال كل هذه المدّة؟
المجموعة تمّ تأسيسها لتكون منحازة في الأساس إلى أرمينيا، وهذه هي المشكلة الأولى التي تعاني منها المجموعة. روسيا حليف قوي ليريفان ولديها قاعدة عسكرية في البلاد واتفاقية دفاع تخوّل موسكو التدخل لحماية أرمينيا من أي اعتداء خارجي. الدعم الروسي لأرمينيا هو الذي مكّن الأخيرة من احتلال معظم الأراضي الأذربيجانية التي تقع تحت سيطرتها اليوم.
أمّا الاتحاد الأوروبي، وإن شدّد على علمانيته في الخطابات كثيراً إلاّ أنّه في نهاية المطاف منحاز. هناك كلمة شهيرة منقولة عن الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري ديستان الذي يصف الاتحاد الأوروبي بالـ (النادي المسيحي). لطالما قدّمت أرمينيا نفسها إلى العالم الخارجي من زاوية أنّها دولة مسيحية في محيط مسلم، هذه السردية الاضطهادية المتخيّلة مصحوبة بالكراهية للعنصر التركي يتمّ استخدامها اليوم لكسب الدعم من روسيا وفرنسا والولايات المتّحدة الأميركية، دول تولي للدين أهمّية في الملفات الإقليمية وإن أنكرت ذلك رسميا.
كان من المفترض أن توازن الولايات المتّحدة من دور روسيا وفرنسا الداعم لأرمينيا، لكن هذا لم يحصل أبداً. الولايات المتّحدة شأنها شأن باقي متزعّمي المجموعة لديها أقليّة أرمنيّة قويّة. اللوبي الأرمني في هذه الدول قوي مقارنة بأذربيجان وهذه هي المشكلة الثانية التي تعاني منها مجموعة "مينسك". يمكن ملاحظة هذا الأمر من خلال التصريحات الأخيرة للرئيس الأميركي ترامب الذي لم يكتف باستمالة الأرمينيين (الآن لدينا أرمينيا، إنهم أشخاص مذهلون، يحاربون مثل الشياطين)، بل كان يبدو وكأنه يلقي اللوم على أذربيجان أيضاً (قدمنا عرضاً لوقف إطلاق النار وأذربيجان رفضت).
المفارقة أنّ هناك ثلاثة قرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي تطالب بانسحاب أرمينيا من الأراضي الأذربيجانية التي احتلتها، بالإضافة إلى قرارين من الجمعية العامة للأمم المتّحدة للتأكيد على وحدة وسلامة الأراضي الأذربيجانية. في كل هذه القرارات اقترن التشديد على ضرورة وقف إطلاق النار بمطالبة أرمينيا بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها. مجموعة “مينسك” ركّزت على الشق الأوّل وهو ضرورة وقف إطلاق النار وتناست الجزء الثاني. ولهذا السبب بالتحديد، تحوّل وقف إطلاق النار إلى أزمة لأذربيجان لأنه يرسّخ الأمر الواقع ويُمكّن أرمينيا من البقاء في الأراضي المحتلة إلى أجلٍ غير مسمى.
المشكلة الثالثة هي أنّ تمكين أرمينيا أصبح مصلحة مشتركة لدول مجموعة "مينسك"، ولذلك، وبدلاً من أن تبحث الدول عن حل للأزمة، اعتبرت بشكل غير مباشر أنّ الحل يكمن في إبقاء الوضع على ما هو عليه إلى الأبد. حاولت أذربيجان تحييد الانحياز المطلق لهذه الدول لأرمينيا من خلال شراء مزيد من الأسلحة من روسيا التي تحوّلت إلى أكبر مصدّر للأسلحة إلى باكو، وفعلت الشيء نفسه مع إسرائيل التي احتلت المرتبة الأولى العام الماضي كأكبر مصدّر للسلاح لأذربيجان، لكن ذلك لم يساعد باكو عملياً، فاقترحت الأخيرة إدراج دول أخرى في المجموعة قبل بضع سنوات من بينها ألمانيا وتركيا وبعض الدول التركية الأخرى لكنّها لم تنجح في ذلك.
الآن وتحت ضغط العمليات العسكرية الأذربيجانية، يحاول ثلاثي "مينسك" تجميد الصراع مرّة أخرى بدلاً من مطالبة أرمينيا بالانسحاب. أذربيجان واعية تماماً لهذه المسألة ولا تريد أن تنتظر 30 عاماً إضافياً دون حصول تقدّم، لذلك فهي تشدد على ضرورة مطالبة أرمينيا بالانسحاب أو على الأقل تحديد جدول زمني يلتزم به جميع الأطراف بما في ذلك تلك الداعمة لأرمينيا من أجل أن تسحب يريفان في نهايته قواته من الأراضي التي احتلها.
إعادة الملف إلى مجموعة "مينسك" لن ينجم عنه شيء يذكر باستثناء ترسيخ الاحتلال الأرمني خاصة إذا لم يتم إعادة تشكيل المجموعة لإحداث التوازن المطلوب للدفع باتجاه الحل المنشود.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس