صالحة علام - الجزيرة نت
ساعات قليلة تفصل الأحزاب التركية عن أشرس معركة للانتخابات المحلية تخوضها في العقدين الأخيرين، وأكثرها إثارة للجدل بين مختلف شرائح المجتمع، ليس بسبب أن نتائجها ستحدد موقع كل حزب منها على الخريطة السياسية للبلاد خلال الفترة المقبلة، ولا لكونها معركة يسعى من خلالها حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى الثأر لهزيمته في انتخابات 2019، واستعادة سيطرته على بلديتي إسطنبول وأنقرة من براثن حزب الشعب الجمهوري المعارض.
ولكن لكونها تأتي في ظل أعنف أزمة سياسية تمر بها الأحزاب التركية، التي تفرّق عقدها، وتشتّت شملها، وفي مقدمتها حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة التركية، وأكثرها رغبة في الصعود إلى سدة الحكم في البلاد، وخلافة حزب العدالة والتنمية، بعد غياب عن السلطة يصل لحوالي أربعة وسبعين عامًا، الأمر الذي يثير حالة من القلق بين صفوف ناخبيه؛ خشية أن تؤدي حالة الانقسام والخلافات التي يمر بها الحزب إلى هزيمة ساحقة، ويفشل معها في إحراز نفس نتائجه التي سبق أن حققها في آخر انتخابات بلدية خاضها.
إخفاقات مستمرة
الحزب الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك عام 1923 قبل إعلان تركيا جمهورية علمانية، ظل منذ هذا التاريخ يحكم البلاد منفردًا على مدى سبعة وعشرين عامًا، إلا أنه عقب انتخابات 1950 تحوّل من حزب السلطة الأوحد إلى حزب المعارضة الرئيسي، حينما خسرها لصالح الحزب الديمقراطي.
ورغم التغيير الذي طال العديد من قياداته طوال هذه المدة، وعدد الاستحقاقات الانتخابية التي أُجريت في البلاد وخاضها الحزب إما منفردًا أو متحالفًا مع غيره من الأحزاب الأخرى، فإنه فشل في تغيير موقعه على الخريطة السياسية للبلاد، والعودة مجددًا لتبوُّؤ مقاعد السلطة فيها، حيث ظل منذ ذلك التاريخ يتبوأ مقعد حزب المعارضة الرئيسي، وكأنه أصبح عاجزًا عن تخطي هذه المرحلة والانتقال إلى غيرها.
انقسام دوائر صنع القرار
ورغم سعيه لتقديم نفسه كمنافس قوي على السلطة، وإعلان رغبته في تولي حكم البلاد، فإنه لا يزال يعاني من آثار هزيمته في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة، ولم تستطع قياداته حتى الآن تخطّي هذه المرحلة، وإنهاء حالة الشقاق والانقسام التي تسيطر على دوائره المؤثرة في صناعة القرار، حيث ينقسم الحزب إلى ثلاثة أجنحة: جناح يدعم رئيس الحزب الحالي أوزغور أوزال، وجناح يؤيد أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول، وجناح يدين بالولاء لكمال كليجدار أوغلو الرئيس السابق للحزب.
وهي الأجنحة التي يبدو أنها استمرأت حالة التحزب والشللية، وقررت المضي قدمًا بالحزب على هذه الصورة، الأمر الذي أعاق محاولات لملمة الشتات، ومداواة الجراح والتعافي؛ حتى يمكن خوض معركة الانتخابات المحلية بقوة وتركيز وقدرة على المواجهة.
يتضح هذا جليًا في الخلافات التي ظهرت إلى العلن بين رئيس الحزب أوزغور أوزال، وكلّ من رئيسي بلديتي إسطنبول أكرم إمام أوغلو، وأنقرة منصور يافاش، حول أسماء مرشحي الحزب للبلديات المختلفة، حيث سعى كل منهما إلى فرض شخصيات بعينها، ورفضا بشدة الامتثال لقرارات الهيئة العليا للحزب برئاسة أوزال.
رفْض أسماء مرشحي عدد من البلديات لم يأتِ من جانب إمام أوغلو ويافاش فقط بل امتدّ إلى القاعدة الشعبية للحزب في بعض المناطق والمدن، التي أعلنت رفضها الأسماءَ المقترحة من جانب الحزب، مثلما حدث في هاتاي، حيث خرج المئات من أبناء المدينة التاريخية في تظاهرة؛ لإعلان رفضهم إعادةَ الحزب ترشيح نفس رئيس البلدية مرة أخرى، حيث اتهموه بالفشل، وسوء الإدارة، والتسبب في زيادة حجم الكارثة التي نجمت عن زلزال السادس من فبراير/ شباط 2023، الذي راح ضحيته آلاف المواطنين من أبناء المدينة.
ثورة المبعدين
إضافة إلى ثورة المبعدين، الذين تم تجاهلهم من جانب قيادة الحزب، إذ لم تتم إعادة ترشيحهم مرة أخرى، والذين أرجعوا هذا التجاهل لوجود حملة منظمة تسعى لإقصائهم كونهم إما أكرادًا أو علويين، ويبدو الحزب بهذا التوجه وكأنه يعاقب أعضاءَه الأكراد على فشله في التوصل إلى اتفاق يؤمّن له التحالف مجددًا مع حزب الشعوب للمساواة والديمقراطية، الذي يمثل الأكراد سياسيًا داخل تركيا.
والذي قرّر الدفع هذه المرة بمرشّحين من أعضائه؛ خلافًا لما جرت عليه العادة في الاستحقاقات الانتخابية الماضية، التي طالما دعم فيها مرشحي الشعب الجمهوري، ودعا مؤيديه للتصويت لهم، الأمر الذي وفر لهم كتلة تصويتية ضخمة كان لها أكبر الأثر في نجاحهم، واقتناصهم بلديتي أنقرة وإسطنبول من مرشحي العدالة والتنمية.
أما بالنسبة للعلويين فيبدو جليًا أن حالة الخوف منهم، وعدم الثقة بهم لا تزال تسيطر على الهيئة العليا للحزب؛ نظرًا لأنهم من أكبر مؤيدي رئيس الحزب السابق كمال كليجدار أوغلو، حيث دعموه في جميع قراراته، ووقفوا إلى جواره في المؤتمر العام الأخير للحزب، وسعوا إلى التصدي لمحاولة إقصائه عن الرئاسة، فهم يدينون له بالولاء، بعد أن جلبهم إلى الحزب، ومنحهم مناصب عليا داخله.
عودة كليجدار أوغلو
لم تتوقف أزمات حزب الشعب الجمهوري عند هذا الحد، بل يواجه الحزب معضلة أخرى وهي الخاصة بإصرار كمال كليجدار أوغلو الرئيس السابق له على العودة مجددًا، حيث نفى الرجل رسميًا على صفحته بمنصة "إكس" اعتزاله العمل السياسي، مؤكدًا أنه بصدد التحضير للعودة في شهر أبريل/ نيسان المقبل؛ أي عقب انتهاء الانتخابات المحلية.
وهو ما بدا كأنه دعوة لأنصاره داخل الحزب للاستعداد لهذه العودة، حيث يتوقع أن يخرج الحزب مع قيادته الجديدة بهزيمة كبيرة من انتخابات المحليات، ويخسر ما سبق أن حققه من نتائج؛ بسبب الخلافات المتزايدة بين أوزال وإمام أوغلو الذي يبدو أنه يريد فرض إرادته على رئيس الحزب، ويسعى إلى تقليص دوره.
الأمر الذي سيستوجب محاسبتهما معًا إمام الهيئة العليا للحزب والتخلص منهما، وهو ما يعني وفق وجهة نظره إفساح الطريق رحبًا أمام عودته مرة أخرى لرئاسة الحزب، مما رفع حالة التوتر والقلق داخل الحزب؛ خوفًا من إحجام مؤيدي كليجدار أوغلو من العلويين، والمتعاطفين معه عن التصويت له في الانتخابات، ويخسر الحزب كتلة تصويتية ضخمة أخرى إلى جانب كتلة الأكراد، الأمر الذي سيكون له انعكاسات سلبية على نتائجه في الانتخابات.
فضائح واتهامات بدعم الإرهاب
وبعيدًا عن الخلافات الداخلية يواجه حزب الشعب الجمهوري أزمة أخرى لا تقل في أهميتها عن أزمته الداخلية، حيث تقود ميرال أكشينار، رئيسة حزب الجيد حملة عدائية شرسة ضد الحزب ورموزه، متهمة إياهم بدعم الإرهاب، وتلقي التعليمات الخاصة بالتحالفات الانتخابية من عناصر حزب العمال الكردستاني بجبال قنديل، وموجهةً اتهامًا مباشرًا لرئيس بلدية إسطنبول بمحاولة تفكيك أركان حزبها، وبأنه يقف وراء نزيف الاستقالات المستمر منذ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
بينما تم تسريب عدد من الفضائح التي تخصّ الذمة المالية لقيادات الحزب، حيث تناولت وسائل الإعلام فيديو مصورًا داخل الحزب لعدد من أعضائه وهم يقومون بتسلُّم وعدّ كَمية كبيرة من النقد الأجنبي، وهو ما أثار عاصفةً من الاستهجان والتساؤلات أدّت إلى تدخل المدعي العام الذي بدأ تحقيقًا موسعًا لمعرفة مصدر هذه الأموال، وسبب منحها الحزبَ.
ليخرج رئيس الحزب متهمًا العدالة والتنمية بإثارة الإشاعات ضدهم، ومحاولة النيل من سمعتهم، بينما تبرأ أكرم إمام أوغلو من الأمر برمته، مؤكدًا عدم معرفته به، ومدعيًا أن جنان كافتجي الرئيسة السابقة للحزب بإسطنبول، قد تكون هي المسؤولة عن هذا الأمر.
إلى جانب تداول وسائل الإعلام صورًا لإحدى الشقق السكنية في العاصمة الفرنسية باريس قيل إن ملكيتها تعود لرئيس بلدية أنقرة، بينما ترزح البلدية تحت وطأة ديون هي العليا على مستوى البلديات التركية مجتمعة، كما تم تداول فيديو مصور لفيلا ضخمة البناء ادعى مسرّبوه أن ملكيتها تعود لأكرم إمام أوغلو، الذي يردد دومًا مقولة أنه نجح في وقف الإسراف الذي عانت منه إسطنبول.
مواقف صعبة وأزمة سياسية حقيقية يواجهها حزب الشعب الجمهوري في وقت حرج للغاية قد تلقي بظلالها على نتائجه في الانتخابات المحلية، مما قد يعرضه لخسارة تاريخية، ويهدر فرصته كأكبر حزب معارض لحجز مكانه كخليفة محتمل لحزب العدالة والتنمية، بعد أن أعلن الرئيس أردوغان أن هذه الانتخابات هي آخر انتخابات له كرئيس للجمهورية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس