سعيد الحاج - الجزيرة نت
منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل، قُدِّمتْ عدة محاولات لفهم أسباب تمادي دولة الاحتلال في جرائمها ضد المدنيين في قطاع غزة على وجه التحديد، لا سيما في ظل فشلها في تحقيق أي أهداف كبيرة على الصعيدين العسكري والسياسي، الأمر الذي يستحق نقاشًا معمقًا يحيل على نظرية كي الوعي التي يعمل عليها الاحتلال.
نظريات الإبادة
بات من نافلة القول إنّ ما اقترفته قوات الاحتلال في قطاع غزة، وما زالت تعمل على تنفيذه حتى اللحظة، يرقى لتوصيف الإبادة الجماعية، بغض النظر عن القرار النهائي، الذي سيصدر عن محكمة العدل الدولية، ومع الإشارة إلى أن قرارها الأوّلي بخصوص الإجراءات الوقائية، وبالتالي قبول شكوى جنوب أفريقيا، يشير إلى الإبادة كاحتمال قائم.
إذ ليس ثمة توصيف آخر يمكن أن يعبّر عن قتل عشرات الآلاف من المدنيين، وإصابة أضعاف ذلك الرقم غالبيتهم العظمى من النساء والأطفال، مع تدمير أكثر من نصف مباني القطاع، واستهداف كل المؤسسات التي تمد الناس بأسباب الحياة، فضلًا عن استهداف خاص للمستشفيات والمؤسسات الصحية، كل ذلك بشكل متعمد من قبل جيش يملك أحدث التقنيات التي تمكنه – لو أراد – من الاستهداف الدقيق لمن وما يريده.
في الدوافع والأسباب لهذه الوحشية غير المسبوقة، اللهم إلا في حقبة النكبة وما سبقها وتلاها، تناول الباحثون والكتّاب عدة احتمالات أو نظريات؛ أولاها محاولة إظهار القوة واسترداد الردع الذي فقدته دولة الاحتلال مع عملية "طوفان الأقصى"، وبالتالي طمأنة وتثبيت المجتمع "الإسرائيلي" بعد أزمة فقدان الثقة التي أظهرها في بدايات الحرب.
ومنها كذلك غريزة الانتقام من الفلسطينيين ومقاومتهم على ما أنجزوه يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل، لا سيما مع اقتران ذلك بالنظرة الفوقية والعنصرية تجاه الفلسطينيين الذين قال عنهم وزير دفاع الاحتلال: إنهم "حيوانات بشرية"؛ مهدرًا أي حقوق آدمية لهم، وممهدًا الأرضية للإبادة.
ومن الأطر التفسيرية للسلوك "الإسرائيلي" منذ اليوم الأول للعدوان، استغلال فرصة غير مسبوقة – من وجهة نظر الاحتلال – لتغيير قواعد اللعبة، وفرض حقائق جديدة والتخلص من أي تهديد مرة واحدة وللأبد، فالداخل تجند خلف سردية "الحرب الوجودية"، والخارج بقيادة الإدارة الأميركية يقدم دعمًا غير محدود ولا مشروط ولا مسبوق، رغم الاختلافات النسبية في وجهات النظر بخصوص بعض تفاصيل العملية البرية (وليس مشروعيتها ولا أهدافها).
ومنها كذلك، ومن الأكثر رواجًا، نظرية التخبط وغياب أي خطة واضحة للعمليات العسكرية، وكذلك لما سُمي "اليوم التالي" للحرب. وقد تعضدت هذه النظرية بعجز الاحتلال عن تحقيق أي من الأهداف الكبيرة المعلنة لعمليته البرية على وجه التحديد، رغم ما سبق تفصيله من خسائر بشرية ومادية، فضلًا عن الحصار والتجويع بما أحال حياة المدنيين في غزة لمأساة غير متصورة.
فعلى مقربة من ستة أشهر من العدوان الدموي المستمر لم يقضِ الاحتلال على حماس ولا أوقف إطلاق الصواريخ، ولا خلص الداخل "الإسرائيلي" من تهديد المقاومة، ولا أطلق سراح أسراه لديها، وتقول الوقائع؛ إن المقاومة ما زالت تواجه في الميدان وقادرة على توجيه الضربات المؤلمة للاحتلال، ما يعني أن منظومة القيادة والسيطرة لديها ما زالت سليمة إلى حد كبير رغم الخسائر.
كي الوعي
معظم هذه الأطر التفسيرية يبدو منطقيًا، وقد يصلح لفهم دوافع الاحتلال لجرائمه بحق الفلسطينيين، لا سيما في الأيام والأسابيع الأولى من العدوان، بيد أننا لا نراها كافية لتفسير استمرار هذه الوحشية والدموية كل هذه الشهور، وبعد انقضاء صدمة اليوم الأول.
إنَّ التصور بأن دولة الاحتلال – ومن يدعمها ويقف معها، بل ويوجهها – ما زالت تعمل وفق ردة الفعل بعد كل هذه المدة من الزمن ودون خطة واضحة على المديين المتوسط والبعيد لا يبدو منطقيًا. إن استمرار الآلة العسكرية "الإسرائيلية" بنفس النهج- رغم الفشل الواضح في تحقيق الأهداف المعلنة – يرجح أن ثمة رؤية ما تحكم السلوك "الإسرائيلي"، مؤخرًا، وستبقى على الأمد المتوسط بالحد الأدنى، كبديل عن الارتجال والفوضى والانتقام، وغيرها مما ساد في الأسابيع الأولى.
هذه الرؤية هي السعي لكيِّ وعي الفلسطينيين ومن يدعمهم أو يتضامن معهم على المدى البعيد. لقد استخدم الاحتلال سياسات كي الوعي منذ بدايات المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، وعلى طول عقود المواجهة مع الثورة الفلسطينية، ثم المقاومة في العقدين الأخيرين، لكنها تبدو اليوم مع "طوفان الأقصى" أكثر وضوحًا وتعمدًا.
فمن اللافت في هذه الحرب أن الكثير من الجرائم والفظائع التي ارتكبها الاحتلال كان هو من وثقها ونشرها أو حرص على انتشارها ورواجها، من قصف المدنيين العزل، إلى استهداف المستشفيات وقتل المئات في محيطها، إلى استهداف منتظري المساعدات الإنسانية، إلى الإعدامات الميدانية، إلى تعذيب الأسرى العزّل المقيّدين، وغير ذلك الكثير.
يسعى الاحتلال من خلال تخطيه كل حدود الوحشية والدموية واللاآدمية إلى كي الوعي في أبعاد ثلاثة: الأول؛ هو أثر عملية "طوفان الأقصى" التي تحولت لحالة من الفخر والنموذج الملهم منذ ساعاتها الأولى للفلسطينيين وشعوب المنطقة على أقل تقدير.
لقد سحق ذلك اليوم أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وأظهر العيوب الاستخباراتية لدولة الاحتلال المدفوعة بغرور القوة والإغراق في الاعتماد على التكنولوجيا، وحسن إعداد المقاومة، كما رآه الكثيرون بمثابة "بروفة" لمعركة تحرير قادمة.
لقد كانت مشاهد المقاومين وهم يقتحمون القواعد والنقاط العسكرية المحصنة، ويتفوقون على جنود الاحتلال المدججين بالسلاح، ويسحبونهم من قلب دباباتهم للأسر، تثبيتًا لـ "طوفان الأقصى" كمحطة فارقة في النضال الفلسطيني والصراع مع الاحتلال، وكمنجز لن يمكن تغييره.
الوحشية في هذا السياق سلاح "إسرائيلي" مباشر لمحاولة طمس الشعور بإنجاز السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل، وترسيخه في الوعي واللاوعي بشكل إيجابي.
والبعد الثاني؛ هو المسؤولية عن الإبادة نفسها، إذ يراهن قادة الكيان بأن طول أمد العدوان واستمرار معاناة المدنيين في ظروفهم غير الإنسانية سيدفع البعض/الكثيرين منهم للحنق على المقاومة وتحميلها هي – لا الاحتلال – مسؤولية ما حصل واستمرار المعاناة. وهذا مكسب كبير – إن حصل – للاحتلال؛ لأنه يرفع عنه مسؤولية جرائمه من جهة، ويزيد من الضغوط على المقاومة من جهة ثانية.
والبعد الثالث؛ الرئيس في مسألة كي الوعي، هو محاولة ضمان ألا يعود الفلسطينيون في المستقبل لمعركة مشابهة لـ "طوفان الأقصى". لقد كانت كل مواجهة بين الاحتلال والمقاومة أساسًا وأرضية للمواجهة التي تلتها، وكانت النتائج المباشرة لـ"طوفان الأقصى" مشجعة على سلوك من هذا القبيل بعد تداعي قوة الردع "الإسرائيلية".
ولذلك فقد كانت الوحشية وعدم مراعاة أي قوانين أو أعراف أو قوانين حرب، السبيلَ الوحيد أمام الاحتلال لإقناع الفلسطينيين – وتحديدًا المقاومة – بأن المقاومة لها ثمنها وكلفتها، وأن عليها أن تفكر ألف مرة قبل العودة مستقبلًا لخطوة شبيهة بما فعلته يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل.
في الخلاصة، تتركز إستراتيجية الاحتلال في غزة منذ شهور على تعميق الأزمة الإنسانية في القطاع، واستخدام معاناة الناس لمحاولة كي وعي الفلسطينيين، ومن يدعمهم بخصوص عملية "طوفان الأقصى" وما تلاها، حيث لها دلالاتها وتداعياتها المستقبلية، وكذلك الجهة التي تتحمل مسؤولية الكارثة الإنسانية في القطاع، ونظن أن الاحتلال سيعمد عاجلًا أم آجلًا وبدعم أميركي لسيناريو مشابه في كل من لبنان (حزب الله)، واليمن (أنصار الله/الحوثيين).
ورغم ذلك، ستبقى عملية "طوفان الأقصى" المحطة الأبرز والأهم والأكثر تأثيرًا في مسار الصراع مع الاحتلال، ولن تستطيع همجية الأخير أن تنسي الفلسطينيين، بل والمنطقة والعالم، ما حصل يومها، وما يمكن أن ينبني عليه مستقبلًا.
بكلمات أخرى، سيكون للسابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل، ما بعدَه على صعيد مستقبل القضية الفلسطينية، والمواجهة مع الاحتلال، والنظام الإقليمي برمته، ولن يستطيع الاحتلال تغيير ذلك رغم وحشيته، إذا ما تنبّه الجميع لسياسة كي الوعي، ولم يقعوا في شَرك الاحتلال وأبواقه السياسية والإعلامية داخل "إسرائيل" وخارجها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس