سيد أمين - الجزيرة مباشر
ليس خافيا على أحد أن النفوذ التركي المتزايد في قارة إفريقيا صار رافدا دافقا لصب المزيد من الزيت على نار الغضب الغربي المتقدة أصلا نحو تركيا، وذلك لأسباب مباشرة وهي أنها تحل تدريجيا محل الوجود الفرنسي والغربي في هذه القارة السمراء، ولأسباب غير مباشرة تتمثل في وجود العديد من نقاط تضارب المصالح بين الطرفين.
ومن أهم تلك النقاط ما يتمثل في سلوكها مسار عدم الانحياز إزاء الحرب الروسية الأوكرانية رغم أن الغرب توقع منها انحيازا كاملا إلى أوربا نظرا إلى عضويتها البارزة في حلف الناتو.
ومنها كذلك اتباعها ذات السياسة في كافة المسائل الدولية التي بنت عليه سعيها للتوجه شرقًا نحو الصين، وجنوبًا نحو المنطقة العربية، وشمالًا من أجل مد وتدعيم أواصر التعاون والانتماء مع مجموعة الدول التركية، مع وضعها علاقاتها الأوربية والروسية في سلة واحدة من الاهتمام، لكن أخطر ذلك سعيها للحفاظ على علاقات طبيعية مع إيران.
ولعل التقدم الكبير الذي أحرزته إسطنبول في الصناعات عامة، والصناعات العسكرية والدفاعية خاصة، قد عزّز بشكل كبير مكانتها الدولية وصعّد في نفس الوقت المخاوف الغربية خاصة مع وجود ملفات تقليدية أخرى لا تزال عالقة في قبرص واليونان والحدود البحرية، والأهم من هذا وذاك هو سعي تركيا لاستعادة ثقافتها وإرثها الحضاري الفريد والاعتزاز بهويتها العثمانية.
هذا البعث الجديد دفع مجلة دي أس إي (DSI) الفرنسية المتخصصة في الأمن والدفاع إلى مطالبة حكومة بلادها والدول الأوربية وأمريكا بالعمل بأقصى سرعة لتوقيف التغلغل التركي في إفريقيا ولا سيما في دول إقليم الساحل والصحراء الكبرى، معتبرة أنه تغلغل يهدد أوربا كلها وأمريكا والحلف الأطلسي وليس فرنسا فقط التي انهار نفوذها الإمبراطوري في تلك القارة بشكل دراماتيكي في السنوات العشر الأخيرة.
وهو ما أكده أيضا تقرير نشره موقع مجموعة الأزمات الدولية (ICG) العام الماضي، ذكر أن النفوذ التركي في منطقة الساحل والصحراء يتجاوز العلاقات الاقتصادية، وأنه يحل محل النفوذ الفرنسي تدريجيا، كما برهن المراقبون على صحة هذا الطرح بأن مولود جاووش أوغلو كان هو أول وزير خارجية يلتقيه قادة مالي الجدد بعد طرد القوات الفرنسية من أراضيهم.
ومنذ بدء الألفية الجديدة بدا واضحا جدا التوجه التركي الجاد نحو تلك القارة حيث وصل عدد السفارات والقنصليات التركية فيها إلى قرابة 42، فضلًا عن ورود معلومات عن التخطيط لاستئناف العمل لعقد قمة تركية إفريقية بحضور ما يزيد على 50 دولة، تأجل عقدها العام قبل الماضي بسبب جائحة كورونا.
المهم أن الغرب يتجاهل حقيقة مؤكدة وهي أن النفوذ التركي في إفريقيا لم يأت جراء ميراث تمدد استعماري كما هو الحال الذي ورثته فرنسا أو بريطانيا وغيرها من الدول الأوربية في مستعمراتها القديمة، ولم يأت في إطار علاقات التبعية التي تفرضها الولايات المتحدة عادة على الأطراف الأخرى، ولكن جاء في إطار علاقات إنسانية واقتصادية متبادلة تسعى من خلالها لإحداث نهضة اقتصادية وعلمية وحضارية تعود مردوداتها على الجميع.
كما أن النشاط التركي في هذه البلدان لا يسعى أبدا لحرمانها من امتلاك أدوات الاستقلال بل إن تركيا تزوّدها بالأسلحة المتطورة، فضلا عن أنها لا تعمل على نهب مواردها الخام كما دأبت على فعله الدول الاستعمارية الأوربية منذ قرون، وهي كذلك ليست مهتمّة بالتأثير الثقافي التركي في القارّة خلافًا للدول الغربية.
هذا فضلًا عن أن شعوب تلك البلدان وهي في أغلبها بلدان ذات أغلبية مسلمة تنظر بقلب حنين إلى الدولة العثمانية باعتبار أنها كانت خلافة إسلامية بذلت أقصى جهدها لحماية أسلافهم من الوقوع في براثن الاستعباد الذي اتبعه الاستعمار الغربي حتى لو لم تنجح في ذلك بسبب تمددها على بقعة جغرافية كبيرة في العالم.
الأرقام توضح الصورة، فقد نفذت تركيا ما يزيد على 2500 مشروع عملاق في هذه القارة بتكلفة إجمالية تزيد على 70 مليار دولار خلال السنوات العشر الأخيرة في مجالات تنموية ودفاعية متعددة مثل محطات الكهرباء ومصانع الأدوية والأغذية والصناعات التحويلية والعسكرية وغيرها.
أما حجم التجارة الثنائية بينهما فقد وصل العام الماضي إلى 30 مليار دولار، ومن المتوقع وصوله إلى نحو 50 مليار دولار العام القادم، وتضاعفت الاستثمارات في العقدين الأخيرين لتصل إلى 1.6 مليار دولار بعد أن كانت 390 مليون دولارا فقط عام 2001م، وتجاوزت الصادرات التركية إلى القارة 21 مليار دولار في نفس العام مقابل 10 مليارات دولار من الواردات الإفريقية إلى تركيا، وهي البيانات التي تؤكد أن العلاقات التركية الإفريقية قائمة على تبادل المنافع.
بالطبع حجم التبادل التجاري هنا ليس بكثير إذا ما قورن بنظيره الفرنسي صاحب الجذور التي تمتد أكثر من قرنين من الزمان، لكن بلا شك هو لافت بشدة خاصة أنه يأتي بعد أقل من عقدين من التوجه التركي نحو إفريقيا، ونجح خلال هذه المدة في سحب البساط من تحت أقدام دول النفوذ الاستعماري القديم.
من الواضح أن فرنسا من أول المتضررين من الحلفاء الجدد لإفريقيا، ويكفي أن نضرب مثالا بسيطا لذلك بأن في باريس نحو 58 مفاعلا نوويا تزوّد البلاد بغالبية احتياجاتها من الطاقة ومعظم اليورانيوم المطلوب لهذه المفاعلات يُستخرَج من دول إفريقية ولا سيما النيجر التي كانت توفر لفرنسا 20% من احتياجاتها قبل قرار قادة النيجر الجدد بمنع ذلك.
وينبغي أن لا ننسى أن الأفارقة حينما وجهوا ضربات متتالية إلى النفوذ الفرنسي في العقد الأخير لم يكن بسبب التدخل التركي ولا الروسي ولا الصيني، ولكن بسبب إصرار باريس على التعامل مع هذه الدول على أنها مستعمرات لا أقران، وعدم تصديقها أن نظام الحكم بـ”الريموت كنترول” أصبح مكشوفا للجميع.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس