د. ياسر سعد الدين - مدونات الجزيرة
يقول الله سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون) (المنافقون: 9). التحذير موجه للذين آمنوا تحديدا، تبدأ الآية بنداء للمؤمنين، وتنتهي ومن خلال مقطع قصير وسبيل دنيوي بتحول أولئك المخاطبون إلى خاسرين، إن شغلتهم أموالهم وأولادهم عن ذكر الله.
المؤمنون وبطبيعة الحال ينشغلون بأموال حلال ليست ربوية ولا تكون من خلال استثمارات في الخلاعة أو القنوات الفضائية أو العبث والمجون. ومع ذلك تحولوا بانشغالهم عن ذكر الله وقد أختلت أولوياتهم واعتلت موازينهم إلى الخسارة بشهادة رب رؤوف عادل شديد العقاب.
يرفع الآذان والإقامة ولا يتحرك الناس عن مصالحهم وشرائهم وبيعهم سعيا للصلاة، فإذا نصحت أو ناقشت قالوا العمل عبادة والقيام على رزق العيال عبادة. نعم هو عبادة إن كان السعي له حلالا ولا يشغل عن ذكر الله ولا يتقدم عليه، وإن كان الهدف منه حياة كريمة لا مترفة، ولا يقصد منه المباهاة والتفاخر والتثاقل إلى الأرض.
يقول الله سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم) (التغابن: 14)، تحذير رباني آخر من أن ينشغل الإنسان عن ذكر الله بأهله أو أن يرق قلبه لحالهم أو مطالبهم، فيدفعه ذلك للقبول أو التعامل بالحرام أو أن يشهد زروا أو أن يغشى فجورا.
لقد خلق الله الإنسان في هذا الكون لرسالة عظيمة وأمانة كبيرة (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) (الأحزاب: 72)، وسخر له ما في السماوات والأرض، واستخلفه على الأرض، لينظر في نهاية المطاف ماذا يعمل، بعد أن يبتليه في هذه الدنيا ليكون الحساب دقيقا ممن لا يعزب عن علمه مثقال ذرة، وحسابه بمثقال ذرة، (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) (الزلزلة: 7 -8).
يخاطبنا الله سبحانه وتعالى (نسأل الله أن نكون من أهل الإيمان) فيقول: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) (الحشر: 18)، هل توقفنا يوما لنتأمل ونتدبر ونحاسب أنفسنا لننظر ما قدمنا لغد؟ أم نكون ممن يقول -عياذ الله- حين يأتي ذلك الغد: (يا ليتني قدمت لحياتي) (الفجر: 24).
وتأتي الآية العاشرة من سورة المنافقين بعد التحذير الرباني من الانشغال عن ذكر الله بالمال لتضع المؤمن أمام اختبار فتنة المال وحبه: (وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين).
ومع وعد الله للمنفقين بأن الله سيخلف عليهم ووعد رسوله صلى الله عليه وسلم بأن المال لا تنقصه الصدقة، يسقط كثيرون في امتحان المال (الحديث ليس هنا عن أهل الربا والسحت وأكل المال الحرام وخيانة الأمانة)، فتراهم حتى في الزكاة يلجؤون للحيل وللفتاوي لعل زكاتهم تقل وبالتالي تزداد أموالهم كما يتخيلون.
هذا خلل في الإيمان، كما إن من صفات المحسنين والتي وردت في سورة (الذاريات: 9) (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) -وليس فقط حق معلوم وهو الزكاة-، والله سبحانه وتعالى يقول (إن رحمت الله قريب من المحسنين) (الأعراف: 56).
إن اختبار الحياة قاس وصعب، وإن الأمر جد لا هزل، وإن الموت أقرب إلينا أكثر بكثير مما نتخيل، أمامنا سكرات الموت وما قبلها وكيفية الوصول إليها، وضمة القبر وظلمته، وعالم البرزخ، (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) (المؤمنون: 100)، وبعد ذلك يوم الفزع الأكبر، والصراط والحساب والوقوف أمام الله، (يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد) (المجادلة: 6).
إن ما نستطيعه اليوم قد لا نستطيعه غدا، وإن موازين الآخرة مختلفة تماما عن الدنيا، فاذا كانت دمعة من خشية الله في خلوة قد تنجينا من النار وإذا كانت شق تمرة قد يقينا حر جهنم، فإن الأمر مختلف في الآخرة، (ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) (الزمر: 47)، أما حقوق العباد واغتصابها أو الانتقاص من كراماتهم أو حتى إيذاء الدواب، فحسابه في الآخرة ليس هينا ولا يسيرا بل شاقا وعسيرا، وما ربك بظلام للعبيد.
إن حياتنا فرصة كبيرة، وإن عافيتنا وما أنعم الله به علينا من رزق نِعم كبيرة، وإن الحياة والدنيا اختبار بالغ الصعوبة، وفي نهاية المطاف، (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) (النجم: 39)، (كل نفس بما كسبت رهينة) (المدثر: 38).
اللهم نسألك حسن الخاتمة والهداية والسداد والرشاد، وأن تهب لنا من لدنك حكما وعلما ورحمة إنك أنت الوهاب.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس