د. ياسر سعد الدين - خاص ترك برس

في خضم النشوة بعد الإنجازات التكتيكية المتتالية في لبنان، صرح نتنياهو أنه يتبع ما جاء في التوراة، فهل قرأ العرب ممن اتخذوا من السلام مع دولة الاحتلال المنهج والمسار والمصير، استراتيجيا وفكريا وسياسيا، التوراة التي يتبعها نتنياهو؟؟ وهل عرفوا مكانهم ومكانتهم في التوراة كجوييم في موازيين "شعب الله المختار"!؟

وهل يتابع عرب السلام والتطبيع مواقف وتصريحات التيار الديني المتطرف، والذي يشارك في الحكم في إسرائيل بزخم وفعالية، حين يتحدثون عن الأبعاد الدينية لسياساتهم ولحروبهم، وعن أخلاقية إفناء مليونين من الأبرياء، وعن منطقية استخدام السلاح النووي إذا ما استدعت أو اقتضت الحاجة!! وعن ضرورة حصار غزة لمحاربة الحيوانات البشرية وقطع الكهرباء والطعام والوقود عنها، كما صرح وزير الدفاع الاحتلال يوآف غالانت في بدايات حرب الإبادة على القطاع.

في 25/09/2024 وبعد بدء القصف الإسرائيلي العنيف للبنان، نشرت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية مقال رأي، جاء فيه أن لبنان جزء من أرض إسرائيل الموعودة التي سيعيدها الله إلى إسرائيل قريبًا، ومع الضغوط والاحتجاجات حذفت الصحيفة مقالها. استشهد المقال "المحذوف" بآيات من التوراة وبآراء رجال الدين التي تؤكد أن لبنان يقع ضمن حدود إسرائيل وأن الإسرائيليين ملزمون دينيًّا بغزو لبنان. يوؤال إليتزور البروفيسور الباحث والمحاضر في اللغة العبرية واللغات السامية بالجامعة العبرية نشر مقالا في عام 2015، كتب فيه بصراحة أن لبنان جزء من الأرض التي وعد الله بها شعب إسرائيل.

الحديث عن إسرائيل الكبرى ارتفعت وتيرته، وعلت نبرته مع اشتداد القصف على لبنان ونجاح الصهاينة في اغتيال العديد من قادة حزب الله وتحقيق إنجازات ونجاحات مرحلية، ومعه ارتفعت شعبية نتنياهو وانكفأت المظاهرة المناوئة له وغاب أصحابها. بمعنى أن الغلبة العسكرية في إسرائيل ونشوة ما يعد إنجازات تخرج المخبوء في العقول إلى الألسن، ليجاهر الإسرائيليون بما يتمنونه بغض النظر عن انتماءاتهم، وما تخفي صدورهم أكبر.

في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 2024، تحدث الرئيس أردوغان عن النوايا التوسعية الإسرائيلية فقال: الإدارة الإسرائيلية التي تتحرك من منطلق هذيان الأرض الموعودة، وتعتمد بالكامل على التعصب الديني، تضع الأراضي التركية نصب عينيها بعد فلسطين ولبنان. الحسابات تدور الآن حول هذا الموضوع، من الواضح أن حكومة نتنياهو تسعى وراء حلم باطل يشمل الأناضول وتلاحق أوهام الدولة الكاملة. لقد أفصحت عن نواياها في مناسبات عديدة، وكل تطور منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، يزيد من حجم هذا التهديد. إذا كانت فلسطين ولبنان غير آمنتين، فهل تعتقدون حقًا أنكم ستكونون في أمان؟

عام ويزيد على محرقة غزة رأينا وعشنا ومعنا العالم وحشية صهيونية لا تتورع عن ارتكاب المجازر وجميع جرائم الحرب والوانها، وتدمير كل مقومات الحياة وتقطيع شرايينها، واستخدام التجويع سلاحا في حرب يسقط من جرائها الأطفال والشيوخ والمرضى. محرقة تستهدف المستشفيات والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس وحرق الأبرياء من الأطفال والنساء في خيم النزوح حتى الموت بأسلحة متطورة وفتاكة.

وبعد ما كرر الإسرائيليون تصريحاتهم وتحذيراتهم من تحويل لبنان إلى غزة جديدة، نفذوا تهديداتهم واستهدفوا مناطق متعددة في لبنان بقصف سجادي عنيف، واستخدموا قنابل عملاقة شديدة الانفجار في عمليات الاغتيال التي نفذوها بحق قيادات حزب الله. وكما فعلوا في غزة، طلبوا من المدنيين في مناطق مأهولة بالسكان بإخلائها والنزوح عنها خلال فترات زمنية قصيرة، وبشكل لا يراعي الحاجات والتبعات والمعاناة الإنسانية لمثل هذه الأوامر والتوجيهات.

لا تهدف إسرائيل إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط بحسب ما قاله وكرره نتنياهو من الناحية الجغرافية فحسب، بل بتقديري أن أحد أهداف التدمير الشامل في غزة وما يحدث في لبنان هو إعادة برمجة النفسية والعقلية العربية لتستشعر وترضى بالدونية في تعاملها مع الدولة العبرية والتي تسعي للهيمنة على المنطقة سياسيا واقتصاديا وحتى نفسيا إن صح التعبير.

القضية بالنسبة لإسرائيل ليست فقط في كبح المقاومة وتدميرها وحواضنها الشعبية سواء كانت فلسطينية أو لبنانية، القضية هي في هيمنة واستعلاء وتوسع مهد له ترامب حتى قبل الانتخابات الأمريكية بقوله أن مساحة إسرائيل صغيرة وأنه طالما فكر في توسيعها، وهو الأمر الذي تحدث عنه الرئيس التركي بوضوح وعلانية ودعا لجلسة سرية في البرلمان التركي لمناقشة الخطر الإسرائيلي على تركيا.

بعد الجرائم الإسرائيلية في غزة والتي فاقت وحشية وإجراما وإبادة ما يمكن للعقل البشري أن يتخيله ويتصوره، وبعد مواقف وتصريحات موغلة في التطرف والعنصرية لمسؤولين إسرائيليين حول إبادة الفلسطينيين وتهجيرهم والتوسع الإسرائيلي المستند لوعود توراتية، وبعد ما حذر اردوغان أكثر من مرة عن خطر التوسع الإسرائيلي والذي يهدد حتى تركيا، بعد كل هذا أليس من المستغرب والمستهجن أن يتحدث العرب عن السلام وعن تمسكهم به خيارا استراتيجيا؟ يتحدثون عن السلام والاحتلال ضرب بعرض الحائط كل اتفاقيات السلام والتي أبرمها مع السلطة والدول العربية، فها هو على سبيل المثال لا الحصر: يهدد بتهجير الفلسطينيين، ويحتل معبر فيلادلفيا، ويصدق مجلسه التشريعي (الكنيست) على قرار برفض الدولة الفلسطينية.

وإذا كانت تركيا تستشعر خطر التوسع الإسرائيلي، فلماذا تغيب تلك المخاطر عن دول عربية؟ وكيف يمكن إقامة سلام مع متطرفين توراتيين يقترفون جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية؟ أليس من المستغرب أنه في الوقت الذي تطالب فيه المحكمة الجنائية الدولية بتوقيف نتنياهو ومحاكمته على جرائمه ما زالت دول عربية تعلن تمسكها بالسلام "الاستراتيجي" معه، ومن تلك الدول من يتعامل بقسوة وفظاظة مع مواطنيه من المعارضين والمفكرين والعلماء.

الحديث عن السلام مع القتلة ومقترفي الجرائم هو إقرار لهم وموافقة على جرائمهم المعلنة والموثقة والمستمرة، وهو ما قد يثير تساؤلات مستقبلية من معارضين ومفكرين عن شرعية تلك الأنظمة وهي لا تبالي بسيادتها ولا بالمخاطر الكبرى المحدقة ببلادها من سياسة إسرائيل الدموية والتوسعية. هذه الأمور بالإضافة إلى المخاطر الإسرائيلية تؤثر بشكل كبير على السلام الاجتماعي في تلك الدول، فلماذا يكون هناك حرص "استراتيجي" على السلام مع محتل قاتل متعجرف متكبر، ولا يكون مثل هذا الحرص على السلم والأمن الاجتماعي في الوطن؟؟

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس