جو حمّورة - المفكرة القانونية
في 31آذار/مارس الماضي، قامت الدائرة الرابعة لمحكمة الجنايات في إسطنبول بتبرئة 236 عسكرياً كان حُكم عليهم بالسجن بتهمة التحضير لانقلاب على الحكومة. وفيما يأتي هذا الحكم بعد سلسلة طويلة من الاعتقالات والمحاكمات كان قد تعرّض لها أفراد من الجيش التركي منذ العام 2010، إلا أن العام 2014، شهد، كذلك، الإفراج عن عدد آخر منهم، ومن بينهم ضباط من أعلى المراتب.
ويعود القسم الأبرز من هذه الاعتقالات إلى قضيتين منفصلتين تتعلقان بتحضير أعضاء من الجيش التركي لانقلابين على الحكومة المدنية، كان من المزمع تنفيذهما بعد وصول حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي إلى الحكم في العام 2002. إلا أن القوة الشعبية والسياسية التي يتمتع بها الحكم الجديد، كما تحالفاته الداخلية ومتطلبات الدخول إلى الإتحاد الأوروبي، أدّت إلى إضعاف قدرة المؤسسة العسكرية التركية على التدخل في الحياة السياسية التركية كما درجت عليه العادة.
وكان الجيش التركي قد قام منذ نشأة الجمهورية التركية بتنفيذ أربعة انقلابات عسكرية بحجة الحفاظ على علمانية الدولة، فيما عمد إلى التدخل في الحياة السياسية التركية بشكل دائم، متحصناً بالصلاحيات الدستورية التي أعطاها لنفسه بعد تنفيذ انقلابه الأول في العام 1960. غير أن الحزب الحاكم، المعادي تقليدياً للصلاحيات السياسية للجيش التركي، تمكّن منذ العام 2004 من تخفيف نفوذه دون الاصطدام به، فيما انتهى أمر أكثر ضباط الجيش علمانية في السجون على أثر قضيتي "إرغنكون" و"باليوز".
بناء مشروعية تَسَيّد الجيش على الحكم المدني
قد يَصح القول أن التاريخ العسكري المجيد للأتراك العثمانيين من ناحية، كما تمازج هوية مؤسّس الجمهورية مصطفى كمال "أتاتورك" المدنية (رئيس للجمهورية) مع خلفيته ورتبته العسكرية (مارشال) من ناحية أخرى، هي أسباب جوهرية جعلت من المؤسسة العسكرية والمهنة المرتبطة بها تحظى بدور واحترام كبيرين في تركيا. وبفعل هذا الواقع، استطاعت مؤسسة الجيش التركي، والتي حملت لواء العلمانية والقومية من مؤسّسها، أن تكون اللاعب الأبرز في تاريخ تركيا الحديث، فيما أوكلت لنفسها مهمة الحفاظ على أفكار "أتاتورك" وتسَيّدها على السلطةبعد وفاته عام 1938.
وفيما بقيت الأوضاع وفق أهواء المؤسسة العسكرية حتى نهاية الخمسينيات من القرن الماضي. إلا أن هذه الفترة بدأت تشهد صعوداً لقوى الإسلام الصوفي من ناحية والحركات اليسارية من ناحية أخرى. فعمد الجيش عام 1960، وتحت شعار الدفاع عن علمانية الدولة وقوميتها، إلى تنفيذ أول إنقلاب دموي له مؤكداً بهذا قدرته على التدخل في الحياة السياسية التركية وإدارته لدفة الحكم بشكل مباشر.
لم يكتفِ الانقلابيون باستخدام القوة فحسب، بل لجأوا كذلك إلى شرعنة تدخلهم في الحياة السياسية وذلك عبر قوننة صلاحياتهم وتقويتها داخل النظام السياسي التركي. فعمدوا في العام 1961 إلى إنشاء "مجلس الأمن القومي" وإسناده بصلاحيات دستورية للتدخل في السلطة السياسية وأوكلوا إليه مهمات فضفاضة. كما أقروا، بحسب المادة 118 من دستور العام 1961، ومن ثم التعديلات التي طرأت على المادة نفسها في دستور العام 1982، تعيين أعضاء المجلس من القيادات السياسية الرسمية (رئيس الجمهورية والحكومة وبعض الوزراء) من جهة، وقادة الجيش التركي والفرق العسكرية المتنوعة من جهة أخرى. فيما بات المجلس يمارس الحكم الفعلي ويُسقط قرارات الحكومات المدنية ويراقب عملها ويفرض عليها سياساته بعد العام 1961، خصوصاً أنه تم إعتماد مبدأ التصويت "الديمقراطي" داخل المجلس حين تدعو الحاجة، فيما أتى توزيع المقاعد داخله بشكل جعل من أعداد العسكريين فيه أكثر من المدنيين.
استطاع جنرالات الجيش التركي العلمانيون أن يضمنوا آليات مشروعة لتدخلهم في الحياة السياسية، مؤكدين في أكثر من مناسبة، وبحكم الدستور والممارسة، تسَيّد المؤسسة العسكرية على المدنيين في السلطة. فبات الحكام المدنيون مجرد مظهر من مظاهر الديمقراطية الشكلية، فيما أن القرار السياسي الحقيقي في الدولة هو لجنرالات "مجلس الأمن القومي" وليس للسلطة التنفيذية ومدنييها. فكانت النتيجة أن قام الجيش بتقويض كل الحركات الإسلامية واليسارية والكردية والعلوية، ونفذ ضدها ثلاثة انقلابات أخرى في الأعوام 1971 و 1980 و 1997.
وبإستثناء انقلاب 1997، أخذت الإنقلابات الثلاثة الأخرى طابعاً دموياً، فيما كان الثابت فيهم أنّ تصرّف الجيش الانقلابي كان هجومياً واستباقياً للحؤول دون وصول القوى اليسارية أو الإسلامية إلى الحكم أو تقويض علمانية الدولة. إلا أن وصول حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي إلى السلطة في العام 2002 غيّر من علاقة السلطة العسكرية بتلك المدنية بعد أن دفعت هذه الأخيرة نحو تغيير شكل هذه العلاقة بإستخدام ورقة الدخول إلى الإتحاد الأوروبي والإستناد على قوتها وشرعيتها الشعبية.
انقلاب مدني على المؤسسة العسكرية
مع تشكيله لحكومته الأولى بشكل أحادي في العام 2002، أضحى حزب "العدالة والتنمية" أكثر تحرّراً في مواجهة المؤسسة العسكرية المدافِعة عن علمانية الدولة. في البدء، عمل الحزب الحاكم على تطبيق سياسات اقتصادية واجتماعية حسّنت من أوضاع الأتراك، فزادت من شعبيته بشكل مضطرد إلى يومنا هذا. بالإضافة إلى ذلك، شكّل قرار القمة الأوروبية عام 2004 بتحديد الثالث من تشرين الأول/أكتوبر من العام التالي موعداً لبدء مفاوضات انضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروبي فرصة نادرة للحكومة للتخلص من شرعية تدخل المؤسسة العسكرية في الشؤون السياسية.
وبما أن شروط انضمام أي دولة جديدة إلى الإتحاد الأوروبي مرهونة بمدى توافق ظروفها الداخلية مع "معايير كوبنهاغن" التي حدّدها الإتحاد لقبول عضوية أي دولة جديدة، وجد الحزب الحاكم نفسه، بداية العام 2004، أمام أجندة خارجية أجبرته على تنفيذ إصلاحات وانتهاج سياسات داخلية متنوعة ليلقى قبولاً في النادي الأوروبي. وعلى الرغم من أن موضوع الانضمام للإتحاد لا يلقى، تقليدياً، حماساً لدى الحزب الإسلامي الحاكم، إلا أنه لم يعارضه، خصوصاً أنه أمّن له حجة للشروع في إقرار إصلاحات تهدف لمنع المؤسسة العسكرية من التدخل في الشؤون السياسية، على اعتبار أن سيطرة المدنيين على المؤسسات العسكرية هو معيار أساسي من معايير "كوبنهاغن".
إعتماداًعلى قوته الشعبية وترؤسه للحكومة بشكل منفرد من ناحية، وضرورة إجراء إصلاحات داخلية تتماشى مع "معايير كوبنهاغن" من ناحية أخرى، أقر حزب "العدالة والتنمية" إصلاحات في العام 2004 جعلت من "مجلس الأمن القومي" مجرد هيئة استشارية. تبعاً لذلك، لم تعد قرارات المجلس إجبارية للحكومة كما كانت سابقاً، كما تم تغيير هوية أمين سرّه، المناط به وضع جدول أعماله، من عسكري إلى مدني. لم يعنِ فقدان جنرالات المؤسسة العسكرية لقدرتهم القانونية على التدخل في الشؤون السياسية أن نفوذهم قد انتهى بشكل حاسم، فيما كان للأحداث التي جرت في السنوات القليلة التالية الأثر الأكبر في تحقق هذا الأمر.
خلال شهر حزيران/ يونيو من العام 2007، اكتشفت الشرطة التركية أسلحة مخبأة في منزل ضابط تركي متقاعد، فتحولت هذه القضية إلى فضيحة شوهت سمعة الجيش، كما أدت، بعد التحقيقات المتتالية، إلى اعتقال شبكة كبيرة من الضباط الأتراك بتهمة التحضير لانقلاب على الحكومة. بالإضافة إلى ذلك، عمدت صحيفة "طرف" التركية بينعامي 2009 و 2010 إلى نشر وثائق لقضيتي "باليوز" وإرغنكون" بشكل شبه يومي، وهما خطتان إنقلابيتان كانت قد عملت مجموعة من ضباط الجيش التركي على وضعهما بغية تنفيذهما ضد الحكومة التركية.
وعلى أثر اعتقال الضباط، اندلعت أزمة سياسية بين رئيس الحكومة في حينها رجب طيب أردوغان وقائد الجيش "إسحق كوسينر"، حيث طالب هذا الأخير بتوقيع الحكومة لترفيعات وترقيات لبعض من ضباطه الموقوفين. لكن أردوغان رفض هذا الأمر، فاستقال "كوسينر" ومعه قادة القوات البرية والبحرية والجوية متهمين الحزب الإسلامي بتنفيذ مؤامرة على الجيش التركي".
لم تكترث الحكومة التركية كثيراً للاستقالات أو الاتهامات التي كيلت ضدها، فقامت بتعيين قادة جدد خلفاً للجنرالات الذين استقالوا عام 2011. علاوة على ذلك، قامت الحكومة بعدها بعدّة أشهر باعتقال قائد الأركان في الجيش التركي "إلكر باشبوغ" واتهتمه بالإنتماء لجماعة إرهابية والتخطيط لانقلاب على حكومة أردوغان، كما اعتُقل قائد إنقلاب العام 1980 "كنعان إيفرن" في نفس الفترة. فيما كانت المحصلة النهائية هي اعتقال ومحاكمة حوالى 500 عسكري، معظمهم من الرتب العليا، وعشرات الأكاديميين والصحافيين التي أثبتت التحقيقات والمحاكمات تورطهم في مخططيْ الانقلابين، ووعد صريح من أردوغان أن "زمن الانقلابات في تركيا قد ولّى".
أما النتيجة الأبرز لكل ما قام به الحزب الحاكم، فكانت تحقيقه لانتصار سياسي عبر تنفيذ إنقلاب أبيض على المؤسسة العسكرية، من خلال تأسيس علاقة جديدة بين الطرفين بعد التخلص من آلية فرض الجنرالات توصياتهم التنفيذية على الحكومةعبر "مجلس الأمن القومي". وساهمت استقالة قادة المؤسسة العسكرية التركية كما الاعتقالات التي طالت أبرز ضباطه في كسر شوكة الجيش، وبات جهازاً تنفيذياً بيد الحكومة المدنية منذ العام 2011، وانتهى بذلك دوره كمنافس لها كما كان الحال عليه في السابق.
أسلمة الجيش والإفراج عن "الانقلابيين"
تبعاً لإفقاد مؤسسة الجيش التركي القدرة على التدخل في الشؤون السياسة وحمل لواء الدفاع عن علمانية الدولة والمجتمع، أصبح حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي، ومنذ العام 2011، أكثر تحرراً في تطبيق سياساته الإسلامية المحِافظة. وكان الحزب قد قام منذ ذلك التاريخ بتطبيق العديد من السياسات الإسلامية التي طالت كافة المجالات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والدينية في تركيا، مستفيداً من ضعف المؤسسة العسكرية وانعدام قدرتها على ردعه.
بالإضافة إلى ذلك، باتت السياسات الإسلامية تطال الجيش التركي العلماني نفسه عبر إدراج التعليم الديني في المواد التعليمية لعناصره، كما ازداد حضور رجال الدين في إحتفالاته العامة. هذه التطورات دفعت العديد من الضباط من ذوي التوجه العلماني إلى اختيار التقاعد المبكر وترك الخدمة في الجيش، خصوصاً أن هذا الأخير كان قد شهد عودة العديد من الشخصيات المرتبطة بالجماعات الإسلامية إلى صفوفه.
مع تواري الجيش في ثكناته وخضوعه للسلطة السياسية المدنية، بات الضباط العلمانيون الموقوفون عُرضة للمحاكمات بعد أن فقدوا الحماية السياسية التي كان يؤمنها لهم الجيش التركي. تبعاً لذلك، وبعد حوالى خمس سنوات من المحاكمات التي شغلت تركيا، صدرت الأحكام على العدد الأكبر من الضباط والأكاديميين والصحفيين الموقوفينبين عامي 2012 و 2013، حيث تراوحت معظمها بين السجن لفترة اثني عشر عاماً والسجن المؤبد.
إلا أن مكوث الضباط المعتقلين في السجن لم يدمْ طويلاً، إذ تم الإفراج عن المحكومين في قضية "أرغنكون" في العام 2104، والمحكومين في قضية "باليوز" في شهر آذار/مارس من العام 2015 بعد إقرار المحكمة بأن كل الأدلة التي قُدمت خلال المحاكمة كانت مفبركة. ومن غير المصادفة، ربما، أن يكون الإفراج عن المتهمين في القضيتين قد أتى قبل أشهر قليلة من إجراء أهم انتخابين في تركيا. ففيما أتى الإفراج الأول قبل أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية التركية في العام 2014 التي فاز فيها أردوغان، يأتي الإفراج الثاني قبل أشهر قليلة من الإنتخابات البرلمانية التي ستجري في حزيران/يونيو 2015، والتي من المتوقع أن تكون حاسمة من ناحية حسم الجدل حول إقرار دستور ونظام رئاسي جديد في حال فاز حزب "العدالة والتنمية" بها بنسبة كبيرة.
وعلى الرغم من أن الاعتقالات كلها قد تكون نابعة من مؤامرة سياسية كما يحلو لعلمانيي تركيا من مدنيين وعسكريين أن يرددوا دوماً، والإفراج قد تكون له أهداف سياسية تتماشى مع إنتهاج الحزب الحاكم سياسات قومية قبل كل انتخابات لحصد المزيد من الأصوات، إلا أن الثابت الوحيد هو أن الجيش التركي ما عاد قادراً على التدخل في الشؤون السياسية كما كان عليه الوضع سابقاً. فيما الإفراج عن الضباط وعودتهم إلى الحرية لم يعنِ بأي حال من الأحوال إمكانية عودتهم للعمل السياسي أو العسكري، حيث أن هوية الجيش وقيادته قد تبدلت بشكل كبير في السنوات الخمس الأخيرة لصالح الإسلاميين، وباتت مؤسستهم مجرد جهاز تنفيذي ينحصر عمله في تنفيذ ما تأمره به السلطة المدنية الشرعية.
فبعدما جرت العادة في تركيا أن يقوم الجيش بانقلاب عسكري ضد الحكومات المدنية، فإن كل ما جرى منذ العام 2004 قد أوحى بالعكس، إذ أن أردوغان وحزبه الإسلامي كانوا هم من قاموا بانقلاب على الجيش حامي العلمانية. فمنذ ذلك التاريخنجح "العدالة والتنمية"في تحويل نجاحاته التكتيكية على الصُعد الاقتصادية والاجتماعية والشعبية إلى انتصار استراتيجي أدى في نهاية المطاف إلى إفقاد الجيش عناصر قوّته.فكان استخدام "ورقة" الدخول إلى الإتحاد الأوروبي طريقة مناسبة لإفقاد المؤسسة العسكرية صلاحياتها الدستورية في التدخل في الشؤون السياسية، فيما أدّت كل من قضيتي "إرغنكون" و "باليوز" غرضهما في إبعاد أكثر الجنرالات العلمانيين راديكالية عن السلطة، ما فتح المجال أمام الحزب الإسلامي ليدير دفة الحكم بشكل أحادي، وبالتالي تطبيق سياساته الإسلامية في المجتمع والسلطة تباعاً.
بالعودة إلى بداية المسيرة العسكرية والسياسية لمؤسس الجيش التركي الحديث، قال مصطفى كمال مرة عام 1909 أمام مناصريه: "رفاقنا في الجيش يجب أن يتوقفوا عن التدخل في السياسة.. بل ينبغي عليهم أن يوجّهوا كل جهودهم لتقوية الجيش بدلاً من ذلك. وعلى الرغم من أن الجيش التركي لم يطبق يوماً هذه "النصيحة"، يبدو بعد مئة عام أن مشيئة "أتاتورك" قد تحققت على يد الحزب الإسلامي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس