فراس السقال - خاص ترك برس
إنّ الضيف الذي تدعوه إلى بيتك في حال السلام والرخاء، عادة ما يكون مهذبًا ولَبقًا في مضافتك، يتابعك فيما تفعله، فيأكل بما تكرمه به، ويشرب ما تقدّمه له، ويجلس في المكان الذي تختاره له، فكل هذه من آداب الضيافة. والشخص الذي يترك بيته وبلده مُجبرًا ثمّ ينتقل ليكون ضيفًا بلا إرادة منه أو اختيار، بل يدخلها خجلًا وجلًا من القادم الذي ينتظره، فمن باب أولى أن يكون أكثر أدبًا ورِقّةً وامتنانًا ممن دخلها مختارًا في وقت السلام.
واللاجئ السوري الذي فرّ من بلده التي أصبحت الروحُ فيها رخيصة، والقتل فيها سهلًا كشربة ماء، فنجا بدينه ليحفظ إسلامه وعقيدته وفكره، وبأهله وعرضه ليحفظ شرفه وناموسه، وبنفسه وأولاده كيلا يكون رقمًا في عدّاد الموت اليومي، وبكرامته وحريته كيلا يصبح عبدًا بيد المجرمين، وبعدالته كيلا يتحول إلى مجرم يفتك بأهله فيسفك دماءهم، جاء مكرهًا ولم يدخلها سياحةً أو استجمامًا أو تجارةً ليسعد بحياة راغدة مرهفة.
لقد كانت الثورة السورية امتحانًا كبيرًا وشاملًا لكل شرائح المجتمع داخل وخارج سورية، فبها ظهرت معادن الرجال وأخلاق الحكومات والبلاد، فرشحت لنا أصناف عديدة، عرّفتنا بأصحاب المواقف، وبأصحاب القلوب، وبأصحاب المصالح، وبأصحاب النفاق والخداع والمكر.
ورأينا دولًا فتحت قلوبها وأبوابها مُرحّبةً بذوي الحاجة الملهوفين الهاربين، فآوتهم ونصرتهم وما قصّرت في حقهم، بل كانت لهم نِعم الأهل والإخوة والجار والمجير. وأفضل ما نذكر من تلك الدول تركيا البلد المسلم الصادق الذي عاينّا فيه أخلاق الشهامة والمروءة والمحبة، فما فتر في عون القاصي والداني، وقد فتح هذا الأمر عليه أبوابًا واسعة من الفتن، فلم يكترث بها، ثابتًا على كلمته الأولى أيها الإخوة: أنتم المهاجرون ونحن الأنصار، فطَمِع الملهوف بعطفه وبعدالته ورحمته، فدخل السوريون إلى ذلك البلد الطيب أهله بمئات الآلاف، فكان الوحيد الذي قام بهذا الفعل، وفتح أبوابه على مصراعيها دون قيدٍ أو شرط.
إنّ الشعب السوري شعبٌ كريمٌ جواد، تربّى على مائدة الكرامة والمروءة والنخوة، فأخلاقه استقاها من أخلاق المسلمين الأوائل والعرب الكرام، فشعبنا من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه لا تنقصه الأخلاق الحميدة والخصال الطيبة بكافة أطيافه ومشاربه. ومن أخلاق شعبنا أنّه لا ينكر الجميل ولا يجحد العِرفان، فيحفظ من قام بإكرامه لكي يأجره على عمله ويجزيه على عطائه، فيحسن لمن أعانه أجمل إحسان، ويجود على من نصره ضعف ما قدم له، وهكذا عُرف شعبنا، وعلى هذه المكارم نشأ، ومن هذه المناهل شرب، ولذلك فإنّ اللاجئين السوريين في تركيا وغيرها ما نسوا يومًا ما فعلته تركيا لأجلهم، وما أنكروا موقف الشعب التركي وحكومته من كل مظلوم، ولن ينس شعبنا اليد التي مُدت له بالخير، فما زال يتحدث عن فضائل تركيا على إخوانها، ويمدح مكارمها في كل محفل شاكرًا صنائعها، فإياكم أيها الأخوة الأتراك أن تظنوا شعبنا يعضّ اليد التي أنجدته، فهذا ليس من شيمنا ولا من أخلاقنا.
إنّ حجم الحرب المتأججة في سورية تُنبي عن قوة المجاهدين وشدة شكيمتهم، وعن ضخامة وشراسة المدد الخارجي للظالم الأسد لإدامة حكمه وظلمه على شعبه. ومن وسائل الحرب الخبيثة التي يمارسها الأعداء على شعبنا قيامه بضرب الحواضن والملاجئ التي يفر إليها الشعب المكلوم، بتشويه سمعة الشعب السوري عند مضيفه، ولهذا التشويه أدوات عدة سلكها النظام السوري، منها:
تجنيد المرتزقة من اللاجئين التابعين للنظام السوري، بجعلهم يمارسون أسوء الأخلاق في بلاد اللجوء، ليقوم الشعب المضيف بالتضجر والاستياء منه، والمضيف لا يعلم حقيقة هذا المسيء ولا هدفه ومُرسله، فيُلصق التهمة بعموم السوريين، وبذلك تقوم تلك الخلايا بتشويه صورة اللاجئ السوري، ويُقلّبون الشارع المضيف على وجود اللاجئ.
قيام الأحزاب المعارضة في تركيا ببثّ الفتن بين الشعب واللاجئ، وبذلك يضربون الحزب الحاكم الذي يدعم وجود اللاجئ السوري باختلاق المشاكل وتأجيجها، فيلقون الضوء على مشكلةٍ تافهةٍ لا تُذكر أصلًا، ويثيرونها حتى تغدو مصيبة، ويحرضون الإعلام على تهويلها، وهكذا يثور الشعب بوجه الحكومة مطالبًا بطرد اللاجئين، فالمعارضة هي من تسكب البنزين على النار، أو هي التي تأجج النّار من الأساس.
لا تخلو أي عائلة من وجود شخصٍ سيءٍ فيها، ونحن في الشام نقول مثلًا: (لكل عائلة بالوعة)، هذا في العائلة الواحدة، فكيف إن كان العدد كبيرًا؟! إن وجود عدد كبير من السوريين في بلاد اللجوء يجعل وجود حالاتٍ فرديةٍ سيئةٍ ضمن هذا العدد الهائل أمرًا طبيعيًا، وسوء أولائك الأشخاص يعدّ حالةً مشابهةً لأصحاب تلك البلاد أو أقل بكثير منها، ولكن الفتنة تنشأ بوجود المغرض والضعيف، فالمغرض يشحن المشكلة ويعظمها، فيجعلها كأنّها فتنة القرن أو مشكلة العصر، والضعيف لا حول له ولا قوة، وبتلك الطريقة يستطيع الرافض لوجود الضيف إثارة الفتنة.
يستخدم الأعداء سلاحًا فتّاكًا في ضرب خصومهم، كإشعال النار بين حكومة الخصم وشعبه، بإثارة الرأي العام الداخلي وضربه ببعضه، فصحيح أننا لا نرى سلاحًا ولا جيشًا يحارب، ولكن لا يعني هذا عدم وجود حرب، فالحرب دائرةٌ وحامية الوطيس، ولكنّها بأساليب خبيثة، فمثلًا أمريكا وروسيا وإيران وإسرائيل وبريطانيا وفرنسا كل منها لها أتباع وجواسيس وأيدٍ لاعبةٌ في تركيا، ومن مصلحة تلك الدول إشعال النّار فيها، وهم لا ينتظرون اشتعالها بل هم الموقدون لها، ويكون ذلك بتجييش أشخاصٍ (من الأتراك المعارضين أو من السوريين التابعين للنظام السوري أو الجماعات الإرهابية الأخرى) باعوا ضمائرهم ودينهم من أجل حفنةٍ من الدولارات، فتحرضهم بقدح الشرارة في أي مكان مهيئٍ لنشوب النار فيه، والآن الأمر مهيؤٌ لإيقادها بين الشعب التركي واللاجئين، وهكذا يضرب الأعداءُ الشعبَ ببعضه بلا كلفة أو عناء.
إنّ الشيء المنطقي والفطري أنّ الخائف الهارب من الخوف لا يفعل شيئًا يعيده إلى ذلك المشهد المرعب، فاللاجئ الذي يعلم أنّه ضيف ثقيل، ويعلم قوانين البلد الذي هو فيه، وأنّ أي مشكلة يسببها كفيلة بإعادته إلى مستنقع الموت والخوف، لا يجرؤ على اقتراف ذنبٍ يعيده إلى بلده. لذلك فإنّ الضيف السوري الذي لجأ لنيل الأمان والحياة، وليأكل طعامه من عرق جبينه، جاء ليعيش حياةً كريمة، لا ليثير الفتنة ويفتعل المشاكل، فمصابه يكفيه وزيادة، فلا تزيدوا همّه وغمّه وكربه.
إنّ ما يجري من شيطنةٍ اللاجئين السوريين في تركيا ولبنان وغيرهما من البلدان المضيفة، إنّما هي مؤامرةٌ حاقدةٌ ضد السوريين الضعفاء، لكي يعودوا إلى حضن الظالم، أو إلى ميادين الموت والحروب والتشرد والخوف، أو يختاروا ما وراء البحار لسلخ المسلمين عن دينهم وأخلاقهم وهويتهم، أو يتحولوا وجباتٍ دسمةً لحيتان البحر. وهي مؤامرةٌ أيضًا لجعل اللاجئ السوري أداةً وذريعةً حساسةً لإثارة أي فتنةٍ في أي بقعةٍ فيها صراعاتٌ سياسية، فأضحى اللاجئ السوري هدفًا مضروبًا، وفي الوقت نفسه أداةً لضرب الآخرين.
وأخيرًا يجب على البلاد الكريمة التي فتحت أبوابها للمظلومين أن تعلم حقائق هذا المكر والخداع الذي يحاك للبلاد، ولا تستلم لتلك الضغوط التي تسعى إلى أن يعيش المرء بلا حسٍ أو أخلاق، وأن يتجرد من إنسانيته، فلا يشعر بآلام المظلومين، فيكون أصمًّا وأعمّى، وأقول للمعارضة التي تريد بأي وسيلة الإيقاع بخصومها من أبناء الحزب الحاكم: تنبهوا واستفيقوا فإنّ ما يُكاد لبلادكم أكبر مما تكيدونه للمظلومين ولخصومكم في الحكومة، فأنّ الأعداء يُظهرون لكم الكلمة الحلوة التي قد نفخت فيها ألف أفعى وعقرب، فلا تعطوا ظهوركم لإخوانكم الحاكمين في البلد، ولا تأمنوا مكر عدوكم، فأكبر شيء تقومون به الآن هو أن تضعوا يدكم بيد الحزب الحاكم فتكونوا رجلًا واحدًا، فبذلك لن تستطيع قوةٌ أن تضرب وحدتكم، ولن يكون لكم كل ذلك إلا إذا آويتم الضعفاء ونصرتم المظلومين، فإنّما تُنصرون بضعفائكم.
وأقول لأهلنا اللاجئين في تركيا اصبروا واحتسبوا، ولا تؤججوا النّار التي أشعلها حمقى اليورو والدولار، واعلموا أن كل ذلك مدبرٌ بليل، للإيقاع بينكم وبين إخوانكم الأتراك الكرام، فلتكن الحكمة سبيلكم والمشورة مصباحكم، وعليكم أن تعذروا أهل الديار فهم يتعرضون لهجمةٍ شرسة، فإن هجتم وماجوا أحرقتم البلاد وشردتّم العباد أكثر مما تشردوا، واسمعوا وأطيعوا قوانين بلد المضيف، واسألوا أهل العلم إن استعصت عليكم مسألة، والتفّوا حول علمائنا الربانين المخلصين الأحرار الذين ملئوا بلاد الأتراك والحمد لله، فهم أهل علم وخبرة وسياسة ودراية، وإياكم أن تركبوا رؤوسكم فتقودكم أهوائكم وتسوقكم شياطينكم، فنحن ضيوفٌ في هذه البلاد فلتزموا بأدب الضيف، وكلنا ننتظر ساعة العودة إلى بلادنا ودورنا، واسألوا الله العافية... والله المستعان.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس