ترك برس

استعرض مقال تحليلي للكاتب والإعلامي التركي كمال أوزتورك، في موقع الجزيرة نت، ملامح الأزمة الجديدة للبشرية والانزلاق نحو الفوضى في ظل "الثورة الرقمية"، مؤكدا أن البشرية تواجه تحديات متصاعدة قد تؤدي إلى أزمات خطيرة في المستقبل القريب.

وقال أوزتورك إن الإنسان شهد عبر التاريخ فترات من الانزلاقات الكبيرة، التي كانت نتيجتها تحولات كبرى، وكوارث عظيمة، وتغيرات جذرية. فبعد فترة الاستعمار والثورة الصناعية؛ اجتاحت العالم اضطراباتٌ كبيرة، وتحولات، وحروبٌ، ونتيجة لذلك، تغيّرت توازنات القوى في العالم، بما في ذلك الوضع الاقتصاديّ، وقيادات الدول، وعلم الاجتماع بالكامل.

ويبدو أننا نمرّ بفترة مشابهة في تاريخ البشرية. في هذه المرحلة، يعيش الإنسان "الثورة الرقمية"، ويبدو أنها أحدثت أكبر وأشمل تأثير شهده العالم عبر التاريخ. هذه الثورة أكبر من الثورة الصناعية، وأكثر انتشارًا، وأسرع تطورًا. لهذا السبب، نلاحظ انزلاقات واضطرابات وتغيرات كبيرة في جميع مجالات الحياة، وفي كافة المناطق الجغرافية على السواء. يقول الكاتب.

ورأى أوزتورك أن الثورة الرقمية لم تتسبب في تطور التكنولوجيا فحسب، بل تؤثر بشكل كبير على السلوك البشري، وانتشار العلوم، وعلم النفس، والسياسة. نحن في منتصف هذه الثورة، وبالتالي لا يمكننا بعدُ فهم كل تأثيراتها والتغيرات التي أحدثتها. ومع ذلك، يجب أن ندرس الحروب والهجرات والانهيارات التي يشهدها العالم، والأزمات التي يعيشها الإنسان كاضطرابات ناتجة عن هذه الثورة.

وتابع المقال:

إن الولايات المتحدة هي القوة الدافعة الكبرى لهذه الثورة الرقمية والمتقدمة بأشواط فيها، ولكن التغير الكبير والتحلل في بنيتها الاجتماعية قد يدفعها نحو الانهيار من الداخل. فالتيارات اليمينية المتطرفة، والقومية الشعبية، والسياسات المبنية على تصورات دينية، والسياسات الخارجية العدوانية، وانتشار الجهل، والانحلال الأخلاقي أصبحت مشاكل خطيرة لم يجد المثقفون الأميركيون حلولًا لها.

إنهم خائفون؛ لأن هذه البنية الاجتماعية يمكن أن تضع شخصًا غير متزن وغير ملتزم بالقوانين مثل ترامب في منصب رئيس الولايات المتحدة.

الغرابة تكمن في أن الدول التي نهضت بفضل الثورة الصناعية والنموذج الحضاري الذي أنشأته، تلك الدول تتهاوى تدريجيًا، بينما لم تتبلور بعد مراكز القوة الجديدة والنموذج الحضاري الجديد الذي سيحلّ محلها.

الصين والهند، وفقًا لجميع الباحثين، هما القوتان العظميان القادمتان؛ فبهذا النمو السريع والتركيبة السكانية، ستغير هاتان الدولتان قريبًا التوازنات السياسية والاقتصادية والعسكرية في العالم.

لكن ما هي القيم الإنسانية التي تقدّمها هاتان الدولتان للعالم المضطرب المتدهور؟ وما هي الحلول المقترحة لانعدام العدالة في توزيع الثروات، وللشعوب المستغلة، والجوع، والفقر، والانحلال الأخلاقي؟ هذا غير واضح بعد.

لم يتعلم العالم منهما سوى المزيد من السعي لتحقيق الثروة والمزيد من التجارة. لكن هذا يعني أيضًا مشاركة الموارد الطبيعية اللازمة للثراء، وبناء طرق تجارية جديدة، وإعادة تشكيل العلاقات الاقتصادية.

اليوم، الحروب الأهلية في أفريقيا، والفوضى في الشرق الأوسط، والتوتر في آسيا؛ كلها نتيجة مباشرة لهذا. قد تنشأ دول وشعوب جديدة ثرية، ولكن السلام والسعادة لن يتواجدا فيها؛ لأن السلام والسعادة لا يأتيان من إنتاج السلع المادية، بل من إنتاج القيم الإنسانية.

أزمات جديدة

وهنا يكمن التحدي الأكبر للبشرية. فالثورة الرقمية تذيب كل ما هو إنساني، وتجعله فاسدًا، ومجردًا من المشاعر، كما لو أنه شاشة رقمية. الثورة الصناعية جعلت قيم الإنسان ميكانيكية، بينما الثورة الرقمية تجعل قيمنا الإنسانية تشبه الشاشات الرقمية الباردة، عديمة اللون، والحياة، والمشاعر، وبدون خصوصيّة.

هذه هي الأزمة الجديدة للبشرية؛ فيما يبقى المرشّحون من القوى العظمى الصاعدة اليوم ليس لديهم بعد ما يقترحونه لهذه الأزمة.

لكنّ الوضع الأكثر خطورة هو: بينما لم يجد الإنسان حلًا للانزلاق الذي أحدثته الثورة الرقمية، فإنه يواجه الآن الفوضى الكبرى التي أحدثها الذكاء الاصطناعيّ، الذي قفز بالثورة الرقْمية إلى مستوى جديد، وهذه بداية أزمة جديدة للبشرية.

وسط كل هذا، يشاهد العالم مجازر مثل تلك التي تحدث في غزة، والتي تزلزل كيان الإنسانية جمعاء. ولمثل هذا السبب، فإن الانزلاق الكبير أصبح في تسارع مخيف.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!