عبد الرحمن السراج - خاص ترك برس

يشوب القراءات الحاليّة لوضع الاقتصاد التركي تناقض مردّه إلى انخفاض قيمة الليرة أمام الدولار الأمريكي للأسبوع الثامن على التوالي، في سلسلة غير مسبوقة من الانخفاضات منذ عام 1999، في وقت تجاوز فيه معدّل نمو الاقتصاد التركي خلال الربع الثاني من العام الجاري توقّعات الاقتصاديين، حيث وصلت نسبة النّمو إلى 3,8% ووصل الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية إلى 158,4 مليار دولار أمريكي، ليواصل الناتج المحلي الإجمالي التركي ارتفاعه للسنة الخامسة على التوالي، كما حقّقت الحكومة التركية فائضًا في الموازنة بلغ 208 ملايين دولار خلال الشهور الثمانية الأولى من عام 2015، حسبما أعلنت وزارة المالية.

حقّق سعر صرف الدولار مقابل الليرة التركية ارتفاعًا قياسيًا بلغ 3,07، لتواصل الليرة مسيرتها المتعثّرة هذا العام خاصة بعد انهيار عملية السّلام الداخلي المستمرة منذ ثلاث سنوات، في وقت حلّت تركيا فيه في المرتبة الثالثة بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من حيث نمو الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثاني مقارنة بالرّبع الأول مسجّلة نموًا حقيقيًا بنسبة بلغت 1,3 بالمئة. فما هي العوامل الرئيسية المؤثرة في هذا التّناقض؟

عدم الاستقرار الأمني والسياسي

يُواجه الاقتصاد التركي تحديًا أمنيًا بسبب الغموض الذي يكتنف الاستقرار السياسي في البلاد من ناحية الانتخابات المبكرة من جهة والحملة التي تشنها الدولة على المجموعات الإرهابية داخل وخارج تركيا من جهة أخرى. يؤدي هذا التحدي الأمني إلى زعزعة الثقة لدى المستثمرين بأداء الاقتصاد التركي على المدى المنظور، فيما يُنتظر صدور تقييم مؤسسة "فيتش" للائتمان التركي يوم الجمعة القادم الذي يُحذّر محلّلون من أنه قد ينتقل من "مستقر" إلى "سلبي"، وذلك مع غياب مؤشرات لعودة محادثات السلام مع تنظيم حزب العمال الكردستاني "بي كي كي" الذي تصنّفه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وأنقرة منظمة إرهابية وتصاعد التوتر السياسي في البلاد.

وزير المالية الخبير الاقتصادي في مؤسسة ميريل لينش سابقًا "محمد شيمشيك" أكّد أهمية الحفاظ على الاستقرار السياسي والعودة إلى أجندة إصلاحية للحفاظ على المكاسب الاقتصادية، وأشار في لقاء له على قناة "كانال 7" إلى أنّ الانضباط المالي حل محل الاستقرار السياسي وملف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي كواجهة لتركيا أمام العالم، مؤكدًا أنّه "في حال إضاعة هذه الفرصة من أجل حسابات انتخابية، ستواجه تركيا احتمال تصاعد العجزين، العجز في الموازنة والعجز في الحساب الجاري".

وأفاد المحلل الاستراتيجي في مؤسسة سوسيته جنرال Société Générale في لندن كيت جاكلز أن الليرة لديها المجال الأقل من بين عملات الاقتصادات النّاشئة في استعادة عافيتها قبل الانتخابات المبكرة في 1 تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، ومن المتوقع أن تواصل انخفاضها في حال استمرار نفور المستثمرين منها جرّاء الغموض السياسي في البلاد.

ورأى مدير الاستراتيجية الائتمانية في مؤسسة EMEA بلندن "تيم آش" أنه "يبدو من الواضح أن هناك أمرًا خاطئًا حينما ترى أرقامًا جيدة للناتج المحلي الإجمالي وأرقامًا أفضل في عجز الحساب الجاري وفي الوقت نفسه لا تزال الليرة تسجّل هبوطًا إلى مستويات قياسية"، مضيفًا في حديث مع بلومبيرغ أن "الوضع الكلي للاقتصاد هو في حالة جيدة، ويتطور في بعض المستويات، ولكن مع السياسات المحلية المرتبكة إضافة إلى الوضع الأمني، لا يزال المستثمرون يفضّلون البقاء على الهامش".

انخفضت قيمة الليرة التركية أمام الدولار بنسبة 23,6% منذ بداية العام (وول ستريت جورنال)

احتمال رفع معدلات الفائدة الأمريكية

منذ إعلان رئيسة الخزينة الفدرالية جانيت يلين في آذار/ مارس 2014 تغيير مُحدّدات تحكّمها بالفائدة واحتمال رفع الفائدة في عام 2015، انخفضت قيمة كل العملات الناشئة أمام الدولار، ومن هذه العملات الليرة التركية التي انخفضت بنسبة تتجاوز 30 بالمئة منذ ذلك الإعلان. ومن المقرر أن تُعلن يلين غدًا الخميس الموقف الأخير للخزينة الفدرالية بشأن رفع الفائدة.

يأتي انخفاض العملات الناشئة بشكل عام مع احتمال رفع الفائدة الأمريكية بسبب تحول بعض رؤوس الأموال الأجنبية التي تستثمر في الديون السيادية من هذه الدول إلى الولايات المتحدة التي ستبدو برفعها الفائدة أكثر ثقة باقتصادها وستكون أكثر جاذبية لهذا "المال الساخن (Hot money)"، وهو مصطلح يعبر عن رؤوس الأموال التي تتنقل بين مؤسسات التمويل في دولة واحدة أو بين دول مختلفة بحثًا عن مزيد من الرّبح، وتمتاز رؤوس الأموال هذه بأنها لا ولاء لها إلا للربح.

وقد توقع وزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكجي أن لا ترفع الخزينة الفدرالية الأمريكية الفائدة على الدولار لأن ذلك سيرفع من قيمته على نحو غير مستدام بالنسبة للاقتصاد الأمريكي وصادراته وإنتاجه على المدى الطويل، مشيرًا إلى أنّه حتى في حال رفعه فإنّ ذلك سيكون بنسبة ضئيلة تأقلمت الأسواق التركية معها مسبقًا، مضيفًا أنّه لن تكون هناك حاجة لتدخل البنك المركزي التركي لحماية الليرة مقابل الرفع المتوقع للفائدة الأمريكية بسبب قدرة الأسواق على إدارة الوضع.

تُركيا واقعيًا هي من أكثر الدول عرضة للتأثر من رفع الفائدة وذلك بسبب الخلل في التوازن الاقتصادي الذي سيتفاقم غالبًا مع انخفاض العملة. تُعد نسبة الدين الخارجي لتركيا إلى ناتجها المحلّي من بين النّسب الأكبر بين الاقتصادات النّاشئة. إلا أنّ محلّلين استبعدوا أن تعصف بالاقتصادات الناشئة أزمة اقتصادية تشبه أزمة تسعينيات القرن الماضي، وذلك بفضل تبنّي هذه الاقتصادات آليات إصلاحية لتدارك الأزمات مثل تعويم العملة، والاحتفاظ باحتياطيات كبيرة من العملة الأجنبية وزيادة إصدارات الدّيون بالعملة المحلية. وبانتظار قرار الخزينة الفدرالية الأمريكية والتأثير المترتّب عليه يظل تعافي الليرة التركية رهنًا بعودة الاستقرار السياسي.

عن الكاتب

عبد الرحمن السراج

رئيس تحرير موقع ترك برس وباحث في السياسات الأمريكية والعلاقات السورية الأمريكية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس