صالحة علام - الجزيرة مباشر
تعد العلاقات التركية الروسية من أكثر العلاقات الدولية إثارة للجدل والنقاش نتيجة للتطورات المتلاحقة التي تمر بها مؤخرا، إذ تحولت بشكل مفاجئ منذ بداية الألفية الثانية، وتحديدا عام 2004 من مرحلة الصراع التاريخي بين الدولتين، التي استمرت على مدى خمسة قرون، ورسخت حالة من العداء المتبادل المعلن بينهما، إلى مرحلة تقارب وتعاون، وتبادل مصالح متصاعد، حتى وصفت خلال السنوات القليلة الماضية بأنها علاقات استراتيجية.
يعود الفضل في هذا التحول الكبير الذي شهدته علاقات البلدين إلى آليات التعاون الاقتصادي الموسع الذي اعتمداه في ترميم علاقاتهما، خاصة في مجال الطاقة، إذ أصبحت روسيا أهم شريك تجاري لتركيا، متخطية بذلك ألمانيا، بعد أن تبوأت السوق الروسية المركز الثالث للصادرات التركية، ووصل حجم التبادل التجاري بينهما عام 2021 إلى 33 مليار و25 مليون دولار، مرتفعا بنسبة 57% عن عام 2020.
كما قامت روسيا في سبيل تعميق علاقاتها الاستراتيجية مع تركيا بتنفيذ العديد من المشروعات الاستثمارية الضخمة، يتصدرها مشروع خط أنابيب السيل التركي لنقل الغاز الطبيعي من أراضيها إلى دول أوربا عن طريق تركيا، إضافة إلى تنفيذ مشروع محطة آق قويو النووية في مرسين بجنوب تركيا، بتكلفة 20 مليار دولار، إلى جانب تزايد حجم السائحين الروس الزائرين لتركيا.
فوفقًا لإحصائيات وزارة السياحة التركية بلغ عدد الروس الذين زاروا تركيا العام الماضي 4 ملايين و945 ألفا و198 سائحا، محتلين بهذا المركز الثاني بعد ألمانيا في الجنسيات الأكثر زيارة لتركيا.
توسيع نطاق التعاون التجاري والاقتصادي مهّد لوضع الأسس الكفيلة بإقامة تعاون سياسي، وتحالف استراتيجي مهم بينهما، انعكس على الكثير من القضايا والملفات الإقليمية والدولية خصوصا في مناطق البلقان، والقوقاز، والشرق الأوسط، أبرز مناطق التوتر في العالم.
ورغم تباين الرؤى وتضارب المصالح في العديد من قضايا هذه المناطق، بدءًا من الصراع الأذربيجاني الأرمني، والقضيتين الشيشانية والكردية، ومرورا بالمشكلة القبرصية، وانتهاءً بالأزمتين السورية والليبية، واختلافات وجهات نظرهما بشأنها، فإن ذلك لم يؤثر في التحالف القائم بينهما، ولم يمثل عائقا حقيقيا لعلاقات الصداقة التي كانت آخذة في التقدم والازدهار على مدى السنوات الماضية.
وقد سعت تركيا إلى الوقوف على الحياد حينما قامت روسيا باجتياح جورجيا عام 2008، كما رفضت بشكل قاطع المشاركة في العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على روسيا عقب بدء أزمتها مع أوكرانيا 2022، وحاولت القيام بدور الوسيط بين البلدين لوقف الحرب، ونجحت في عقد اتفاق يقضي بتصدير الحبوب الأوكرانية والروسية عبر موانئها على البحر الأسود، ويمنع وقوع أزمة غذاء عالمية.
لكن الرياح لا تأتي دوما وفق ما تشتهي السفن، إذ بدأت تلوح في الأفق فجأة بوادر أزمة سياسية، تنذر بانقضاء شهر العسل بين البلدين، والدخول في مرحلة عداء جديدة؛ وذلك بسبب عدة تصرفات أقدمت عليها تركيا مؤخرا، اعتبرها المسؤولون الروس عدائية، وموجهة بصورة مباشرة ضد مصالح بلادهم في توقيت حرج.
تغاضت روسيا عن تصويت تركيا لصالح إدانة غزوها لأوكرانيا في الأمم المتحدة، وإصرارها على المضي قدما في مد كييف بطائرات مسيّرة، مثلت رمزا لقوة وثبات المقاومة الأوكرانية، وقيامها بتوقيع اتفاقية معها للتعاون العسكري، واتفاقية إنتاج مشترك لتصنيع الطائرات التركية المسيّرة إلى جانب اتفاقيات التجارة الحرة.
كما لم تغضب قبل ذلك من رفض أنقرة الاعتراف بضمها لشبه جزيرة القرم ودونباس عام 2014، إلا أنه لن يكون بمقدورها بعد الآن قبول مواقف تركيا، التي أصبحت تُصنف في الداخل الروسي على أنها تصرفات عدائية تأتي من خصم لديه أجندة خاصة به، وليس حليفا يمكن الوثوق به مجددا.
تحول الموقف الروسي من تركيا، لم يأت في الحقيقة من فراغ، حيث اتخذت أنقرة عدة قرارات متتالية أوجعت بها موسكو، وبدت كأنها تتخلى عن الصداقة التي جمعتهما خلال ما يقارب عقدين، وأنها تضحي بعلاقاتهما التي توصف بأنها استراتيجية من أجل العودة إلى أحضان حلف الناتو والاتحاد الأوربي، والولايات المتحدة الأمريكية، تحقيقا لمصالح وأهداف تسعى إلى تحقيقها.
يمكن تلخيص مواقف أنقرة التي أثارت حفيظة موسكو في النقاط التالية:
1 – قيام تركيا بتسليم الرئيس الأوكراني خلال زيارة قام بها الشهر الماضي لأنقرة، خمسة من قيادات ميليشيا آزوف النازية، وهو ما يعد انتهاكا صارخا لاتفاقية تبادل الأسرى بين أوكرانيا وروسيا، التي تعهد خلالها الرئيس التركي بعدم السماح لهؤلاء الأسرى بالعودة إلى أوكرانيا إلا بعد انتهاء الحرب بين البلدين.
2 – موافقة تركيا على قبول عضوية السويد في حلف الناتو، وتحويل ملفها إلى البرلمان للتصديق عليه عقب عودته من الإجازة الصيفية، أي في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، رغم اعتراض موسكو على هذه الخطوة، واعتبارها موجهة ضدها، إذ تمثل خطرا على أمنها القومي.
3 – تعهد الرئيس التركي شخصيا بالعمل على دعم انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، حينما يقرر أعضاء الحلف بدء مناقشة طلبها، كما أعلن تقديم بلاده لكافة التكنولوجيا التي تحويها المسيّرات التركية هدية لكييف، وهو الموقف الذي قوبل باستحسان وإشادة من جانب واشنطن.
4 – إعلان أنقرة عزمها المحافظة على سياستها التي تخص موقعها داخل حلف الناتو، واستمرار سعيها الدؤوب للانضمام إلى الاتحاد الأوربي، وهو ما اعتبرته موسكو رسالة ضمنية تؤكد تركيا من خلالها أن حلم اللحاق بمقطورة الغرب لا يزال يراودها، وأن بوصلتها لن تتغير يوما باتجاه الشرق، ولن تكون أحد عناصر التحالف الروسي الإيراني الصيني في مواجهة الناتو وأوربا والولايات المتحدة الأمريكية.
ويبدو أن السبب وراء هذا التحول في موقف تركيا اتجاه روسيا، هو استمرار أزمتها الاقتصادية الطاحنة، فرغم المكاسب التي جنتها من هذه العلاقة، فإنها لم تكن بالقدر الكافي لإخراجها من هذا المستنقع، فقررت إدارة بوصلتها مجددا باتجاه الغرب، ولعل تماهيها مع رغبات حلف الناتو والاتحاد الأوربي، واختيار مجموعة محسوبة على واشنطن لتولي إدارة اقتصاد البلاد، خير دليل على هذا.
لكن من الجلي أن روسيا ستتخذ هي الأخرى تحركات من شأنها تهديد المصالح التركية إقليميا ودوليا، يظهر ذلك من إصرارها على رفض تمديد العمل باتفاقية تصدير الحبوب حتى الآن، رغم المباحثات التي أجراها الرئيسان أردوغان وبوتين، ووزيرا خارجية البلدين، إلى جانب إلغاء زيارة الرئيس المصري التي كانت مقررة لأنقرة في طريق عودته من موسكو، عقب انتهاء القمة الإفريقية الروسية، وهو الإلغاء الذي تم على ما يبدو بإيعاز من بوتين.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس