د. محمد الصغير - الجزيرة مباشر
العنصرية من الأمراض القديمة المتوطنة، فقد واكبت بداية الخليقة وظهور الإنسان الأول، بل تعد سبب أول عصيان لأوامر الله، حيث امتنع إبليس عن السجود لآدم، مفضلًا عنصره على العنصر الذي خلق منه البشر {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف:12].
ومن ذلك يتضح أن داء العنصرية معناه الافتخار بالأصل والعنصر، ومنه جاءت التسمية، وإبليس هو زعيم عصابة الأنا، وأول من فتح باب الشر، وقدوة كل من يلجون منه.
يطل قرن العنصرية كلما رق الدين وضعف الإيمان، وكلما اتسعت رقعة الجاهلية زادت مظاهر العنصرية، روى الترمذي من طريق ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال:
“يا أَيُّها الناسُ إنَّ اللهَ قد أَذْهَبَ عنكم عُبِّيَّةَ الجاهليةِ، وتعاظُمَها بآبائِها، فالناسُ رجلانِ: رجلٌ بَرٌّ تَقِيٌّ كريمٌ على اللهِ وفاجرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ على اللهِ، والناسُ بَنُو آدمَ، وخلق اللهُ آدمَ من ترابٍ”، كما حذر رسول الله ﷺ من خطورتها وعواقبها في البيان الأول الذي ألقاه في مكة المكرمة: “لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] قامَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ علَى الصَّفا، فقالَ: يا فاطِمَةُ بنْتَ مُحَمَّدٍ، يا صَفِيَّةُ بنْتَ عبدِ المُطَّلِبِ، يا بَنِي عبدِ المُطَّلِبِ، لا أمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شيئًا، سَلُونِي مِن مالِي ما شِئْتُمْ”. رواه مسلم، وعنده أيضًا: “لا يأتيني الناس يوم القيامة بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم، واعلموا أنه لن يدخل أحدكم الجنة بعمله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل»، وختم رسول الله ﷺ في حجة الوداع بمثل ما بدأ به فقال: “أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ، ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ، ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسْودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ، إلَّا بالتَّقوَى إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ.” أخرجه البيهقي من طريق جابر بن عبد الله.
جاء الإسلام بمشروع كامل لمجابهة الرق والعبودية، والقضاء على كل مظاهر العنصرية، فوضع خطة محكمة لتجفيف منابع الرق، وفتح الباب واسعًا أمام وسائل العتق كلها، وأعطى رسول الله ﷺ نموذجًا عمليًا في كسر حاجز الطبقية وقيود العنصرية، فزوّج مولاه زيد بن حارثة من بنت عمته زينب بنت جحش، وتزوج بلال من زهرة بنت عوف أخت عبد الرحمن، وأهلها أخوال رسول الله ﷺ، وخطب من الأنصار لصاحبه الفقير جُليبيب، وكأي مرض عضال فإن العنصرية لا تذهب بالكلية، وإنما تبقى لها آثار، وإن استطاع المرء أن يكبتها حينًا، فقد تغلبه في أحيان، كما وقع للصحابي الجليل أبي ذر الغفاري فيما رواه البخاري: “لَقِيتُ أبَا ذَرٍّ بالرَّبَذَةِ، وعليه حُلَّةٌ، وعلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عن ذلكَ، فَقالَ: إنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بأُمِّهِ، فَقالَ لي النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا أبَا ذَرٍّ أعَيَّرْتَهُ بأُمِّهِ؟ إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أيْدِيكُمْ، فمَن كانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ ممَّا يَأْكُلُ، ولْيُلْبِسْهُ ممَّا يَلْبَسُ، ولَا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ، فإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فأعِينُوهُمْ”.
قد تبقى في الإنسان بعض رواسب الجاهلية، أو تطفو بعض مظاهرها على السطح، وهذا يتطلب يقظة الفرد، ومراقبة المجتمع.
لا أظن أن مجتمعًا من المجتمعات يخلو من عنصرية، وأحيانًا ما تكون عرضًا جانبيًا لشدة التمسك بالهوية، أو تطرفًا في الاعتزاز بالنفس، والشأن في سائر الفضائل إذا خرجت عن حدها ووسطيتها، تنتقل إلى التطرف، فإن الإسراف زيادة عن الكرم، والتهور تطرف في الشجاعة، وليس معنى ذلك أن الكل في العنصرية سواء، فلا شك أن بعض الثقافات تغذي خلاياها، وهناك من يرسخها من خلال وسائل تعليمية وعادات مجتمعية، ودليل ما ذهبت إليه أن العنصرية تكون بين أبناء البلد الواحد، باعتبار الجغرافيا والمناطقية، “قبلي وبحري”، “بدو وحضر”، أو تاريخ القدوم أيهما قدم أولًا، ثم تنتقل العنصرية داخل العائلة الواحدة، أو أبناء الرجل الواحد، فهذا من الفرع الكبير، أو الطبقة العليا، وذاك من الفرع الفقير أو الطبقة الأقل، كما قال الشاعر عن بني تيم، وهم من بطون قريش وأبناء الرجل نفسه:
ويُقضى الأمر حين تغيب تيم…
ولا يُستأمرون وهم شهود!
لذا كان رسول الله ﷺ يقدم الترياق المضاد للمرض العضال في كل مرحلة، فأمر بلال بن رباح الحبشي أن يؤذن فوق الكعبة يوم فتح مكة، وهو الذي كان قبل سنوات ملقى على أرضها، ويعذب تحت بصر أهلها، ويردد في صبر وجلد: أحد أحد، وبعض من رأوه على تلك الحال، وسمعوا منه التوحيد المكرر، يرونه فوق الكعبة معلنًا: الله أكبر.. الله أكبر.
فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فإن قوانين الله جعلت التكريم لكل ذرية آدم {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70].
وعند القدوم عليه في الآخرة لا عبرة بما يعتدون به {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101].
وأما غير المؤمنين فإن كانوا ممن يرون الإنسان كان في الأصل قردًا، فبأي أصل يفخرون، وبأي عنصر يتيهون؟
ومن كان من دعاة الحضارة والمدنية، فإن الحضارات لا تقوم على العنصرية، وإن قيمة الإنسان فيما يوضع قبل اسمه، لا فيما يأتي بعده، فإن ما يوضع من أوصاف قبل الاسم هو كسبه الشخصي، وبه يكون أثره وفخره، وما فعله الأجداد إن لم يجدد درس وبلي، كما تبلى أجسادهم:
كُن اِبنَ مَن شِئتَ واِكتَسِب أَدَبًا…
يُغنيكَ مَحمُودُهُ عَنِ النَسَبِ
فَلَيسَ يُغني الحَسيبُ نِسبَتَه…
بِلا لِسانٍ لَهُ وَلا أَدَبِ
إِنَّ الفَتى مَن يُقولُ ها أَنا ذا…
لَيسَ الفَتى مَن يُقولُ كانَ أبي.
ولو أخذنا الحالة التركية نموذجًا معاصرًا، فإن المجتمع التركي فيه عنصرية داخلية، أشد من عنصريته على الأجانب، وما زال هناك من يقسم المجتمع إلى السود والبيض، أو باعتبار العرق والأصل القومي، ثم يأتي بعد ذلك التقسيم حسب الأفكار والاتجاهات، وهذا ليس في تركيا وحدها، لكن تضخيم ما يحدث فيها من أفعال عنصرية تجاه العرب تحديدًا، هو مناكفة سياسية في ثياب عنصرية، نظرًا لانتصار حزب العدالة والتنمية والرئيس رجب طيب أردوغان، وهذه جولة أخيرة من الانقلابات بعد فشل الانقلاب العسكري، ثم الاقتصادي والحرب على الليرة، وجاء الدور الآن على الانقلاب الاجتماعي، وغرس الفتنة بين الأتراك وضيوفهم من العرب، سواء السائحين أو المقيمين، وهذا يحتم على العقلاء من الطرفين السعي لإفشال المخطط ونزع فتيل الفتنة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس