محمد إلهامي - تركيا بوست
تُقدّم السياسة التركية نفسها للعالم، وللعالم الإسلامي خصوصا، على أنها تقوم على المبادئ والأخلاق، ولئن كان هذا لا يهم الغربيين كثيرا فإن هذا هو رأس مالها الحقيقي لدى الشعوب الإسلامية، وبغيره لا تختلف تركيا أردوغان عن تركيا أتاتورك، ولم تكسب تركيا سمعتها في هذا العالم إلا بمواقفها من غزة ومصر وسوريا وبورما وتركستان الشرقية والصومال! وبعض من اهتم أكثر بالمتابعة يعرف لتركيا آياديها البيضاء في البلقان وفي رعاية النشاط الإسلامي في روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفيتي والمدارس الإسلامية في أوروبا.
ولئن كان وصف “العثمانيين الجدد” يثير في أوروبا البغضاء، فإن ذات اللفظ يثير في العالم الإسلامي شوقا وحنينا لأيام المجد الغابرة.
ومن قرأ لأحمد داود أوغلو بالعربية فسيكون قد قرأ له ثلاثة كتب هي ما ترجم إلى العربية، تلك هي: “الفلسفة السياسية”، و”العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية”، و”العمق الاستراتيجي”، وهذه الكتب الثلاثة على الترتيب تشرح ثلاثة أفكار رئيسية في السياسة التركية الجديدة هي:
النظام الإسلامي يتناقض جوهريا مع النظام الغربي ولا يمكن الالتقاء بينهما (الفلسفة السياسية).
الحضارة الغربية في مرحلة الإفلاس ولا يوجد في كل العالم بديل حضاري سوى البديل الحضاري الإسلامي (العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية).
لا يمكن لتركيا أن تتبوأ موقعا في الساحة العالمية إلا بإعادة بعث هويتها الإسلامية وإسناد عبقرية موقعها الجغرافي بثقلها وعمقها التاريخي الذي لا يمكن تجاهله ولا تغييبه.
وهكذا، فالسياسة التركية قدَّمت نفسا “نظريا” و”عمليا” على أنها وريثة العثمانيين، حاملة القيم والمبادئ الحضارية، وصاحبة البديل الحضاري القادم.
هل ستخسر تركيا لو أعادت علاقاتها مع مصر اليوم؟
في ظل هذا كله.. ماذا لو أعادت تركيا العلاقات مع مصر في ظل نظام حكم السيسي؟
النتيجة الأولى والأهم: هي الخسارة الاستراتيجية لما ظلّت تبنيه نظريا منذ عشرين سنة وعمليا منذ أربع عشرة سنة، لأنها خسارة السمعة التي بُنِيَت أصلا على هذه المبادئ، هو انتصار للعلمانية الكمالية والمصالح المادية على البديل الموعود والمبادئ المرفوعة! وهي خسارة استراتيجية خطيرة، إنها في الحقيقة إعلان لفشل التجربة في الصمود أمام قواعد وإرادة النظام العالمي.
ثم هي خسارة مادية استراتيجية بحجم الجمهور الذي كان يرى تركيا موضع أمل، فيتوجه نحوها بالتجارة ورؤوس الأموال، أو بالابتكارات والاختراعات، أو بالسفر والسياحة والإقامة، أو حتى بشراء المنتجات التركية والتعامل مع المصانع والمؤسسات والشركات التركية… إلخ!
وهذا الفشل لتجربة “إسلامية” في هذا الظرف بالتحديد ليس إلا هدية تستثمرها جهتان: العلمانيون من جهة، والمتطرفون من جهة أخرى، وهو إثبات جديد لتهمة أن “حزب العدالة والتنمية” ليس إلا الطلاء الإسلامي لجوهر علماني قح، وأن من نفّذوا انقلاب 1980 و 1997 قد انتصروا في النهاية!
سيُقال: لا بد لكل دولة أن تبحث عن مصالحها، وفي السياسة لا مكان للمبادئ بل للمصالح، أو بالأحرى المصالح هي التي تحدد المبادئ بل إن المبادئ لا تستعمل إلا للتغطية على المصالح!
والجواب: إن هذا الكلام نفسه علماني شكلا ومضمونا، بينما النموذج الإسلامي يجعل المبادئ ذاتها هي المصالح، ولذلك يُعبِّر علماء الأصول عن المصلحة من حيث نظر الشرع لها فتصير بهذا الميزان: مصالح معتبرة، أو ملغاة، أو مرسلة.. وأحيانا يعبّرون عنها بألفاظ: مصلحة مُعْتَبَرة ومصلحة مُتَوَهَّمَة. فالمبادئ أو المقاصد الشرعية في الإسلام هي التي تحدد المصالح وتضبطها.. ولا يُصار إلى ارتكاب مفسدة إلا لدفع مفسدة أكبر منها، وهذه هي حالة الاضطرار والإكراه!
فهل تركيا مضطرة أو مكرهة لفتح علاقات مع مصر في ظل النظام العسكري؟
الجواب: ربما، لا سيما في ظل انتشار أخبار ضغوط سعودية باتجاه هذه المصالحة، وربما قيل بأن مصالح تركيا الاقتصادية والسياسية تنمو وتنتعش أكثر في ظل علاقات مع النظام المصري أيا كان هذا النظام، لا سيما إن كان هذا النظام قد استقر واستتبت له الأمور.
ولا ريب أن مثل هذه الأمور لا يمكن نقاشها فضلا عن حسمها في مقال، إلا أن المقال يتّسع للتذكير ببعض أمور لعلها تنفع صانع القرار:
أولا: من حيث وجود رغبة سعودية، فإنه مهما اختلف الرأي في شأن السعودية ومدى كونها حليفا يُعتمَد عليه، ومدى كونها تملك ضغطا حقيقيا على نظام السيسي.. مهما اختلف الرأي في هذا فإن قرارا كإعادة العلاقات مع نظام العسكر لن يكون نهاية العلاقات مع السعودية، فحاجة السعودية في هذه اللحظة لتركيا لا يمكن أن تتوقف عند هذا الموضوع، فكيف إذا كان القرار يحمل خسارة استراتيجية وفقدانا لسمعة تركيا لدى الشعوب المسلمة ولدى طلائعها الثورية والفكرية والاقتصادية والعلمية كذلك؟!!
ثانيا: من حيث وجود مصالح اقتصادية وسياسية، فينبغي أن يكون معلوما أن مساحة استقلال النظام المصري تقترب من الصفر، فهو ليس سوى واجهة للمصالح الإسرائيلية والأمريكية، ولهذا فإن تجديد هذه العلاقة لا يساهم في نمو المصالح التركية بقدر ما يضيف قيدا جديدا وسقفا جديدا إسرائيليا أمريكيا تدخل تركيا تحته.. النظام المصري لا يفكر في مصلحة البلد بحال، بل هو مجرد ذراع لا يمكن الوثوق به ولا البناء على العلاقات معه.
ولو لبسنا قناع العلمانية، وفكرنا كعلمانيين فقط، فإن أي مصلحة اقتصادية أو سياسية في مصر يمكن الحصول عليها بطرق غير رسمية وغير معلنة ومن خلال الرشاوى وشراء الذمم، من غير تفريط في الشعار “الإسلامي” المرفوع للسياسة التركية والذي جلب لها الكثير من المصالح وفتح لها طريقا لمستقبل تقود فيه العالم الإسلامي (راجع مقال: تركيا في توقعات جورج فريدمان)! أي أن الأمر لا يحتاج إلى إعادة علاقات على الحقيقة. وهو ذات الأمر الذي قد يُلْجَأ إليه في حال الاضطرار والإكراه المُفْضِي إلى اختيار أهون الضررين وأقل المفسدتين.
ثالثا: هل استقر فعلا النظام المصري؟
هنا أذكّر مرة أخرى بما كتبته في مقال سابق بعنوان “موقع مصر في المشروع التركي“، وقلت فيه ما يلي:
“تنتشر في التقارير المرفوعة للإدارة الأمريكية من لجان متخصصة أو مراكز دراسات، نغمة تقول باستحالة الاعتماد على السيسي في مكافحة “الإرهاب”، فقد انتهى تقرير مطول لخبير مرموق في الشأن المصري إلى أن النظام المصري لا يستطيع أن يكون شريكا في مكافحة الإرهاب بل على النقيض من ذلك فإنه يمثّل عبئا في هذا الملف[1]، وإلى ذات النتيجة انتهى تقرير آخر كتبه “إليوت إبرامز” لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي[2] وتقرير آخر كتبه “إيريك تريجر” المحلل المعروف ذو الميول الصهيونية[3]، وقد أشارت التقارير الثلاثة إلى مسألة لا يُنتبه لها كثيرا وهي أن النظام المصري يتعامل مع كل الإسلاميين كشيء واحد، وهو ما يجعله غير كفء في الاعتماد على معلوماته لدى أي جهاز أمني أو مخابراتي غربي، كما أن هذا التعامل أدى إلى اختلاط السجناء من شباب الثورة ومن لا انتماء لهم مع الإخوان مع الجهاديين، وذلك ما أدى إلى اعتناق أفواج جديدة من الشباب لفكر الجهاديين مما يُتوقع معه أنه قد صُنِع جيل جديد سيعمل ضد هذا النظام. كذلك فإن بعض الإشكاليات تظل عالقة بين الطرفين: الأمريكان والعسكر المصري، وقد رصد بعضا منها ستيفن كوك –وهو خبير أمريكي متخصص في الشأن المصري، وممن يوصي بمزيد من الدعم الأمريكي للسيسي- منها: أن الأمريكان يريدون إعادة هيكلة الجيش المصري ليتحول من جيش نظامي مقاتل إلى فرق لمحاربة الإرهاب بينما يرفض العسكر المصري الاستجابة لهذا حفاظا على امبراطورية العسكر السياسية والاقتصادية، وهم يربطون قدرتهم بمكافحة الإرهاب على مزيد من الدعم الأمريكي العسكري والمالي، بينما يبدو الأمريكان غير مرحبين بزيادة الإنفاق في هذا السبيل[4].
والمقصود أن المصلحة التركية تقتضي الدفع ضد هذا النظام الذي يمثل الآن تهديدا لمصالحها وستزيد خطورته وتهديده كلما استقر أكثر”.
إن المراهنة على استقرار النظام المصري ليست مراهنة رابحة ولا مضمونة حتى اللحظة، بينما الخسارة إذا أعيدت العلاقات متحققة ظاهرة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس