أحمد الهواس - خاص ترك برس
تحرصُ النظمُ الدكتاتورية على جعل المواطنين في صراعٍ طبقي واجتماعي، حيث يبتلعُ النظامُ الدولةَ، ويشيعُ وهماً بين الناس أنه الضامنُ لبقائها، وأنّ غيابه يعني الفوضى أو الصراع أو الاحتراب المجتمعي أو التقسيم! ولهذا تغيبُ ثقافةُ المواطنة لتحل مكانها ثقافةٌ أخرى تسمى (وطنية الدكتاتور) وأن أسوأ ما تخشاه تلك الأنظمة هو الوعي الذي يقودُ إلى الفصلِ بين النظامِ والدولة، وإشاعة ثقافة المواطنة.
الوطن في عالمنا العربي يفصّله النظام الذي يستولي عليه على مقاسه الفكري والاجتماعي والاقتصادي وربما الروحي، ثم يبتلع النظام الوطن، لتصبح الوطنية "المحافظة على النظام القائم" ثم يفرز النظام زعيمًا يبتلع النظام، ليختزل الوطن في شخصه في ابتسامته في قبحه في تسريحة شعره، ويصبح خطيبه المفوّه، ومفكره وفيلسوفه، يدرس الطلبة أفكاره ويستشهدون بأقواله في الامتحانات المدرسية والجامعية وحلقات التثقيف الحزبي، تدّون حكمه على الجدران، هو الأب لجميع الرعية وهو القائد والملهم والزعيم، تحيط به المؤامرات فتمنعه من النهوض بشعبه ولكنه يكسر كل المتآمرين، ويحطم كل الأعداء فهو الرجل الذي لا يقهر، وهو الحنون في مكرماته على شعبه. هو الوطن والوطن هو ولتصمت كل الأفواه وحدها أفواه الحاشية تتكلم عن عطاياه وعن سهره على حماية الوطن وعن أعداء نجاحه أو أعداء الوطن!
لا تنحصر المشكلة في الثقافة العربية في التراجع المعرفي على المستوى المجتمعي، وإنما تتعدى ذلك لتتحول لحالة متأزمة نتيجة انعكاس ثقافة النظام الحاكم (المتخلف والسلطوي) أو إسقاط الايدلوجية المستوردة وجعلها ثقافة تعليمية، ومن ثم شعبوية من خلال سدنة مؤمنين بنقل الأفكار دون فهم، وتحويلها لتراتيل أقرب لسجع الكهّان، يرددها المريدون الباحثون عن شهادة حسن سلوك أنهم تربوا في المدارس الفكرية، والحلقات الثقافية التابعة للنظام وحزب النظام , ومن ثم التخريب الفوقي من خلال إدارة المراكز الثقافية، وليس انتهاء بالمجلات والأقسام الثقافية في الصحف، والإذاعات، والفضائيات، وتصنيع مجموعة من الإمعات، والأغبياء على أنهم نخبٌ ثقافية، وهكذا ينتهي المثقف الحقيقي إلى عزلة عن الناس، وربما تلاحقه نظرات ازدراء من قبل الشعب المثقف بثقافة الحاكم للعظم...!
جاءت الثورات العربية في مجملها لتحققَ تلك الثقافة الغائبة أو المغيبة قسراً "المواطنة" لتحملَ في مفرداتها البحثَ عن الحريةِ والمساواة والكرامة، وحقّ تداول السلطة.
لم يكن التقسيم المجتمعي في دولنا العربية نتاج صناعة تلك الدول التي احتلت هذا الجزء من العالم، ومن ثم صناعة كيانات لم تصل إلى مفهوم الدولة الحديثة فحسب، بل اعتمدت "دول الاحتلال "على إدارة تلك الكيانات على أسر وطوائف ونظم عسكرية، وكلما شعرت بأن ثمة "مواطنة" قد تتشكل في بلدٍ ما فإنّ القوة العسكرية بانتظار ذلك البلد لإعادة ترسيخ التنافر المجتمعي.
فحين غزت أمريكا العراق أسست أولاً للتقسيم المجتمعي "شيعة، أكراد، سنة عرب" وقد سكت هذه المصطلحات قبيل الغزو بأشهر، وذلك في مؤتمر لندن 2002، وبعد الغزو غذّت تلك النزعات حتى تقسم العراق مجتمعياً من خلال المحاصصة الطائفية، والاقتتال الأهلي قبل أن يتم التقسيم الفعلي من خلال طرح مشروع الاستفتاء في كردستان العراق!
بالنسبة لسورية، فأهم أسباب إجهاض الثورة السورية إنّها كانت تسعى لبناء دولة المواطنة، ولذلك فإن التنافر المجتمعي ومن ثم الاحتراب هو أحد أنجع السُبل لمنع ذلك،ـ فسورية لا يرادُ لها أن تُقسم جيوسياسياً بل اجتماعياً، وقد بدا واضحًا ظهور الكيانات الطائفية أو العرقية، وهذا التقسيم المجتمعي قد وضعت تصوره فرنسا إبّان احتلالها لسورية، حين قسمتها خمس ولايات، ولكن السوريين استطاعوا كسر ذلك وتوحيدها في دولة بسيطة.
فالتقسيم المجتمعي هو الأخطر حيث يصبح النسيج الاجتماعي رخواً وقابلاُ للتهتك، والاحتراب في أي وقت، وهذا ما سعت له أمريكا من خلال النظام الطائفي الوظيفي بجعل سورية كيانات طائفية وعرقية تتساند على حساب الكتلة الصلبة "العرب السنة" ومن ثم تعمد لإعادة انتاج النظام الطائفي بنظام حلف الأقليات بعد التفريغ الهائل للعرب السنة!
هذان النموذجان المعروفان سياسياً باسم "اللبننة" سينسحبان على بقية الدول العربية، وقد تنتهي بعض الدول إلى الحالة السودانية، فثمة ملفات في الدول العربية لا تقل خطورة وحساسية عن الملف الكردي في العراق وسورية أي انتقال الحالة من اللبننة إلى البلقنة!
المشكلة التي لم يلتفت إليها أغلب المقهورين في العالم العربي إلى أن الحالة واحدة والظلم واحد، وأنّ هذه "الحالة" هي من يقوّي النظام العربي الرسمي الذي بنته بريطانيا وفرنسا وانتهى بعد الحرب العالمية الثانية لرعاية أمريكية مباشرة، حيث ترعى تلك الأنظمة ومن يخرج عن السيطرة فإن الانقلابات التي سيطلق عليها فيما بعد ثورات بانتظاره!
في عام 1990 تعرّى النظام العربي الرسمي، ودور الأنظمة الوظيفية التي تعمل تحت إمرة أمريكا، وحماية الصهاينة، ولكن ما جعل الرأي العام العربي في تشتت وانقسام هو قيام دولة عربية بغزو دولة أخرى...!
كذلك اختلطت الرؤى في 2003 حيث انقسم الشارع العربي من جديد بين مبرر لدور بعض الأنظمة بأن الغزو واقع على العراق لا محالة، وبين من رأى أن ما يحصل هو استكمال لما سبق، وأن النظام النشاز في البناء الرسمي العربي قد تمّت إزالته...
وجاءت ثورات الربيع العربي لتكرّس حقيقة البناء الرسمي العربي والأنظمة العربية الوظيفية، وكيف توّلت إعادة إنتاج الأنظمة المتهاوية ليعود البناء العربي الرسمي أشد تماسكًا، وتمنع الشعوب من استعادة كرامتها، ولو أنّ لدى أمريكا ثقةً أن الديمقراطية في البلاد العربية ستأتي بالعلمانيين والليبراليين لدعمت ذلك، ولكنها تحارب الديمقراطيات في العالم العربي لأنّها ستأتي بأصحاب المشروع الإسلامي! ولكي تفرض هذه الأنظمة المعاد انتاجها هيبتها على حساب الدماء والتشرد والقهر الذي أصاب "مواطني" الثورات، وبات مثالاً سيئًا أمام "مواطني " البلاد التي موّلت الثورات المضادة، كان لابدّ من صنع ايدلوجية جديدة وصراع جديد لا يكون الصهاينة طرفًا فيه، ولكي تتمّ تلك الحالة فإنّ سيناريو التطبيق لما يتمّ تداوله في الصحف العالمية وبعض وسائل الإعلام، وما يتسرب من أقوال الساسة الأمريكان، بات أقرب مما نتصور، لقناعة أنّ تأديب الشعوب قد نجح، وإذا ما تمّ ذلك فإنّه يدلل على حقيقة واحدة: أنّ الثورات العربية ستعود أكثر شراسة بعد أن اتضحت الرؤية عند الشعوب العربية، وتمّ تصنيف الأعداء بشكل جيد، وهنا لا تشمل قاعدة البيانات الأنظمة فقط بل الأنظمة بكل امتدادتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية ونخبها الفكرية المزيفة، ومعارضاتها المدجّنة، وبلطجيتها وشبيحتها، والمستفيدين من بقائها واستمرارها…!
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس