محمد مختار الشنقيطي - مدونات الجزيرة
اعتاد العديد من قادة الدول مخاطبة الجمهور الأميركي عبر صفحات صحيفة نيويورك تايمز، بسبب ما لهذه الصحيفة من أثر واسع في الولايات المتحدة. وليس مقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الصادر في الصحيفة يوم 10 أغسطس الجاري بِدْعاً من المقالات في هذا المضمار. لكن الجديد في مقال أردوغان هو النبرة والمضمون.
فمن حيث النبرة كتب أردوغان مقاله بلغة رجل الدولة القويّ، ذي النفس الأبيَّة، الواثق من شعبه، المستيقن أن بلاده ليست عالة على أحد، وأنها قادرة على شق خطها الاستراتيجي بعيدا عن الولايات المتحدة. فليس في المقال أي أثر لنبرة التوسُّل والتسوُّل التي اعتدناها في مقالات قادة الدول التي ينشرونها في الصحف الأميركية، استعطافا للجمهور الأميركي والساسة الأميركيين.
ومن حيث المضمون جاء المقال فيما يشبه رسالة إنذار وإعذار أخيرة، وربما خطاب وداع أخير، للحليف الأميركي الذي استظلت تركيا بمظلته عقودا مديدة، كما جاء المقال في صيغة إعلان تركي أن البدائل الاستراتيجية وافرة لدى تركيا بعيدا عن الحليف الأميركي، وأن قوة تركيا الذاتية أصبحت تكفيها للاعتماد على ذاتها، بعيدا عن الوصاية الأميركية والأوروبية.
لقد جمع المقال بين مرارة الشكوى من الحليف القديم، وثقة الانطلاق إلى المستقبل بعيداً عن ذلك الحليف. ففي الشِّقِّ الأول اشتكى أردوغان من أن "الولايات المتحدة فشلتْ باستمرار ٍوإصرارٍ في تفهُّم واحترام مصادر قلق الشعب التركي" مدلِّلاً على ذلك بالموقف الأميركي المُبهَم والمـُـلْتوي من محاولة الانقلاب الدموي عام 2016 التي مات فيها 250 مواطنا تركيا، وكانت حياة أردوغان نفسه مستهدَفة فيها، ثم بالتحالف الأميريكي مع ميليشيات حماية الشعب الكردي السورية التي أغدقت عليها أميركا بالسلاح، رغم خطرها على كيان الدولة التركية، لأنها امتداد لحزب العمال الكردستاني في تركيا. وقد أوضح أردوغان في هذا الشق من المقال أنه "بدون أن تبدأ الولايات المتحدة في احترام سيادة تركيا، وتبرهن على تفهُّمها للمخاطر التي تواجهها أمَّتُنا فإن شراكتنا في خطر."
وفي الشِّقِّ الثاني من المقال بـيَّـــن أردوغان للأميركيين -دون مواربة أو تورية- أن تركيا "ستدبِّر أمرها [بعيدا عن أميركا] إذا فشلتْ أميركا في الاستماع إليها" وأن "الإجراءات الآحادية من طرف أميركا ضد تركيا لن تضرّ سوى المصالح الأميركية والأمن الأميركي." ثم ختم مقاله برسالة إنذار وإعذار لا لبس فيها: "على واشنطن -قبل فوات الأوان- أن تتخلى عن الاعتقاد الخاطئ بأن علاقاتنا ليست نِـدِّيَّــة، وأن تدرك أن تركيا لديها بدائل. فالفشل في وقْف هذا المسار الآحادي وعدم الاحترام سيستلزم منا البحث عن أصدقاء وحلفاء جدد."
ربما تكون مشكلة أميركا في هذه المنطقة هي إدمانها على التعامل مع "عملاء" رخيصين يخدمونها إيماناً واحتساباً، لا مع "حلفاء" محترمين يصرُّون على النِّدِّية والاحترام المتبادل. وبسبب هذا الإدمان لم يعُدْ صانع القرار الأميركي يتحمَّل من حلفائه أن يخالفوه في أي أمر، أو يعبروا عن ذاتيتهم المستقلة في أي شيء، بعدما اعتاده من بعض حلفاء أميركا من طاعة مطلقة، وخدمة مجانية، حتى وإن كانت تلك الخدمة على حساب مصالح دولهم ومستقبل شعوبهم. لكن قيادة تركيا الديمقراطية الجديدة –شأنها شأن أي قيادة دولة ديمقراطية- ليس في وسعها القبول بهذا التطفيف وعدم احترام الذات.
ويبدو مقال أردوغان خلاصة لتراكم طويل من الحيف الأميركي في التعامل مع تركيا، وهو –فيما يظهر- تدشين لمرحلة جديدة في العلاقات بين الطرفين، لعل أهم سماتها سيكون ابتعاد تركيا الكامل عن المحور الأميركي، وانضمامها إلى أحلاف دولية أخرى، تمهيدا لتحولها إلى دولة المحور في العالم الإسلامي. وكأنما جاء مقال أردوغان تصديقا لتنبؤات فيلسوف السياسة الأميركي صمويل هنتنغتون الذي لاحظ أن "الانبعاث الإسلامي غيَّر شخصية السياسة التركية" وتوقَّع -منذ عقدين من الزمان- أن تركيا ستستكمل اكتشاف ذاتها، وتعيد تعريف نفسها، ثم تبتعد عن الحلف الغربي، فكتب: "ماذا لو أعادت تركيا تعريف نفسها؟ عند نقطة ما يمكن أن تكون تركيا مستعدة للتخلي عن دورها المُحبِط والمُهين كمتسوِّل يستجدي عضوية نادي الغرب، واستئناف دورها التاريخي الأكثر تأثيرا ورُقيا كمُحاور رئيسي باسم الإسلام وخصم للغرب" (هنتغتون، صدام الحضارات، ص 241 و291).
إن الحرب الاقتصادية الحالية على تركيا، وقبْلها التواطؤ مع الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا عام 2016، مجرد أعراض لآلام انتقال تركيا من التبعية إلى الاستقلال، فتركيا تدعوها مكانتها وتاريخها وثقافتها إلى أن تكون رأساً في العالم الإسلامي، لا ذنَبا في الغرب. وهذا أمر لن يقبل به الغرب بسهولة. ولما كان العداء الغربي في المنطقة ينصبُّ على أربعة أمور هي الدين الإسلامي، والحرية السياسية، والسلاح النوعي، واستقلال القرار.. وكانت تركيا تزيد رصيدها من هذه الأربعة كل يوم، فما ظهر في مقال أردوغان من معالم القطيعة يبدو نتيجة منطقية ومآلاً حتميا في مسار العلاقات التركية الأميركية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس