ترك برس
تعتبر الصهيونية موضوعًا معقدًا يتجاوز مجرد كونه أيديولوجية دينية أو قومية، ويعكس تجليات تاريخية عميقة تتشابك مع السياسات الإمبريالية للدول الكبرى، مثل بريطانيا والولايات المتحدة.
وفي مقال له بصحيفة يني شفق، قال الكاتب الصحفي التركي سلجوق تورك يلماز، إنه لا يمكن فهم المشروع الاستيطاني التوسعي الذي مكّن إسرائيل من احتلال فلسطين منذ عامي 1917 و 1948، من خلال المعاني السلبية التي نربطها بالمفاهيم العربية أو الشيعية. فإسرائيل هي مستعمرة استيطانية بُنيت على يد بريطانيا والولايات المتحدة في شرق البحر الأبيض المتوسط. وقد نفذت هاتان الدولتان خططهما الإقليمية من خلال هذا الكيان الاستعماري.
وأكد تورك يلماز أن هذه الحقيقة بالغة الأهمية لأنها تدعونا إلى توجيه أنظارنا نحو بريطانيا والولايات المتحدة. فقد طور اليهود الصهاينة أيديولوجية تتوافق مع خطط هاتين الدولتين في شرق البحر المتوسط. لقد نشأت الصهيونية وتشكلت في سياق السياسة الامبريالية البريطانية والأمريكية.
وتابع المقال:
إن أولئك الذين يركزون على التاريخ واللاهوت اليهودي كمرجع وحيد لتحليل الصهيونية كأيديولوجية يقعون في خطأ فادح أدى إلى تشويه الرؤية، وحجب دور بريطانيا وأمريكا في شرق البحر المتوسط. لو تم النظر إلى الصهيونية كأيديولوجيا استعمارية، لكان التاريخ البريطاني والأمريكي سيظهر لا محالة. وكان هذا بدوره سيجبرنا على النظر إلى عصر التنوير ومفاهيمه بدلاً من اللاهوت اليهودي.
وبطبيعة الحال، لم يكن ليحظى ذلك التصور الإيجابي الذي نربطه بـ "العالم الغربي الحديث" بسلطة مطلقة في عقولنا. ففي كل حدث تقريبًا، نجد أنفسنا أمام تباين بين تلك المعاني السلبية التي نربطها بالعرب والشيعة وتلك المعاني الإيجابية التي نربطها بالعالم الغربي الحديث. وبما أن الصهيونية قد صنفت ضمن فئة "المعاني الإيجابية"، فإنها لم تخضع لتحليل يكشف حقيقتها.
إذن، ما الذي سيحدث بعد ذلك؟
قد لا نتمكن من معرفة ما سيحدث بشكل دقيق، ولكن ينبغي أن ندرك أن بريطانيا والولايات المتحدة تسعيان للسيطرة على كامل منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط. وفي مقال سابق، تحدثت عن رغبة إسرائيل في التوسع نحو الشمال، وكما أشار الرئيس أردوغان، فإن الهدف النهائي للتوسع على طول ساحل شرق البحر المتوسط باتجاه الشمال هو الوصول إلى ولاية هاطاي. وعند تحديد هذه المنطقة على الخريطة، يجب أن نوجه أنظارنا نحو خليج العقبة.
أما في الشمال، فمن الواضح أن كلاً من هاطاي وقبرص هما ضمن الأهداف المرسومة. إن إدراج هذا التوسع الجغرافي تحت مفهوم "إسرائيل الكبرى" سيكون مضللاً، لأن هذا المفهوم يستند إلى اللاهوت اليهودي. وبدلاً من ذلك، يجب استخدام مصطلح يذكرنا بالطبيعة الاستعمارية للأيديولوجية الصهيونية. وبهذا الشكل يمكننا تحقيق توازن في التعارض القائم بين "المعاني الإيجابية" و"المعاني السلبية" التي يتم توظيفها في هذا السياق.
ونشهد منذ السابع من أكتوبر تحولات جذرية في منطقتنا الجغرافية. ويمكننا أن نتوقع أن تجبر هذه التحولات كلًا من قارة أوروبا وروسيا وإيران إلى اتخاذ قرارات مصيرية. فاليوم، نجد دولًا مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا تتصرف بما يتماشى مع خطط بريطانيا والولايات المتحدة في شرق البحر المتوسط. وتقوم هذه الدول، شأنها شأن الصهاينة، بتكييف أيديولوجيات جديدة تخدم السياسات الإمبريالية الأمريكية والبريطانية.
ويشير صعود اليمين المتطرف إلى عملية تنويرية جديدة تتماشى مع "الحضارة اليهودية الأنجلوسكسونية". ولكن هذا الأمر سيعود عليهم بالخسارة على المدى الطويل. ورغم ذلك يصعب الحديث عن أي تحرك فكري ضد الاستعمار الجديد للولايات المتحدة وبريطانيا في قارة أوروبا. أما بالنسبة لروسيا وإيران، فإن اتخاذ موقف مختلف، خاصة في شرق المتوسط، يمثل مسألة حيوية، لأن "دول المحور" نفسها تهدد روسيا أيضًا.
في عام 1920، دخلت فرنسا فعليًا إلى سوريا وأقامت فيها نظامًا إداريًا جديدًا قائمًا على الانتداب. وكان لبنان نتاجًا لهذا النظام. والآن يتم تصفيته أيضًا. ومن المحتمل أن تتبنى فرنسا نهجًا جديدًا تجاه لبنان. ففي مواجهة التوسع العدواني للحضارة اليهودية الأنجلوسكسونية، يشهد لبنان هو الآخر عملية انهيار. ولا حرج في الإشارة إلى أن الأراضي التي ذكرناها تحمل في طياتها آثارا عميقة من التاريخ التركي، حيث شهدت تجارب تمتد لقرون.
ومن هنا، من الضروري عودة روسيا وإيران إلى طاولة المفاوضات مع تركيا في إطار رؤية جديدة، نظرًا لفشل سياستهما في سوريا. في حين خاضت تركيا، منذ عام 2016، صراعا شرسا ضد التشكيلات التي نشأت تحت نفوذ بريطانيا والولايات المتحدة، وهو ما يمثل إنجازًا كبيرًا لمنطقتنا، أضاف قيمة كبيرة إليها.
لقد كان تنظيم "غولن" الإرهابي استثمارًا ضخمًا للولايات المتحدة وبريطانيا، وكان ذا أهمية كبيرة بالنسبة لهما في خططهما الإقليمية، تمامًا مثل إسرائيل. وقد حققت تركيا نجاحًا يستحق الإشادة في مواجهة هذا التنظيم. ولكن هذا الصراع لم يصل بعد إلى نهايته.
ولا تقتصر أهمية جمهورية شمال قبرص التركية على سياسات شرق البحر المتوسط فحسب، بل إن الولايات المتحدة وبريطانيا تهددانها أيضًا. ويتعاون الصهاينة وأعضاء تنظيم "غولن" الإرهابي بشكل جيد تحت مظلة الأنجلوسكسونية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!