محمود عثمان - خاص ترك برس

يشهد الميدان العسكري تراجعًا اضطراريًا لكتائب الجيش الحر، أمام عدوانية ووحشية القصف الروسي الذي يطبق سياسة الأرض المحروقة بأقسى وأبشع صورها، وعجز الدول الصديقة والشقيقة التي تبنت المعارضة السورية عن تقديم الحد الأدنى من الدعم العسكري واللوجستي الذي يمكن ثوار المعارضة المسلحة من الاحتفاظ بمواقعهم كأضعف الإيمان. مما بات يشير إلى أن الأمريكان جادون في تنفيذ تهديدات جون كيري للمعارضة السورية بأنها سوف تتعرض للتصفية إن هي لم تذعن لشروط التسوية المهينة التي يعرضها عليهم الروس والإيرانيون.

يدرك الأمريكان وبقية اللاعبين الآخرين بأن أطراف النزاع في سورية قد وصلت إلى أقصى حد يمكنها أن تصل إليه، وأن سياسة عض الأصابع التي تستخدمها جميع أطراف النزاع قد شارفت على نهايتها، وكلما اقتربت النهاية كلما ازداد نزق الروس وجنونهم، وعلت وتيرة استفزازهم لتركيا على وجه الخصوص لأن معركتهم الأصلية ليست مع كتائب الجيش الحر، ولا مع السوريين، إنما هي مع الغرب والناتو تحديدًا.

مقابل ذلك تمارس تركيا أعلى درجات ضبط النفس من أجل عدم الانسياق وراء الاستفزاز الروسي، لأنها تعلم جيدا أنها ليس الهدف الأساس للروس، بل إنها – تركيا - كانت حتى البارحة حليفا شبه استراتيجي لهم، إذ بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين أرقاما قياسية جاوزت ثلاثين مليار دولار، وتطورت العلاقات السياسية بينهما إلى مستوى التعاون الاستراتيجي، وحتى الصداقة الشخصية بين كل من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلادمير بوتين كان يشار إليها بالبنان.

فما هي الأسباب التي أدت الى تدهور العلاقات بين روسيا وتركيا بهذه السرعة؟

ما يميز الاستراتيجية الأمريكية الحالية غموضها، واستهدافهم للصديق والعدو معًا!. حيث تقوم هذه الاستراتيجية على إضعاف الخصم بوسائل ناعمة تسحب من تحته البساط وتجرده من سلاحه دون أن تترك له ذريعة الرد الخشن. فروسيا على سبيل المثال كانت ضمن الدول العشر الأولى  في تسلسل الدول الصناعية الكبرى حتى عام 2012 ثم بدأت بالنزول إلى مرتبة الثالثة عشرة، وهي مرشحة للهبوط أكثر بسبب تراجع أسعار النفط إلى أرقام قياسية، إضافة إلى خسارتها 160 مليار دولار بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبل الغرب بسبب احتلالها شبه جزيرة القرم من أوكرانيا، والحرب التي تخوضها في سورية والتي كلفت ميزانيتها ما يقارب ملياري دولار حتى الآن، وهذا الرقم مرشح للزيادة بطبيعة الحال.

من ناحية أخرى فقد هبط اعتماد أوروبا على الغاز والبترول الروسي من 85% في الثمانينات إلى ما يقارب 43% عام 2015. فإذا علمنا أن البترول والغاز إلى جانب السلاح هي الأصناف شبه الوحيدة التي يبيعها الروس، عندئذ ندرك مدى الحصار الناعم الذي تعيشه روسيا، التي تسعى إلى ملء فراغ القطبية الأحادية التي كرستها الولايات المتحدة الأمريكية كونها قطبيًا دوليا أحاديا لا يقبل الشراكة، ويسعى إلى إغراق المنافسين المحتملين، سواء كان خصمًا مثل روسيا، أو حليفاً مثل ألمانيا.

فالتحرش الروسي بتركيا ليس لأنها خصما لروسيا , وليس لأن مصالح البلدين الاستراتيجية في حالة تعارض وتناقض، إنما هو ناتج عن حاجة الروس لاستجرار الناتو إلى حالة التوتر والاحتكاك الخشن، وربما إلى حرب محدودة يخشى كثير من المراقبين أن تتحول إلى حرب كونية، ويشبه البعض سورية ببولندا قبيل الحربين العالميتين. لأن استمرار الحال كما هي عليه الآن من شأنه أن يكرر سيناريو أفغانستان المرعب للروس، ولا بوادر لحسم عسكري كامل رغم تقدم الروس على بعض الجبهات.

كما أن هناك شبه اتفاق بين المحللين السياسيين الاستراتيجيين على أن الأمريكان لن يتدخلوا في هذا الظرف بالذات سواء قامت حرب اقليمية واسعة أو محلية محدودة، حيث الانتخابات الأمريكية على الأبواب، ولا تهديد يذكر لمصالح أمريكا التي باتت محدودة في منطقة الشرق الأوسط. بل إن الأمريكان لم يتدخلوا على مدار التاريخ في الحروب الأوربية إلا في مراحلها الأخيرة النهائية من أجل ترجيح الكفة، ثم الظهور بمظهر البطل المنتصر الذي حسم المعركة. لذلك هم لم يدفعوا أي ثمن للحرب يذكر بسبب تكتيكاتهم أولًا، وبعدهم جغرافيًا ثانيًا، وهم الآن يقفون نفس الموقف، المتفرج غير المعني تجاه مطالب الروس وحماقاتهم واستفزازاتهم، رغم مسؤولية الأمريكان التاريخية والأدبية تجاه تركيا حليفهم الاستراتيجي في حلف الناتو، والشعب السوري كونهم القوة العظمى والقطب العالمي الأوحد.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس