ياسر عبد العزيز - مدونات الجزيرة
قد يكون العنوان مستفزا، وقد يكون صيغ بالشكل الذي لا يحقق المعنى منه، فالسؤال بـ"لماذا؟" يعني إقرارا بأمر قد حدث، ونسأل عن أسبابه، لكن كاتب المقال لم يضع العنوان، أو بالأحرى، دفع ليضع العنوان الذي استقر في صدر هذا المقال، فحديث البعض في المحيط الإقليمي لتركيا، وبعض المعارضة في الداخل، ذهب بالمقال إلى هذا العنوان.
في رسالة شكر أرسلت من أحد المطلق سراحهم بموجب القانون الذي أقر منذ أيام ونفذ بعدها بوقت قليل، شكر فيها، لكل من الرئيس التركي أردوغان وحليفه رئيس حزب الحركة القومية دولت باهتشلي اللذان كانا ونوابهما في البرلمان سببا لتمرير قانون العفو العام الذي سن على خلفية تفشي فيروس كورونا، وخشية النواب والإدارة من أن تكون السجون بؤر لتفشي الفيروس ما يجعل تركيا مدمرة، فالدافع في استصدار القانون كان إنسانيا ومن منطلق المسئولية والحرص على الصحة العامة للمسجونين وأسرهم وأطقم الحراسة وأسرهم والمجتمع أجمع، إلا أن الرسالة لم تكن من شخص عادي ولكن كانت من تشاكيجي أحد أخطر رجالات المافيا في تركيا.
لا نعرف إن كانت الرسالة مسيسة أم لا، ولا نعرف إن كان تشاكيجي مدفوعا لإصدار هذه الرسالة أم لا، لكن لو أخذنا الموضوع على محمل حسن النية، فإن الرجل ممتن لما فعله الرئيس، وبما إن الرجل ليس سجينا عاديا، وله مكانة بشكل ما في هذا المجتمع ويعرف الأغلب الأعم، فإنه أراد أن يسجل موقفا لعلة ما، لكن المعارضة تصيدت الفرصة لتنسج قصصا وتستدعي الماضي، وتربط علاقات انقطعت بين الساسة ورجال المافيا في التسعينات وما قبلها، ولأن الإنسان سجين ما يعيشه، فإن خيالهم دفعهم لتلك الحقبة التي بالأساس كانوا هم من يسيطر عليها، وفضائح الساسة في تلك الحقبة مع رجال المافيا مستهم أكثر من أي حزب آخر، كما أن أهدافهم في ضرب العلاقة بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية المناهض بقوة لانفصال الأكراد، وما يتفهمه من يقرأ التاريخ ويربطه بعلاقة العداوة بين عصابات المافيا والأكراد الانفصاليين، يمكنه فهم الدافع وراء الزج باسم الحزب الحاكم في مسألة إطلاق سراح تشاكيجي.
ادعت المعارضة والمرجفون من الدول الإقليمية أن صفقة الإفراج عن تشاكيجي وبعض أفراد من المافيا جاء بناء على طلب باهتشلي، فأجابه الرئيس مكافأة للطالب على مواقفه معه خلال الفترة الماضية، وهو مدعاة للسخرية، فهل يستقيم أن يطلب الحليف من حليفه الحاكم الإفراج على ثلة من المجرمين، بدلا من وزارة مثلا أو تيسيرات معينة تصلح لتقدم الحزب شعبيا كفرصة للانتخابات القادمة، لكن لأن هؤلاء يلعبون دوما على مربع الوعي فيظنون أن الكذب يمكن أن يمر، ولأن الغرض بالأساس هو تشويه الرئيس فإن الفرية مدحوضة، لأن ذلك الطلب قدم منذ سنوات من غيرهم ولم يقبله الرئيس وغضب وقتها، وأعلن الحرب في المقابل على تلك العصابات.
التشريعات تتسم، بحسب علماء القانون، بالعمومية والتجريد، بمعنى أن القانون حتى يصبح قانونا ولا يمكن الطعن عليه، يجب أن يكون غير محدد بشخص أو فئة أو طائفة، وأن يكون مجردا لا لبس فيه ولا غموض في تطبيقه على الكافة، وقانون العفو الذي صدر بمناسبة تفشي فيروس كورونا توافرت فيه هاتان السمتان، فالإدعاء بأن القانون فصل من أجل الإفراج عن شخص بعينه أو مجموعة بعينها هو محاولة للالتفاف على العامة ولي الحقيقة في مناكفة سياسية رخيصة لها أغراض غير تلك التي أطلقت من أجلها.
القانون استثنى بعض الفئات لمصلحة المجتمع كالمتهمين في جرائم الإرهاب والجرائم المخلة بالشرف والجرائم ضد النساء والجرائم ضد الأطفال، وفتح الباب لمن تجاوز سن الـ 65 عاما للاستفادة من هذا العفو، وتحديد السن هنا كان باستشارة طبية عمل على استيضاحها من المختصين في علوم الفيروسات والأوبئة، فالمختصون أكدوا أن الفيروس أكثر ما يصيب هم كبار السن، ومن هنا كان امتنان تشاكيجي من الرئيس وحليفه في الحركة القومية.
لكن المتابع لمسار إصدار التشريع يعرف أنه لم يكن منحة من العدالة والتنمية ولا من الحركة القومية، وإنما هو نتاج نضال من المنظمات الحقوقية التي كافحت من أجل استصدار هذا القانون، والغريب أن تلك المنظمات ومن ورائها أحزاب المعارضة كانت تتهم الحزب الحاكم بالتعنت في إطلاق سراح المساجين، وأن الإدارة وعلى رأسها الرئيس أردوغان يضحون بالإنسان والمجتمع بأكمله في السجون وافترضوا في ذلك أن إصابة واحدة فقط تعني انتهاء السجن بأكمله بسجانيه بأسرهم، فبحسب المنظمات الحقوقية فإن السجون التركية تحوي ما يزيد عن الـ 300 ألف سجين و15 ألف موظف ما بين شرطي وإداري، كلهم معرضون للإصابة بالفيروس، وعلى الرغم من أن وزارة الداخلية اتخذت كل التدابير اللازمة من تعقيم يومي وفصل المرضى في عنابر منفصلة وكذا الأطفال مع أمهاتهم، إلا أن تلك التدابير لم ترض المنظمات الحقوقية وأكملت نضالها من أجل إطلاق سراح السجناء.
لقد استفاد من قانون العفو الصادر منذ أيام 90 ألف مسجون لم يفرق المشرع بينهم، فإن يستفد منه اثنان أو ثلاثة وفق القواعد القانونية المؤسسة على العموم والتجريد، فإنه لا مجال أن يتساءل المغرضون: لماذا أفرج أردوغان عن عناصر المافيا التركية؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس