سعيد الحاج - إدراك
تميزت تركيا بل وتفردت بموقف عالي السقف من نظام الانقلاب في مصر لأسباب عديدة بعضها متعلق بمصر وبعضها الآخر متعلق بتركيا نفسها، وكان هذا الموقف التركي سبباً لقطع نظام الانقلاب العلاقات الدبلوماسية ثم الاقتصادية معها. بيد أن متغيرات عدة وأسباباً متنوعة مهدت لتصريحات تركية راغبة في تصويب العلاقة مع القاهرة بشروط معينة. ولأهمية الدولتين وحساسية الملفات التي يمكن أن تتأثر بأي تقارب محتمل أو وشيك بينهما، وفي محاولة لاستشراف مستقبل العلاقة بين العاصمتين الإقليميتين، يكتسب فهم أبعاد الموقف التركي وآليات صناعته ومحدداته أهمية استثنائية.
تسعى هذه الورقة لوضع أسس ومحددات السياسة الخارجية التركية بخصوص مصر، ضمن رؤية تأصيلية نظرية – عملية شاملة، بحيث تشكل إطاراً واسعاً من إدراك ممكنات ومعيقات المصالحة التركية مع النظام في مصر يمكن الاستفادة منه في مختلف المراحل ومع مختلف التطورات، أبعد من مجرد التركيز على اللحظة الآنية.
يمكن اعتبار هذه الورقة وعاءً واسعاً يحتوي آلية صنع القرار التركي بما يتعلق بالعلاقة مع مصر، انطلاقاً من أهمية مصر في الاستراتيجية التركية، وبناءً على أسس السياسة الخارجية التركية في عهد العدالة والتنمية بشكل عام، واعتماداً على تحديد رؤية وممكنات ومراجعات صانع القرار في أنقرة.
محددات السياسة الخارجية التركية إزاء مصر
استهلال
ربما لم تكن الثورة المصرية الأولى في العالم العربي وفق الترتيب الزماني، لكنها كانت الأهم والأكثر تأثيراً ولفتاً للأنظار، لما تحظى به مصر من مميزات حبتها بقوة ناعمة خاصة في العالم العربي والمنطقة، ولما حملته ثورتها من إشارات على تغيرت جذرية في توازنات المنطقة.
ومن الأمور التي تغيرت مع ثورات العالم العربي – وخصوصاً المصرية – الموقف التركي المتحفظ والبعيد عن التورط في أي تحيزات أو مواقف واضحة وعلنية فيما يتعلق بشؤون الدول العربية، فكان أن اتخذت أنقرة مواقف مؤيدة للمطالب الشعبية في وقت مبكر جداً.
وقد حرصت تركيا على أن تنسج علاقات تعاون مميزة مع الوضع المستجد في الدولة العربية الأكبر بعد الثورة، سيما مع تصدر حركة الإخوان المسلمين للمشهد السياسي فيها، بيد أن الانقلاب في 2013 سد الطريق على كل ذلك.
فقد عارضت تركيا علناً ما جرى في مصر على يد السيسي، وأصرت على تسميته “انقلاباً عسكرياً”، ورفضت الاعتراف بنتائجه ومخرجاته والتعامل مع القائمين على الوضع بعده، منتقدة انتهاكات حقوق الإنسان والأوضاع القانونية غير السوية، مما أوصل الأمور بين البلدين – على غير رغبة أنقرة ربما – إلى حالة القطيعة التامة.
بيد أن جديداً طرأ على الموقف التركي بعد المتغيرات الإقليمية الكثيرة وفي مقدمتها الأزمة السورية فضلاً عن تثبيت نظام الانقلاب أركان حكمه وعوامل أخرى مهمة، مما دفع بأنقرة للتصريح على لسان أكثر من مسؤول فيها برغبتها في إنهاء القطيعة مع القاهرة وعودة العلاقات “بين الشعبين”، مما أوحى بقرب تطبيع العلاقات بينهما. الأمر الذي يطرح أسئلة جدية ومحورية حول إمكانية هذا التطبيع ومحفزاته والعوائق أمامه، وانعكاسات كل ذلك على مجمل الوضع في مصر والإقليم. وهو ما يزيد من أهمية فهمنا لمحددات الموقف التركي من مصر، ورؤية الأولى للعلاقة مع الثانية، وآليات صناعة القرار التركي بخصوص القاهرة، بما يساعد على فهم واقع العلاقات الثنائية وتقييم أنقرة لها واستشراف المستقبل.
أهمية مصر بالنسبة لتركيا
ربما لا تجمع بين مصر وتركيا حدود برية، لكن ذلك لا يعني أنهما بعيدتان عن بعضهما البعض من منظور الجيوبوليتيك، العلم الذي يبحث في تأثير الجغرافيا على السياسة، سيما الخارجية، فهو تأثير عابر للحدود، ويشهد تصاعداً مضطرداً في ظل العولمة وثورة الاتصالات وانتشار المنظمات الدولية والشركات العابرة للقارات.
تحتل مصر من هذا المنظور موقعاً مهماً ومتقدماً في سلم اهتمامات تركيا، لعدة اعتبارات وعوامل، أهمها:
1- تقع مصر في قلب “المناطق البرية القريبة”، أي البلقان والقوقاز والشرق الأوسط، التي اعتبرها أحمد داودأوغلو في كتابه “العمق الاستراتيجي” أهم المناطق التي يجب على تركيا التواصل والتقارب معها لرفع مكانتها في الإقليم والعالم.
2- تدرك تركيا أن مصر أكبر الدول العربية وأكثرها تأثيراً في التاريخ الحديث، مما يجعلها في قائمة الدول التي تود التعاون معها إقليمياً.
3- تمتلك مصر من الخصائص الجغرافية والبشرية والاقتصادية فضلاً عن تميز الموقع ما يمنحها قوة إقليمية ناعمة ويرشحها – وفق داود أوغلو – لأن تكون “دولة مركز” في محيطها.
4- وبناء على ذلك كله، فقد نظــَّر مهندس السياسة الخارجية التركية في عهد العدالة والتنمية إلى ضرورة تفعيل ما أسماه “مثلث المنطقة” المكون من تركيا وإيران ومصر لتنمية المنطقة وحماية مصالح شعوبها.
5- تعتبر مصر أيضاً – وفقاً لموقعها – بوابة لتركيا على القارة الإفريقية، التي تشغل حيزاً مهماً في الاستراتيجية التركية على المدى البعيد.
6- كما أن مصر بوابة بحرية تجارية لتركيا على بعض الدول الإفريقية وعلى دول الخليج، وقد زادت أهمية هذا البعد بعد تفاقم الأزمة السورية وخسارة تركيا لطريق التجارة البرية مع العالم العربي عبرها.
7- نظرت تركيا لمصر – تحديداً بعد الثورة – على أنها شريك إقليمي تستطيع معه موازنة النفوذ الإيراني في المنطقة، باعتبارها دولة عربية “سنية”.
8- زاد موقع مصر على حدود فلسطين المحتلة من أهميتها بالنسبة لتركيا بعد القطيعة الدبلماسية بين أنقرة وتل أبيب والثورة المصرية.
9- كما ارتفع الوزن الاستراتيجي لمصر في ميزان السياسة الخارجية التركية بعد تصدر الإخوان كحركة إسلامية للمشهد السياسي في مصر، سيما إذا ما أضيف لها تقدم الإخوان والحركات الإسلامية بشكل عام في أكثر من بلد عربي.
10- تتشارك الدولتان نفس المخاطر والفرص والاهتمام في عدة ملفات إقليمية، في مقدمتها القضية الفلسطينية.
11- أدت الأسباب السابقة مجتمعة إلى حالة من التنافس بين البلدين بنفس القدر الذي فتحت أمامهما أبواب التعاون، وقد كان ذلك أوضح ما يكون في عهد مبارك قبل الثورة.
12- تميزت العلاقات بين البلدين تاريخياً بالتوتر الدائم خاصة في فترة الحرب الباردة التي انضمت تركيا خلالها لحلف شمال الأطلسي (الناتو) بينما كانت مصر محسوبة في الأغلب على الاتحاد السوفياتي السابق، وقد وصلت الأمور بينهما لدرجة عالية من التوتر عام 1958 في عهد رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس حين حشدت تركيا جيشها على حدود “الجمهورية العربية المتحدة” للضغط على عبدالناصر.
السياسة الخارجية للعدالة والتنمية
منذ تأسيسها على يد مصطفى كمال عام 1924، انتهجت تركيا سياسة خارجية اعتمدت على التغريب تحت اسم التحديث، فتوجهت تماماً نحو الغرب وأدارت ظهرها للشرق وخاصة العالم العربي. وعلى مدى عشرات السنوات، بقيت العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية محور مصالحها السياسية، وعضوية الناتو محور مصالحها العسكرية والاستراتيجية، وملف انضمامها للاتحاد الأوروبي محور مصالحها الاقتصادية.
في فترة الحرب الباردة، حين اشتبكت تركيا مع قضايا المنطقة كان ذلك في غير صالح الدول العربية، فكانت أولى دول العالم الإسلامي اعترافاً بدولة الاحتلال، التي أبرمت لاحقاً معها ومع إثيوبيا اتفاقية حزام المحيط عام 1958، وتعاونت معها استخباراتياً وعسكرياً على مدى سنوات طويلة، فضلاً عن دورها في حربي الخليج الأولى والثانية بشكل عام.
ومع العدالة والتنمية، أعادت تركيا اكتشاف وتفسير وصياغة مجمل سياساتها الخارجية، عبر إعادة تعريفها لمكانها ومكانتها وممكناتها، وأعادت الاعتبار لأهمية منطقة الشرق الأوسط بالنسبة لها.
في كتابه “العمق الاستراتيجي، موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية” وضع أحمد داود أوغلو الأسس النظرية التي يجب أن تسير عليها السياسة الخارجية التركية ما بعد انتهاء الحرب الباردة، والتي سارت عليها تركيا العدالة والتنمية فيما بعد، وأهمها:
1. العمق الاستراتيجي: اعتبر داود أوغلو أن مكانة تركيا دولياً مرتبطة بشكل مباشر بمكانتها في محيطها وأدوارها الإقليمية التي تلعبها، خاصة في ثلاث مناطق جغرافية اعتبرها عمق تركيا الاستراتيجي، أي الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز التي أسماها مجتمعة “المناطق القارية القريبة”. وقد رأى في الكتاب أنه كلما لعبت بلاده أدواراً أكثر فاعلية في الشرق كلما ارتفعت مكانتها في الساحة الغربية – الدولية، وهو ما أسماه نظرية “القوس والسهم”.
2. صفر مشاكل: إذ لا يمكن لأي دولة غارقة في خصومات وعداوات مع دول جوارها أن تبلور سياسة خارجية إيجابية وفاعلة، وبالتالي تحتاج إلى تصفير – أو تقليل – المشاكل مع جوارها لتستفيد كل الأطراف على قاعدة الربح للجميع (Win – Win Game).
3. القوة الناعمة: وحتى تكون تركيا “دولة مركز” في محيطها، رأى البروفيسور أن التبادل التجاري والاقتصادي والتواصل الفكري – الثقافي أعمق أثراً وأكثر فائدة من القوة الخشنة. وقد استفادت تركيا حتى بداية ثورات العالم العربي عام 2011 من هذه القوة الناعمة، ورُحب بها بشكل لافت في المنطقة.
وبناء على هذه النظريات الرئيسة الثلاث، فقد سارت السياسة الخارجية التركية بشكل عام وفي المنطقة ودول الجوار – ومنها مصر – بشكل خاص ضمن عدة محددات، أهمها:
أ- أولوية الحفاظ على الأمن القومي التركي ومصالح تركيا في الداخل والخارج.
ب- محاولة الجمع بين تحقيق المصالح والإيفاء بالمبادئ والشعارات التي ترفعها أنقرة قدر الإمكان، وقد استطاعت ذلك فترة طويلة جداً وخاصة مع المرحلة الأولى من ثورات العالم العربي.
ج- عدم مصادمة الرأي العام التركي، المتجه مؤخراً نحو الشعوب العربية والمتعاطف مع قضاياها.
د- الالتزام بسقف المنظومة الدولية والمرتكزات الثلاثة للسياسة الخارجية التركية، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
ه- تنويع العلاقات ومد جسور التواصل مع مختلف الأطراف، حتى المتناقضة، الأمر الذي يقلل الضغوط على أنقرة ويمنحها هامشاً مقبولاً من الاستقلالية الجزئية في سياستها الخارجية.
و- استشعار مسؤولية أخلاقية وسياسية فيما يتعلق بقضايا المنطقة باعتبار أن تركيا وريثة الدولة العثمانية التي كانت المظلة السياسية لكامل جغرافيا المنطقة.
ز- البعد عن الصراعات، وتفضيل نموذج التواصل والتكامل، باعتبار أن تجربة تركيا في عهد العدالة والتنمية قائمة على التنمية الاقتصادية المعتمدة بشكل رئيس على الاستقرار السياسي.
ح- رفض النزاعات القائمة على أسس إثنية ومذهبية تحديداً، استشعاراً لخطورتها على المستويين النظري البحت بشكل عام والعملي الخاص بتركيا وتركيبتها العرقية والذهبية بشكل خاص، بل واعتبار هذا النوع من الصراعات “توريطاً” لتركيا والمنطقة تسعى إليه بعض القوى الخارجية للقضاء على مستقبل المنطقة.
ط- إخضاع السياسة للاقتصاد – تعزيز الارتباط بينهما – في حالات التواصل والعلاقات الجيدة، والفصل بينهما عبر إدامة وتطوير العلاقات الاقتصادية رغم التوترات السياسية – أي فك الارتباط بينهما – في حالات التوتر والقطيعة.
ي- محاولة لعب دور الوسيط في النزاعات والصراعات في المنطقة، وهو دور لعبته تركيا دائماً، لكن هذه المرة في صورة تركيا المقبولة من شعوب ونظم المنطقة والحريصة على مصالحهم، كما حصل في المفاوضات غير المباشرة بين سوريا ودولة الاحتلال الإسرائيلي عام 2008، وفي الاتفاق الثلاثي بين إيران والبرازيل وتركيا حول الملف النووي عام 2010 وغيرها.
ك- التورع عن الدخول في أي نزاع بشكل منفرد أو دون غطاء دولي أو إقليمي أو منظمة دولية.
ل- يعرف صانع القرار التركي أنه ورث دولة منكفئة على نفسها وبعيدة عن الانخراط في قضايا المنطقة/ العالم العربي المعقدة، وافتقاده بالتالي لعناصر التأثير الخارجية والتي تحتاج لعشرات السنين من العمل وفق رؤية واضحة وخطوات مدروسة. وقد حاولت الحكومات التركية ردم هذه الفجوة عبر القوة الناعمة والتواصل الاقتصادي والثقافي، الذي كان يمكن له أن يفيد في حالة الهدوء، بينما أصبح عائقاً كبيراً في ظل الاستقطاب وتأجج الصراعات، خصوصاً في وجود دول إقليمية تنتهج القوة الخشنة والتكئات العسكرية.
م- حاجة تركية للشراكات الإقليمية وعدم قدرتها على حل الأزمات بمفردها. ويتبدى ذلك على المستوى النظري في كتابات داود أوغلو عن “مثلث المنطقة” المكون من تركيا وإيران ومصر كما سبق ذكره، ويتجلى عملياً في اتجاهاتها الأخيرة لرفع وتيرة التعاون مع كل من قطر والسعودية تحديداً.
مراجعات السياسة الخارجية
حظيت تركيا خلال السنوات الأولى من حكم العدالة والتنمية – وحتى عام 2011 – بقبول جيد من طرفي المعادلة في العالم العربي، أي ما كانا يسميان محوري الاعتدال والممانعة. لكن ثورات العالم العربي عصفت بهذين المحورين وبكل توازنات المنطقة، وهزت معها وبذات القدر أسس السياسة الإقليمية لتركيا. فقد تحول عمقها الاستراتيجي إلى ساحة صراعات دامية، وفشلت نظرية “صفر مشاكل” في التجاوب مع التطورات المتسارعة التي حولت الإقليم إلى “صفر هدوء”، فيما عجزت قوتها الناعمة عن إحداث أي اختراقات/إنجازات مهمة في المنطقة بعد أن أضحت الأخيرة طرفاً في حالة الاستقطاب بسبب مواقفها المعلنة من الثورات، سيما الثورة السورية.
وبنتيجة كل هذه المتغيرات، صدرت عدة قراءات ودعوات في تركيا، ومن صفوف الحزب الحاكم والحكومة لإعادة تقييم ثم تقويم سياستها الخارجية، وكان من العوامل الإضافية التي ساهمت في ذلك ما يلي:
1. الضغوط الخارجية التي تعرضت لها أنقرة بسبب مواقفها التي نحت نحو صياغة سياسة خارجية مستقلة نسبياً وجزئياً عن المواقف الغربية، وخصوصاً في قضايا المنطقة مثل مصر وسوريا وفلسطين.
2. تراجع الاهتمام بالسياسة الخارجية بسبب تزاحم وتلاحق ملفات السياسة الداخلية، وفي مقدمتها أحداث “جزي بارك” في حزيران/يونيو 2013، ثم ادعاءات الفساد بحق الحكومة والحزب في كانون الأول/ديسمبر 2013، ثم تعثر عملية المصالحة الداخلية مع الأكراد إثر استئناف حزب العمال الكردستاني لعملياته العسكرية في تموز/يوليو 2015، فضلاً عن عدة استحقاقات انتخابية شغلت الحزب الحاكم والحكومة باستحقاقاتها، مثل الانتخابات المحلية في آذار/مارس 2014، ثم الانتخابات الرئاسية في آب/أغسطس من العام نفسه، فالانتخابات البرلمانية في حزيران/تموز 2015، ثم أخيراً انتخابات الإعادة في تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه.
3. حالة العزلة التي عانت منها تركيا في المنطقة إثر مواقفها من القضايا المختلفة، سيما المصرية والسورية، وافتقارها لتحالفات قوية ومستدامة تستند عليها في سياساتها الإقليمية.
4. انتخابات حزيران/يونيو 2015 البرلمانية والفترة الانتقالية بعدها التي أدت إلى حالة لا استقرار سياسي وتذبذب اقتصادي وتصعيد أمني – عسكري، وهو ما دفع صانع القرار التركي للانكفاء على الداخل وتقديم بعض التنازلات في السياسة الخارجية.
أدت هذه السياقات مجتمعة إلى تراجعات وتغيرات في السياسة الخارجية التركية، مثل السماح للولايات المتحدة والتحالف الدولي باستخدام قاعدة إنجيرليك العسكرية بعد شهور طويلة من التمنع، والانخراط الفعلي في التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة بعد أشهر من التردد، وخفوت حدة صوت أنقرة في مواجهة نظام السيسي ووتيرة انتقاداتها له، واللهجة اللينة نسبياً إزاء التدخل العسكري الروسي على حدودها الجنوبية في أيلول/سبتمبر 2015، وتراجع حدة التصريحات التركية بخصوص مصر والسيسي، والقبول الضمني ببقاء الأسد في الحكم خلال الفترة الانتقالية للحل السياسي المتفق عليه بين وزيري خارجية الولايات المتحدة وروسيا، كيري ولافروف، في اتفاق فيينا.
لاحقاً، أدى إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية في 24 تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، وما تلاه ذلك تطورات متلاحقة وإجراءات روسية على المستويين العسكري والاستراتيجي في سوريا والمنطقة، إلى خسارة تركية مزدوجة: الأولى عسكرياً واسترايتيجياً أمام روسيا حيث فقدت القدرة على الطيران فوق سوريا والمبادرة في شمالها واضطرارها للانكفاء لتجنب ردة فعل روسية عالية السقف، والثانية سياسية أمام واشنطن وحلف الناتو من خلال عودتها للتماهي مع مواقفهما وخسارتها لهامش الاستقلالية النسبي في سياستها الخارجية بعيداً عنهما.
تركيا والثورة المصرية
منذ الأيام الأولى للثورة المصرية، اتخذت تركيا مواقف متقدمة وعالية السقف في دعم الحركة الاحتجاجية والمطالب الشعبية، في افتراق واضح عن تركيا الحريصة على علاقات طيبة مع النظم الحاكمة في الدول العربية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، استرشاداً ربما بنصائح داود أوغلو باستشعار ثم استثمار التطورات الاجتماعية والسياسية التاريخية وعدم الوقوف موقف المتفرج، للمشاركة في صنع القرار.
فقد توالت التصريحات التركية، خاصة من رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب اردوغان المطالبة للنظام المصري بالتجاوب مع المطالب الشعبية، ثم مطالبة مبارك بالرحيل وبعبارات بعدت أحياناً عن اللغة الدبلوماسية حين ذكــَّر الرئيسَ المصري بالموت ناصحاً إياه بعدم التمسك بكرسي الحكم.
وبعد تنحي مبارك وخلال حكم المجلس العسكري، حرصت تركيا على أن تكون أول دولة تزور مصر بعد الثورة بشخص رئيسها – آنذاك – عبدالله غل في الثالث من آذار/مارس 2011 أي بعد أقل من شهر من تنحي مبارك، والتي حرص خلالها على الاجتماع بمختلف الأطياف ومن ضمنها شباب الثورة.
ثم جاءت الزيارة الشهيرة لاردوغان لمصر في أيلول/سبتمبر 2011 برفقة 250 رجل أعمال تركي والتي وقع خلالها على عشر اتفاقيات اقتصادية، كما وقعت تركيا مع مصر في آذار/مارس 2012 اتفاقية “الرورو” البحرية لربط الموانئ التركية بمثيلاتها الخليجية عبر المصرية، إضافة إلى إيداعتركيا مبلغ مليار دولار كوديعة في البنك المركزي المصري على دفعتين (تشرين الأول/أكتوبر 2012 وكانون الثاني/يناير 2013) بسعر فائدة تبلغ %1 مستحقة بعد خمس سنوات، وهو ما عكس الاهتمام التركي الخاص بمصر بعد الثورة وألمح إلى إرهاصات محور جديد يتشكل في المنطقة.
وقد بلغ التعاون التركي – المصري ذروته بعد انتخاب محمد مرسي رئيساً لمصر، حيث دعاه حزب العدالة والتنمية الحاكم كضيف شرف في مؤتمره الرابع في 30 أيلول/سبتمبر 2012 والذي ألقى خلاله كلمة في الحضور. ثم لاحقاً في التنسيق الواضح بينهما خلال العدوان “الإسرائيلي” على قطاع غزة في تشرين الثاني/نوفمبر 2012، والذي تمظهر في زيارة رئيسي وزراء البلدين هشام قنديل وأحمد داود أوغلو للقطاع وهو تحت القصف، ثم التنسيق السياسي بينهما لتحقيق الهدنة. كما أعلن اردوغان أكثر من مرة نيته زيارة قطاع غزة عبر مصر، وهي الزيارة التي تأجلت أكثر من مرة، ثم ألغيت بعد الانقلاب في مصر وتراجع العلاقات بين البلدين.
حمل الانقلاب العسكري في مصر في الثالث من تموز/يوليو 2013 أخباراً سيئة للعلاقات الثنائية بين البلدين، إذ تميز الموقف التركي بسقف عال وخطاب حاد تجاه النظام الجديد، من خلال الإصرار على تسميته بـ “الانقلاب” ورفض إعطائه أي شرعية، وتقصد النيل من السيسي كشخص بالاسم والصفة في العديد من الخطابات واللقاءات، وحرص اردوغان على رفع شعار رابعة بعد فض الاعتصام في الميدان المذكور، ورفض الرد على اتصال محمد البرادعي نائب الرئيس المصري في تموز/يوليو 2013 باعتباره “شخصاً غير منتخب”، حتى وصل الأمر لرفض الجلوس على نفس المائدة مع السيسي في الأمم المتحدة.
وقد رد النظام في مصر بإعلان السفير التركي في القاهرة “شخصاً غير مرغوب فيه” وتخفيض مستوى العلاقات الدبلوماسية بين البلدين لمستوى القائم بالأعمال، وهو ما ردت عليه تركيا بالمثل. ثم استضافت تركيا على أرضها الكثير من المصريين الفارين من بلادهم ومن بين رموز المعارضة المصرية، وسمحت لهم بإنشاء وسائل إعلام مناهضة للانقلاب، فضلاً عن السماح بتشكيل كيانات سياسية مثل البرلمان المصري الموازيوالمجلس الثوري المصري وعملها من تركيا.
ثمة عوامل عدة صاغت هذا الموقف التركي الحاد – وربما الوحيد – من الانقلاب في مصر، أهمها:
أولاً، الوقع الخاص للانقلابات العسكرية في تركيا، وهي الدولة التي عانت من أربعة “تدخلات” للجيش في الحياة السياسية، اثنان منها على شكل انقلاب عسكري مباشر.
ثانياً، استمرار محاكمة الجنرالات والضباط المتهمين في المشاركة في انقلابي عام 1980 و1997، إضافة إلى أولئك المتهمين بالتخطيط لانقلاب عسكري ضمن قضيتي أرغنكون والمطرقة في الفترة التي حصل فيها الانقلاب في مصر.
ثالثاً، قناعة القيادة التركية بأن تركيا قد تكون مستهدفة بعد مصر في حال استقر الأمر لنظام الانقلاب، خصوصاً وأنه تزامن مع أحدث منتزه “جزي” في إسطنبول والذي تحول لمظاهرات وأعمال شغب وفوضى في مختلف المدن التركية.
رابعاً، الانسجام مع الموقف التركي التقليدي بدعم خيارات الشعوب والتعامل مع الأنظمة التي تفرزها الانتخابات في البلدان المختلفة بغضّ النظر عن أيديولوجياتها ومواقفها وخلفياتها الفكرية.
خامساً، الآمال التي بنتها تركيا على شراكة إقليمية مع مصر بعد الثورة، رأى فيها وزير الخارجية آنذاك أحمد داود أوغلو تحالفًا استراتيجيًّا أسماه “محور الديمقراطية” في المنطقة. وربما هذا ما يفسر الأنباء التي ترددت – ولم تتأكد – عن إرسال اردوغان رئيس جهاز استخباراته حاقان فيدان إلى الرئيس المصري في 30 حزيران/يونيو لتحذيره من انقلاب وشيك عليه.
سادساً، التناغم مع الرأي العام ومزاج الشارع التركي، الذي رفض ما حدث في مصر، وتعاطف مع الرئيس المعزول مرسي والإسلاميين بشكل عام وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون.
سابعاً، صعوبة تجاهل تركيا سلسلة انتهاكات حقوق الإنسان والتضييق على الحريات، ومن هنا يأتي وصف اردوغان فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة أكثر من مرة بـ “المذبحة”.
بيد أن عدة متغيرات دفعت فيما يبدو تركيا لإعادة النظر في موقفها من النظام القائم في مصر، في مقدمتها تثبيته لأركانه، والمصالحة القطرية – المصرية في تشرين الثاني/نوفمبر 2014، وقرب موعد قمة منظمة التعاون الإسلامي (نيسان/أبريل 2016) التي يفترض أن تسلم فيهامصر الرئاسة الدورية لتركيا، بما يعني تواصلاً سياسياً ودبلوماسياً ما بين البلدين.
وقد صدرت عدة تصريحات تركية تصب في هذا الاتجاه، أهمها تصريح الرئيس التركي بإمكانية عقد لقاءات بين وزراء البلدين، وتصريح وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو بعدم ممانعة تركية في “لقاءات أخرى” مع الجانب المصري، فضلاً عن توجيه تركيا الدعوة لمصر – كدولة دون تحديد اسم – لحضور القمة المذكورة.
محفزات المصالحة ومعيقاتها
مع اقتراب مؤتمر القمة الثالث عشر لمنظمة التعاون الإسلامي (10 – 15 نيسان/أبريل المقبل) في إسطنبول، والذي ستسلم خلاله مصر الرئاسة الدورية لتركيا، وسيشمل بالتالي تعاملاً دبلوماسياً – بمستوى أو بآخر – بين البلدين، كثرت التكهنات بشأن إمكانية التقارب بينهما، سيما في ظل التصريحات التركية المذكورة آنفاً، ما بين من يعتقد أن تطبيع العلاقات غير ممكن، ومن يرى أن القمة ستكون مرحلة على طريق التطبيع أو إحدى نتائجه.
ثمة عوامل وأسباب عدة تدفع باتجاه المصالحة وتطبيع العلاقات بين الطرفين، أهمها:
1- تراجع الرفض التركي للنظام القائم في مصر من المستوى المبدئي باعتباره غير منتخب إلى المستوى الإجرائي بتقديم اشتراطات معينة للمصالحة.
2- تثبيت النظام القائم في مصر لأركانه – من زاوية الشرعية السياسية – إلى حد كبير بعد حوالي ثلاث سنوات من الانقلاب.
3- القبول الدولي الذي بات يحظى به السيسي ونظامه، من خلال التعامل معه ودعوته لعدة دول أوروبية فضلاً عن إلقائه كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو ما يترك تركيا وحيدة في حال أصرت على رفض شرعيته أو التعامل معه.
4- ضعف المعارضة المصرية وتضاؤل فرص نجاحها في تغيير النظام كورقة قوة في يد تركيا، فضلاً عن تراجع قوى الثورة بشكل عام في العالم العربي وهو ما انعكس سلباً على الدول الداعمة لها.
5- قد يوفر مؤتمر قمة منظمة التعاون الإسلامي فرصة “تلقائية” للتقارب بين الطرفين، بدون أن يظهر وكأن أحدهما قد تنازل للآخر، مما يرفع الحرج عنهما وقد يؤدي إلى خطوات إضافية تبني على القمة.
6- العلاقات التجارية بين البلدين التي لا ترغب تركيا في خسارتها بل تريد تنميتها خصوصاً الملاحة البحرية، وحاجة مصر لها في ظل الأزمات الاقتصادية التي تعصف بها.
7- العزلة التركية على الساحة الدولية ورغبة أنقرة – كما سبق ذكره – في تدوير الزوايا مع عدد من الدول وتخفيف حدة الخصومة معها ما أمكن.
8- رغبة المملكة العربية السعودية في تسوية الخلاف بين البلدين، للتركيز على المهددات المشتركة ولحاجتها للجيش المصري في خططها المستقبلية في اليمن وغيرها. كما لا يجب إغفال أن المصالحة القطرية – المصرية قد تساهم في هذا الأمر وتسهله أيضاً.
9- المهددات الإقليمية المشتركة التي تجمع البلدين، مثل الأزمة السورية وتنظيم الدولة – داعش تضطرهما إلى مستوى من التعاون في عدة مجالات.
10- تنضوي الدولتان تحت مظلة عدد من المنظمات الإقليمية والدولية، مثل التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة والتحالف الإسلامي الذي دعت إليه السعودية.
11- رغبة أنقرة في إعادة العلاقة لامتلاك القدرة على التأثير، إذ أفقدتها القطيعة مع النظامين في القاهرة وتل أبيب (فضلاً عن النظام السوري، والتوتر مع كل من العراق وإيران) القدرة على لعب دور مؤثر في عدد من الملفات الإقليمية المهمة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
12- تدير تركيا في نفس الوقت لقاءات ثنائية مع “إسرائيل” بغية تطبيع العلاقات بين الطرفين، في ظل تحفظ مصري على بند تخفيف الحصار عن قطاع غزة. وبذا، قد يكون أي اتفاق قريب بين الطرفين حافزاً لتطبيع العلاقات أيضاً بين أنقرة والقاهرة وشملها في الترتيبات الخاصة بالقطاع، مما يعطي الاتفاق بعدأً إقليمياً.
بيد أن المصالحة المفترضة بين الطرفين، من جهة أخرى، دونها عقبات عدة، أهمها:
1- سقف الشروط العالي الذي قدمته تركيا، والمرتبط بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات في مصر بما يشمل إلغاء عقوبات الإعدام والمؤبد الجماعية وإطلاق سراح السجناء السياسيين، وهو ثمن لا يبدو النظام القائم في مصر حالياً قادراً على – أو راغباً في – تقديمه.
2- غياب التجاوب المصري حتى الآن مع التصريحات التركية الإيجابية، ويبدو أن سببه خشية النظام المصري من أن تكون هذه التصريحات مجرد مناورة تركية لتخفيف الضغط الخارجي عليها دون رغبة حقيقية في المصالحة.
3- الموقف الشخصي للرئيس التركي اردوغان من شخص السيسي، والحدة الكبيرة في سلسلة طويلة من التصريحات التي تنال منه مباشرة، ورفض اردوغان حتى الآن لقاءه أو التعامل معه.
4- غياب أي إجراءات بناء ثقة حتى الآن بين الطرفين، باستثناء لقاءات اقتصادية متدنية المستوى عقدت في كلا البلدين مؤخراً، فيما يستمر التراشق الإعلامي، خاصة من الطرف المصري.
5- تحتاج تركيا في سياق أي مصالحة مع النظام في مصر إلى أن تقدم إنجازاً في الأزمة المصرية، كوساطة للمصالحة الداخلية أو ما شابه، وإلا ظهرت وكأنها تخلت عن مبادئها ومواقفها السابقة. ولا يبدو النظام الآن في وارد قبول شيء من هذا القبيل.
6- الاشتراطات المصرية المتعلقة بتسليم بعض القيادات الإخوانية المقيمة في تركيا وإغلاق وسائل الإعلام التي تهاجم الانقلاب قبل أي مصالحة.
7- معارضة شعبية تركية – خاصة بين أنصار حزب العدالة والتنمية – للتصالح مع نظام السيسي.
8- تقارب النظام المصري مع إيران، منافس تركيا الإقليمي، في عدد من الملفات الإقليمية خصوصاً الأزمة السورية.
9- التراجع الاقتصادي الكبير في مصر – وتزايد مستوى الغضب الشعبي إزاء ذلك – بما يوحي بعدم استقرار الأوضاع على المدى البعيد، قد لا يغري تركيا بالذهاب إلى مصالحة سريعة مع النظام المصري.
10- وجود السيسي كشخص في سدة الرئاسة في مصر، بما التصق به من أوصاف الخيانة/الانقلاب واتهامات بجرائم قتل جماعية وسوء إدارته وتراجع الأوضاع في البلاد في عهده، فضلاً عن العلاقة الشخصية السلبية مع الرئيس التركي.
خاتمة – استخلاصات
بالنظر إلى كل ما سبق، فإن الموقف التركي إزاء أي تطور متعلق بالمشهد المصري، لا سيما موضوع المصالحة مع النظام القائم الآن، محدد بخطوط عريضة من الصعب تخطيها، أهمها:
أولاً، لا زالت القناعة التركية بضرورة تصفير المشاكل (فعلياً تقليلها) وتدوير الزوايا مع مختلف الدول قائمة، ويغذيها ما تعانيه السياسة الخارجية التركية منذ فترة من عزلة وتقييد.
ثانياً، لا يمكن لتركيا الاستغناء عن دولة إقليمية كبيرة ومؤثرة مثل مصر (مصر الدولة أو الشعب) أو تجاهلها لفترة طويلة، بغض النظر عن النظام الذي يحكمها.
ثالثاً، إن الملف الحقوقي في مصر، بما يشمل مناخ الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان ولو بالحد الأدنى، عامل مهم جداً في صياغة القرار التركي ولا يمكن لأنقرة تجاوزه بسهولة.
رابعاً، إن العلاقة المتنامية بين تركيا والمملكة العربية السعودية تدفع باتجاه تصويب العلاقة بين تركيا ومصر، وكلما تعمقت هذه العلاقة (والحاجة المتبادلة بينهما) كلما زادت فرصة المصالحة التركية – المصرية المفترضة.
خامساً، إن الملفات المشتركة بين البلدين، بما يشمل المصالح والمهددات المشتركة، حافز كبير للتقارب بينهما، بغض النظر عن التوقيت والمستوى.
سادساً، يبقى الاقتصاد عاملاً محدداً لأطر العلاقة، من خلال أهميته الاستثنائية في التجربة والرؤية التركيتين وفي ظل تراجعه في الحالة المصرية، وهو ما يعني أن التقارب الاقتصادي أقرب للتحقق من المصالحة السياسية، بما قد يضعنا أمام سيناريو مشابه للعلاقة بين أنقرة وتل أبيب (القطيعة الدبلماسية في ظل تنامي التبادل التجاري) أو قد يكون هذا التعاون الاقتصادي مقدمة للتقارب السياسي.
سابعاً، من الصعب توقع إقدام تركيا على التجاوب الكامل مع الطلبات المصرية بخصوص المعارضة المقيمة على الأراضي التركية حتى في حال التطبيع. فلا يستطيع الرئيس التركي ولا حزب العدالة والتنمية الحاكم تسويق خطوات من قبيل ترحيل المعارضة أو تسليم مطلوبين للنظام فيمصر للرأي العام التركي وأنصار الحزب. بينما ستبقى الحلول الوسطى، مثل خفض السقف المتاح لوسائل الإعلام المناهضة للانقلاب عما هو مسموح به الآن إضافة لمنع أي أنشطة سياسية من قبيل البرلمان الموازي أو المجلس الثوري، خطوات ممكنة من الناحية النظرية بغض النظر عن فرص تحققها عملياً.
ثامناً، سيبقى العامل الشخصي بين اردوغان والسيسي قائماً ومن الصعب جداً تخطيه. وهذا يعني أحد أمرين أو كليهما معاً: استثناء أي تقارب بين النظامين في العلاقات على مستوى مؤسستي الرئاسة وبقائها على المستوى الوزاري (بما قد يشمل رئاسة الوزراء)، و/أو زيادة فرص التقارب في ظل أي سيناريو يغيب فيه السيسي عن المشهد (بسبب ثورة أو تنح أو انقلاب داخل المؤسسة العسكرية).
ختاماً، هذه هي المحددات العامة للموقف التركي من مصر والنظام القائم فيها، بما يجعلها إطاراً تفسيرياً شاملاً مبلوراً في خطوط عريضة، تساعد على فهم الموقف الحالي واستشراف أي تطورات مستقبلية. وقد تجنبت الورقة قدر الإمكان الخوض في أي سيناريوهات محددة وفق المعطيات الحالية، بما يعطي مضمونها مرونة أكثر في التجاوب مع مختلف التطورات، ويحفظ لها أهميتها ودورها في صناعة القرار التركي على المديين المتوسط والبعيد ما لم تحصل تغيرات جذرية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس