ترك برس

أكد الكاتب والصحفي المصري سيد أمين أن نجاح الدراما التاريخية التركية لم يتقصر فقط على تذكير الشعب بتاريخه العريق وهويته الإسلامية بل إنه شمل استخراج المفاخر الكبيرة التي كان مخطط لها النسيان في هذا التاريخ الذي هو بالمناسبة ذاته تاريخ العالم الإسلامي للعالم كله.

وقال أمين في مقال على موقع الجزيرة مباشر إن الدراما التاريخية محت الصورة النمطية السلبية السائدة في العالم أجمع عن الدراما التركية بوصفها دراما الخيانات الزوجية وقصص الشذوذ والانحراف والعلاقات غير السوية، وأعطتها الجدية والمهابة الواجبة بما يتلاءم مع تاريخها العريق.

وأشار إلى أن "العرب بحاجة ماسة إلى تكرار ذات الأمر الآن، بحاجة إلى الرجوع للوراء لأن في هذا الماضي كل مسببات نجاح مستقبلنا، فقد عانينا طيلة سنوات طويلة مضت من أن إعلامنا ومؤسساتنا الثقافية يديرها من لا يريد لنا الخير، وهدفه إغراقنا في جدليات التنابز والفرقة والإقصاء لتخلو له الأجواء ليشكل مجتمعاتنا المبعثرة والمتناحرة كما يشاء".

و في ما يلي نص المقال:

لا شك أن الرأسمالية الوطنية في الوطن العربي -إن كانت لا تزال موجودة- لا سيما تلك القادرة على البذل والعطاء وإدارة المشروعات الوطنية الكبرى دون انتظار ربح سوى خدمة قضية بناء الإنسان العربي، تأخرت كثيرًا في هذا الملف، وتركت البسطاء ممن لا يتابعون الأخبار السياسية والمطحنة الجبارة التي لا تتوقف رحاها لحظة بين هم عام وخاص، نهبًا لأنواع أخرى من وسائل الإعلام أو قل الاستقطاب.

فتلك الشاشات التي يتحلق حولها هؤلاء الناس لمشاهدة الدراما بأنواعها تكاد تكون هي المصدر الوحيد لمعلوماتهم الفكرية والتاريخية والسياسية، ما أوقعهم بسهولة ضحايا لعملية احترافية لتشكيل أدمغتهم حسب هوى المنتج والعارض ومَن خلفهما دون أن يدروا، ودون أن يكون ذلك متوافقًا مع قناعاتهم الفطرية التي يؤمنون بها، ولا مع مصالحهم الوطنية والدينية وحتى الشخصية، متى أعطيت لهم حقائق المعلومات وفرصة التعبير عنها دون وقوعهم تحت أي مؤثرات أو عوامل تشويش.

ومع ذلك فإنه لا يزال هناك متسع من الوقت لتدارك الخطأ ورتق الثقوب الآخذة في الاتساع في جسم سفينة الوعي الواقعة بين هذا الخضم المتلاحق من الأكاذيب والمؤامرات التي تستهدف تحويل شعوبنا إلى قطيع مدجن يقود نفسه بنفسه إلى المسلخ.

قبل عدة عقود من الآن، وبعدما أتت سياسة التتريك أوكلها التي هي كانت في الأساس معنية بنزع الهوية الإسلامية عن البلاد وحصر البلاد في حدودها الضيقة، كان الحديث عن الخلافة العثمانية في الداخل التركي يعادل تمامًا الحديث عن عصور الظلمات في الدول الأوروبية، على الأقل في نظر الجهات الرسمية التي ضيقت بشكل حاد على أي مظاهر تربط هذا البلد بتاريخه الاسلامي، فنشأت في هذا الواقع القسري الجديد أجيال عديدة تعاني انفصامًا عميقًا بينها وبين تراثها التليد الذي جرى تشويهه بقصد لتنفيرهم منه.

وحينما ارتعشت يد السجان وما عادت قادرة على إحكام قبضتها، نجحت البذور الأصيلة في أن تنبت مجددًا في قصر الحكم، فلما نمت وشبت كان من ضمن أهدافها صناعة دراما وطنية تعيد تحميل الذاكرة الوطنية في قلوب ونفوس الأجيال المغيب وعيهم ليلتحم فيها الحاضر بالماضي.

نجحت الدراما التاريخية التركية ليس في تذكير الشعب بتاريخه العريق وهويته الإسلامية فحسب، بل نجحت أيضًا في استخراج المفاخر الكبيرة التي كان مخطط لها النسيان في هذا التاريخ الذي هو بالمناسبة ذاته تاريخ العالم الإسلامي للعالم كله.

فضلًا عن أنها محت الصورة النمطية السلبية السائدة في العالم الأجمع عن الدراما التركية بوصفها دراما الخيانات الزوجية وقصص الشذوذ والانحراف والعلاقات غير السوية، وأعطتها الجدية والمهابة الواجبة بما يتلاءم مع تاريخها العريق.

نحن العرب بحاجة ماسة إلى تكرار ذات الأمر الآن، بحاجة إلى الرجوع للوراء لأن في هذا الماضي كل مسببات نجاح مستقبلنا، فقد عانينا طيلة سنوات طويلة مضت من أن إعلامنا ومؤسساتنا الثقافية يديرها من لا يريد لنا الخير، وهدفه إغراقنا في جدليات التنابز والفرقة والإقصاء لتخلو له الأجواء ليشكل مجتمعاتنا المبعثرة والمتناحرة كما يشاء.

فقد تشبع الناس خاصة النشء بدراما لا تعبر بتاتًا عنا واستمدوا منها وعيهم بالحياة، حيث إنها تغوص بين واقعين افتراضيين على طرفي نقيض بين مجتمعات فخمة وفارهة تروج لأنماط استهلاكية وثقافية قد لا تكون موجودة في الواقع، وإن وجدت فهي لا ترتكز إلا في نسبة الـ1%، ما يجعل النشء الذين يواجهون الواقع يكفرون بقيمة الجد والاجتهاد والعمل ويلهثون خلف الثراء السريع أيما كان الثمن.

وبين واقع آخر انتهازي يعطي الانطباع بأن الحياة لا تسير إلا هكذا، ولا سبيل سوى تحقيق الغاية بأي وسيلة مهما كانت دنيئة، والمؤسف أن هذا النوع من التردي، امتصه المجتمع سريعًا، تحت وطأة التضييق على كل مؤسسات النصح والإرشاد والتوجيه، في المساجد والمدارس والنماذج الاجتماعية والفكرية، فصار الواقع أقبح من الدراما، مضافًا إليه الكثير من المعاناة حيث الفقر المدقع، والفساد المستشري، والاستبداد الطاغي، واللجوء والحرب، والظلم السياسي والطبقي والطائفي والقبلي، وفساد السلطات وغيرها.

وما كان أبدًا لهذا الخراب أن يحدث لولا تلك الحرب الدائمة ضد كل ما هو اصلاحي، وكل ما هو توعوي، رغم أن الهدف من الدراما أساسًا هو تقديم النصح والعظة، وتعميق صلة الناس بمجتمعهم ومقدساته.

لذلك أصبح الاستثمار في الدراما الهادفة والبناءة واجبًا وطنيًا واجتماعيًا وحتى أمنيًا، يعادل تمامًا في قيمته الاستثمار في المدارس والمساجد، بحيث نربي نحن أبناءنا حتى لا يربيهم لنا غيرنا.

 

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!