د. نوح أرسلان طاش - الاندبندنت التركية - ترجمة وتحرير ترك برس (ملاك الطالب)
"أذْكُرْ مَا فَعَلَهُ بِكَ عَمَالِيقُ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ خُرُوجِكَ مِنْ مِصْرَ. كَيْفَ لاَقَاكَ فِي الطَّرِيقِ وَقَطَعَ مِنْ مُؤَخَّرِكَ كُلَّ الْمُسْتَضْعِفِينَ وَرَاءَكَ، وَأَنْتَ كَلِيلٌ وَمُتْعَبٌ، وَلَمْ يَخَفِ اللهَ. فَمَتَى أَرَاحَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ مِنْ جَمِيعِ أَعْدَائِكَ حَوْلَكَ فِي الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا لِكَيْ تَمْتَلِكَهَا، تَمْحُو ذِكْرَ عَمَالِيقَ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ.
لاَ تَنْسَ".
(تثنية 25: 17-19)
"فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلًا وَامْرَأَةً، طِفْلًا وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلًا وَحِمَارًا".
(1 صموئيل 15: 3)
"تقول لنا التوراة أذْكُرْ مَا فَعَلَهُ بِكَ عَمَالِيقُ".
(رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو)
في الآونة الأخيرة، تواصل إسرائيل بالبث الحي المباشر وابل صواريخها على قطاع غزة. يشهد العالم أكبر مأساة إنسانية في السنوات الأخيرة، وفي غضون ذلك يحاول السياسيون الإسرائيليون من خلال تصريحاتهم تحويل المنطقة إلى قنبلة موقوتة إن صحّ التعبير. أسوأ ما في هذه التصريحات انطواؤها على الكثير من الدلالات الدينية التي ستؤدي بدورها إلى اندلاع حرب دينية.
خلال الحرب الأخيرة تصدرت وسائل الإعلام العديد من تصريحات القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين ذات طابع ديني. المخيف في هذه التصريحات الانتقامية التي تهدف إلى توحيد الرأي العام الداخلي (الإسرائيلي) هو إمكانية إشعالها فتيل حروب دينية في المنطقة. ناهيك عن الإنجيليين "دواعش أمريكا والغرب"، أصحاب الخطى الصليبية، فهم أيضا يصبون الزيت على النار.
تعد هذه التصريحات بالنسبة للإنسان الشرق الأوسطي، الذي يعرّف ذاته من خلال "الدين" و"القومية" و"الطائفة"، بمثابة قنبلة قد دقت ساعتها. في المؤتمر الصحفي الذي عقده في الثامن والعشرين من أكتوبر ، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: "التوراة تقول لنا تذكروا ما فعل بكم عماليق، نعم إننا نتذكر ونحارب"، وفي هذا إشارة إلى ما فعله قوم العماليق العرب ببني إسرائيل في حرب وقعت منذ ثلاثين قرناً. وخاطب نتنياهو الجنود الإسرائيليين مبينا لهم أنهم جزء من تقاليد الحرب اليهودية التي بلغت من العمر 3000 عام، وأضاف: "علينا [القتال] لهزيمة العدو الغاشم ولحماية وجودنا على أرضنا". إنّ صدور هذه التصريحات عن أكبر مرجع في إسرائيل، يعد مثالا صارخا على وسم السلطة الإسرائيلية الحرب القائمة بـ"الحرب الدينية".
إذا من هم "العماليق" الذين يذكّر بهم نتنياهو وتأمر التوراة بإبادتهم؟
ما المعاني التي تحملها هذه التصريحات التي تنضح بمنطلقاتها الدينية والتاريخية؟
العماليق هم العرب
ما إن داست أقدام بني إسرائيل الصحراء، أثناء خروجهم من مصر وبعد أن عبروا البحر الأحمر، وإذ العماليق العرب في وجههم (التثنية 25: 17-18). بحسب المصادر العربية التي تعود إلى ما قبل الإسلام، فإنّ العماليق قد انتشروا في جغرافية واسعة تمتد من اليمن جنوباً إلى سوريا والحدود العراقية شمالاً، ومن الخليج الفارسي شرقاً إلى البحر الأبيض المتوسط غرباً. تفيد إحدى الروايات أنه في العشرين من شهر إبريل لعام 1312 ق.م (23 أيار 2448 وفقًا للتقويم اليهودي) بينما كان الإسرائيليون في رفيديم (على بعد 22 ميلًا جنوب شرق العريش في مصر) تعرضوا لهجوم من قبل العماليق، إلا أنهم قد نجوا بشق الأنفس. بعد ذلك قام الإسرائيليون بهزيمتهم جزئيًا بقيادة يوشع بن نون، لكنهم لم يتمكنوا من القضاء عليهم تماما (خروج 17: 8-16).
بالرغم من أن الظفر في الحرب كان من نصيب بني إسرائيل، إلا أن العماليق زرعوا فيهم من الرعب والصدمة ما لم يكن الزمان كفيلا بمحوه. لهذا السبب، أراد إله إسرائيل أن يُجرّئ العماليق فقط من دون الأقوام الأخرى على مهاجمة بني إسرائيل؛ ليكونوا "عبرة للعالم" على مر العصور. كما أمر بتدوين هذه الحرب (خروج 17: 14)، ويذكر أن هذا النصر الذي حققه يوشع بن نون تم تسجيله في "كتاب حروب الرّب" (سفر ملحموت هاشام).[1]
تذكر.... إيّاك أن تنسى!
حتى ولو ظهر اليهود قومًا جبارين لا يُقهرون أثناء رحلة خروجهم، إلا هذا لم يمنع أن يكون العماليق أول من داهمهم. ومع أنّ الغلبة كانت لليهود في هذه الحرب، إلا أن العماليق قد حطموا ثقتهم في قوتهم. إنّ هجوم حماس المباغت في السابع من أكتوبر قد جعل إسرائيل تعاني مجددا شعور فقدان الثقة بالنفس الذي لازمها طوال تاريخها. في الواقع هذا هو السبب الذي يكمن وراء الهجوم الوحشي الذي شنته إسرائيل على قطاع غزة. بحسب وصايا التوراة، يجب قتل العماليق في أوّل فرصة ممكنة، القضاء عليهم جميعا رجالا ونساء، أطفالا ورضّعا، وأيضا على بهائمهم من البقر والغنم والجمال والحمير.... وإتلاف كل أملاكهم (الخروج 17: 14-16؛ 1 صموئيل 15: 3)؛ وذلك بسبب الصدمة التي أحدثوها لبني إسرائيل. يعتبر الثأر من العماليق في التقليد اليهودي "ثأر لإله إسرائيل وتشريفا له ". "إن أهم الوصايا الدينية الأساسية (ميتزفه)" التي يجب على الإسرائيليين الوفاء بها كأمة عند دخولهم فلسطين هي "محو واجتثاث ذِكر العماليق بالكامل من تحت قبة السماء". وبالقول "هذه بهائم العماليق" حتى بهائمهم قد حقّ عليها الفناء (خروج 17: 14؛ تثنية 25: 19). إبادة العماليق تعتبر فرضا أولى من بناء الهيكل بحسب التلمود (التلمود البابلي، السنهدرين 20ب). حتى أنه يعتقد أن حيازة شاوول -أول ملوك اليهود- الغنائم التي ظفر بها عند قهره العماليق؛ كانت سببا في رفض صموئيل النبي (الذي مسحه ملكا) مولاته، وفي موته مقتولا مع أبنائه كعقاب إلهي على ما افترق (1 صموئيل 15: 9؛ 28: 19).
لن يجتثّ العماليق ولن تُمحى ذكراهم إلا باستيطان فلسطين. يعتبر القتال ضد العماليق في التقليد اليهودي واجباً عقديا على مر الأجيال (خروج 17: 16). غير أن هجوم العماليق على بني إسرائيل الوارد في سفري الخروج (17: 8-15) والتثنية (25: 17). -19) يعد إحدى القضايا العشرة المهمة التي يجب على اليهودي أن يستحضرها ويذكُرها دائمًا على مدى حياته (عسر زخيروت). بالإضافة إلى ذلك، ورد في تفاسير التوراة تعليق مثير للاهتمام بخصوص "استمرارية حرب إسرائيل مع العماليق". بحسب سفر الخروج (17: 16) يضع الرب يده على كرسيه ويقسم بأن الحرب مع العماليق ستدوم إلى أجيال:
כִּי־יָד֙ עַל־כֵּ֣ס יָ֔הּ מִלְחָמָ֥ה לַֽיהֹוָ֖ה בַּֽעֲמָלֵ֑ק מִדֹּ֖ר דֹּֽר…
" إِنَّ الْيَدَ عَلَى كُرْسِيِّ الرَّبِّ. لِلرَّبِّ حَرْبٌ مَعَ عَمَالِيقَ مِنْ دَوْرٍ إِلَى دَوْرٍ"
كلمة "كرسي" عادة ما يقابلها لفظ כִּסֵּא (كِسا) في العبرية، إلا أن هذا النص وردت بلفظ עַל־כֵּ֣ס יָ֔הּ (الكسياه). "كِس" כס تعني الكرسي و"ياه" יה تعني الإله "يهوا" יהוה ولكن بلفظ ناقص الأحرف. تؤول هذه الحالة في التفاسير التوراتية بالقول أن كمال الله ووكمال عرشه منفيان ما دام العماليق العرب الشيطانيون موجودين. وعليه اعتبرت الحرب ضد العماليق فرضا على اليهود لأجيال، وأُمروا بإفنائهم من الوجود. في الروايات المدراشية حُقّر من "عمليق" جد قبيلة العماليق العرب الذي كان يعتبر العدو اللدود لليهود بسبب صنيعته مع بني إسرائيل. بحسب إحدى الروايات، فإن أليفاز -جد عمليق- كان على علاقة محرمة مع زوجة سعير وأنجب بنتا اسمها تمناع. بعد ذلك دخل أليفاز على تمناع ابنته ومن علاقة سفاح القربى هذه أنجب عمليق.
نسل العماليق
بحسب التقاليد العربية يعد العماليق أو العمالقة من العرب البائدة. في المصادر الإسلامية يتم نسبهم إلى عمليق بن لاوذ بن سام. لم تتناول التوراة نسل العماليق، أما في القرآن فلم يُتطرق إليهم البتة. معظم ما وصلنا عنهم جاء عن طريق روايات يهودية الأصل تعرف في المصادر الإسلامية بالـ "إسرائيليات". وتذكر المصادر الإسلامية أنه كان لعمليق ابنا اسمه جاسم جاء منه ثمانية أحفاد. ومن نسلهم جاء بنو مطر وبنو الأزرق في الحجاز، بنو ظفّار وبنو بديل وبنو راحل في نجد، وبنو أرقم بين الحجاز وتيماء، وبنو لفّ في المدينة التي كانت تعرف قديما بيثرب، ويُذكر أن بنو سعد -من نسل سعد بن هزال- عاشوا أيضًا حول يثرب.
وفقاً للتقاليد اليهودية، فإن موطن العماليق - أقدم أمة في العالم- هي أرض أدوم الواقعة بين خليج العقبة والبحر الميت (تكوين 36: 16). تذكر أسفار أخرى من العهد القديم أن العماليق عاشوا في جميع أنحاء شمال شبه الجزيرة العربية، من صحراء النقب غرب البحر الميت إلى مصر بما في ذلك شبه جزيرة سيناء ونجد. أمّا في التقليد الإسلامي، تظهر جغرافية انتشار العماليق أوسع بكثير. تذكر الوثائق العربية أنهم في الأصل عرب أصليون (العرب العاربة) عاشوا أولا في محيط مدينة بابل، وبعد انهيار برج المدينة هاجروا إلى الحجاز، من هناك انتشروا في منطقة واسعة تشمل نجد وتيماء وعُمان والبحرين والجزيرة الفراتية وسوريا وفلسطين ومصر وافريقية (تونس). تعود السجلات التوراتية الأولى لتاريخ العماليق إلى الربع الأول من الألفية الثانية قبل الميلاد من زمن إبراهيم عليه السلام إلى ما بعد خروج بني إسرائيل من مصر.
عمالقة اليوم هم العرب والفلسطينيون خصوصا
بحسب التقاليد اليهودية، يمثل العماليق -أقدم الأقوام- أسوأ صور الشر، وأن "الهلاك الدائم" قد كُتب عليهم. إذ يُنظر إلى صراع إسرائيل والعماليق على أنه "رمز للصراع الخالد بين الخير والشر" (انظر. Tora ve Aftara، المجلد الثاني، ص. 187). في الجلسة الافتتاحية للكنيست في السادس عشر من أكتوبر، شبّه نتنياهو في حديثه عن الصراع الدائر بين إسرائيل وحماس بـ "الحرب بين الظلام والنور" وذلك يعزى إلى هذه الخلفية التاريخية، والتي منها ينبع اعتقاد اليمين المتطرف واليهود المتدينين اليوم في إسرائيل بأن تهجير العرب من إسرائيل أو إبادتهم هو وصية توراتية؛ وذلك لكون العماليق هم في أصلهم قبيلة عربية. إنّ ربط الفلسطينيين أو العرب بالعماليق لم يقتصر على السياسيين أمثال نتنياهو؛ إن انتصار اليهود في حرب الأيام الستة لعام 1967 واحتلال القدس وما لحقها من حروب مع العرب قد أعطى المتدينين من اليهود أملاً كبيراً. كما أن نتنياهو قد أشار إلى هذه الحروب في المؤتمر الصحفي الذي عقد في الثامن والعشرين من أكتوبر.
نتيجة الحروب المتعاقبة التي خاضها اليهود مع العرب؛ احتلت إسرائيل معظم الأراضي الموعودة بحدودها التوراتية. أحرزت تقدمًا متسارعًا لتحقيق الخلاص الإلهي وإنشاء إسرائيل الدولة الدينية الموعود بها في كتابهم المقدس. إلا أن العرب الفلسطينيين في مثل هذه العملية، وقفوا في كل من غزة والضفة الغربية كأضخم عائق أمام السيطرة الكاملة على أرض الميعاد. العماليق -عدو اليهود الأبدي- يُرصدون كهدف من قبل الحركات اليهودية الأصولية مثل حركة غوش إيمونيم. قادة هذه الحركات الدينية المتطرفة الذين يعتقدون بضرورة القضاء على كل من يشكل خطرا على اليهود، وخاصة الفلسطينيين منهم. يعرّفون "العرب والفلسطينيين" بأنهم "العماليق الذين أمرت التوراة اليهود بإبادتهم"، ويدعون إلى شن حرب وحشية ضد العرب الرافضين للحكم اليهودي. ومن رجال دين من يعتقد بأنّ العماليق الراغبين بقتل اليهود أعداء لا يمكن المساومة معهم، ويجادلون بأن قمعهم أمر طبيعي جدا. إذ يقول الحاخام إسرائيل هيس: إن العماليق التاريخيين هم نفسهم الفلسطينيون. يحاول حاييم صوري -المدافع الشرس عن حركة غوش إيمونيم- تبرير العنف ضد العرب بقوله: "هناك عماليق في كل جيل، عماليق جيلنا هم العرب الذين يقفون في وجه إحياء وجودنا القومي على أرض أجدادنا".
هل الحرب التي اشعلها ساسة إسرائيل المسعورين ورجال الدين المتطرفين ضد العماليق تقتصر على الفلسطينيين فقط؟ أم تستهدف كل العرب في شبه الجزيرة العربية بحدودها التي ذكرناها؟ هذا ما سيكشفه لنا التاريخ.
[1] هناك التفاسير تفيد بأن كتاب حروب الرب ما هو إلا جزء من التوراة أو أن هناك أسفار أخرى تذكر هذه الحرب.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس