ترك برس
عندما سجل لاعب كرة القدم التركي هاكان شوكر أسرع هدف في تاريخ كأس العالم أمام كوريا الجنوبية في عام 2002 كان حزب العدالة والتنمية المنشأ حديثاً يستعد لتولي زمام السلطة في البلاد.
جاء هدف هاكان في الثانية 11 من بدء المباراة.. تستطيع وصفه بـ "قوة ناعمة" مبكرة لدولة سيتبنى حكامها الجدد القوة الناعمة كأساس لسياساتهم الخارجية.
في 2020 كان المصارع التركي قره دينيز يفوز ببطولة أوروبا في المصارعة الحرة. في تلك الأثناء كانت القوة الصلبة لتركيا تضرب في الجوار القريب والبعيد وتبني قواعدها العسكرية في الخليج العربي والقارة الإفريقية، وتتحدى أوروبا وأميركا بشراء منظومة إس 400 الروسية.
وكانت الطائرات المسيرة قد قصفت وتقصف من تصفهم أنقرة بـ "أعداء الأمن القومي" في سوريا وليبيا والعراق.. وتستعد لدخول ميدان المعركة رفقة أذربيجان ضد أرمينيا.
الحزب نفسه، والقائد نفسه، والدولة نفسها لكن الأدوات تغيّرت. ففي 2002 كان الشعار "صفر مشاكل"، وفي 2020 كان الواقع: "اقتحام المشاكل"، أمّا في 2021 فإن تركيا تعد بالجديد.
جدلية القوة والهوية على ضفاف البوسفور- أطوار التموضع التركي في طريق العبور بين أوروبا وآسيا..
لم يكن أي من جيل تركيا الحاضر قد وُلد بعد، لمّا انتصر الأتراك في حرب الاستقلال محطمين معاهدة "سيفر" الاستسلامية مع الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى. وقّع مصطفى كمال أتاتورك معاهدة لوزان التي شكلت خارطة تركيا الحالية ومنعت "حشر" البلاد في مساحة ضيقة من الأناضول.
كان هدف أتاتورك واضحاً: استعادة البر التركي الرئيسي وتثبيت الحدود النهائية للبلاد باعتراف كامل ونهائي من الدول المنتصرة في الحرب.
وبالفعل.. أسس "أبو الأتراك" جمهورية تركيا الحديثة العلمانية التي انشغلت بنفسها وانسلخت عن عمقها الحضاري الثقافي والديني فتبدلت الحروف العربية بحروف لاتينية والأذان العربي بأذان تركي والتقويم الهجري بالتقويم الغريغوري.
وتم إقرار ما يُعرف بـ "قانون السكون" بعد وفاة أتاتورك الذي يُعاقب كل شخص ينادي بعودة الدين للحياة العامة. ولم تكن تلك أكثر من مؤشرات بسيطة لطور اللحاق والتبعية للغرب اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.
يقول رئيس الوزراء التركي الأسبق أحمد داوود أوغلو في كتابه "العمق الاستراتيجي": "لقد وافقت تركيا على أن تكون عنصراً محيطياً راكداً طيلة فترة الحرب الباردة، لقد شعرت بالحاجة للمظلة الأمنية للمعسكر الغربي". وهذه الجملة تختصر كل شيء..
الدولة
انضمت رسميا لحلف الناتو في 1952 وأصبحت قاعدة أميركية متقدمة في مواجهة المد الشيوعي أيام الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي. الواقع آنذاك داخلياً يلخص بجملتين: "سلطة ينتخبها الشعب لكنها لا تسيطر على الجيش.. وجيش نصب نفسه وصيّا على "علمانية الدولة" مع استعداد مبدئي للانقلاب على أي حكومة مدنية مثل انقلاب 1960 على رئيس الوزراء عدنان مندريس ثم إعدامه.
خارجياً.. انعزلت الدولة تحت شعار: "سلام في الوطن.. سلام في العالم" مع بعض الاستثناءات، مثل المشاركة في الحرب الكورية سنة 1952.
القوة الخشنة لجيش البلاد في تلك الفترة كانت تتوجه للداخل أكثر وللخارج أحياناً في حروب الغرب فقط.. لكن أول تمرد خشن على الحلفاء كان على وشك الحدوث حيث اختلفت تركيا مع أميركا في أزمة الصواريخ الكوبية في 1962.
وتوترت العلاقات في 1964 بسبب المواقف المتضاربة من الأوضاع في قبرص. ولم يطل الأمر كثير حتى وقع أول استخدام تركي للقوة الصلبة في السياسات الخارجية عام 1974.
نجم الدين أربكان المعروف بـ "أبو الإسلام السياسي التركي الحديث" كان وقتها نائباً للرئيس بولانت أجاويد زعيم حزب الشعب الجمهوري العلماني.
بولانت الذي كان غائباً عن البلاد تفاجأ بقرار أربكان التدخل العسكري في قبرص لحماية القبارصة الأتراك من الانقلاب العسكري اليوناني. كان تحدياً للغرب وإرادته بقرار من رجل محسوب على التيار الإسلامي المحافظ. وكانت مسألة قبرص قضية دولة تدور في فلك الغرب.
استفادت تركيا من ظروف الحرب الباردة. ولم تُرد أميركا أو أوروبا أن تدخل في صراع مع أنقرة لأنها جبهة مهمة -إن لم تكن الأهم- في المواجهة مع الشيوعية واكتفت واشنطن بفرض حظر على تصدير السلاح لأنقرة ما بين عامي 1975 و1978.
شيء شبيه بالبرنامج النووي الباكستاني الذي غضت عنه أميركا الطرف خشية خسارة باكستان خلال فترة الغزو السوفييتي لأفغانستان.
اكتشفت تركيا كدولة 3 ميزات تمتلكها:
1- فعالية قوتها الخشنة في تحرّك منفرد
2- أهميتها الجيوسياسية
3- وضرورة بدء تصنيعها العسكري المستقل.. ففي أي لحظة قد لا تتفق مصالحها مع مصالح حلفائها..
تركيا عرفت على مر العصور أهمية موقعها الجغرافي الواصل بين القارات والمطل على البحار الدافئة والمضائق البحرية المؤدية إليها لكنها لم تكن صاحبة رؤية استراتيجية تستغل بها هذا الموقع.. هكذا فسّر أحمد داوود أوغلو حال البلاد.
كانت تركيا سنة 1991 القاعدة العسكرية التي تنطلق منها الطائرات الأمريكية والتحالف الدولي لضرب العراق بعيد غزو صدام حسين للكويت.
انتهت الحرب الباردة ولم تلعب تركيا دوراً إقليمياً أو دولياً مستقلاً.. أهميتها التقليدية كدرع غربي في مواجهة الشيوعية تلاشت.. أهميتها الجيوسياسية حاضرة وباقية.. لكنها بلا رؤية لمشروع متكامل يعرف دورها الجديد في الإقليم والعالم..
وفي الداخل كانت صراع العقود مستمراً.. علمانية الجيش المتشددة من جهة والمجتمع المسلم الذي يفرز نُخباً سياسية إسلامية من جهة أخرى..
في منتصف التسعينيات فاز رجب طيب أردوغان برئاسة بلدية اسطنبول الكبرى.. أواخر التسعينات.. أطاح الجيش بنجم الدين أربكان بانقلاب ناعم..
سُجن أردوغان في تلك الفترة بعد إلقاء بيت شعر يوحي بهوية تركيا الإسلامية في 1997
تركيا ستتغير.. أردوغان سيخرج من سجن.. وسيقود حزباً جديداً اسمه العدالة والتنمية.. يفوز بالانتخابات العامة في 2002 ويقود البلاد.
من النظرية إلى التطبيق.. تركيا والقوة الناعمة (2002 - 2016)
مع صعود حزب العدالة والتنمية توفّر العامل الغائب: ألا وهو المشروع الاستراتيجي.. فقد تبنت البلاد سياسة خارجية واضحة ومكتوبة..
● لن ننقلب على الماضي لكننا سنغيره..
● تطلعنا إلى أوروبا أساسي لكن وفق سياسة خارجية مستقلة
● نتوجه لوسط آسيا والقوقاز والشرق الأوسط وإفريقيا..
● صفر مشاكل مع الجوار..
● والأولوية للاقتصاد..
● أما القوة.. فناعمة..
خلال سنوات قليلة تحققت ثورة اقتصادية..
تركيا أصبحت ضمن الاقتصادات العشرين الأقوى في العالم.. بعد أن كانت دولة تثقلها الديون
بنية تحتية ضخمة وثورة صناعية وزراعية وعسكرية..
تبنت موقفاً جديداً من المسألة الكردية.. فأعطت للأكراد حقوقهم الثقافية ضمن نطاق وطني.. مع الإبقاء على موقفها الصارم تجاه أي تحركات انفصالية.
إنجازات وفرت تأييداً شعبياً كاسحاً بالمعنى الحرفي وثقلاً شعبياً لأي مواجهة محتملة مع الجيش..
في الخارج.. تبدأ تركيا مفاوضات دخول عضوية الاتحاد الأوروبي (٢٠٠٥) وتبتكر نموذجها الخاص من القوة الناعمة..
فقد ازدهرت الدراما.. وانطلقت المساعدات التنموية للدول الإفريقية والآسيوية بشكل خاص، وبدأت الجامعات المحلية بإعطاء المنح الدراسية للطلاب العرب والأفارقة والآسيويين..
كما تعاظم دور هيئة الشؤون الدينية في العمل الإغاثي والدعوي..
على صعيد الدبلوماسية.. انخرطت البلاد في جولات دبلوماسية مكوكية ونسج علاقات صداقة مع دول الجوار القريب والبعيد في الشرق والغرب..
وتصدّر نفسها كنموذج مثالي في السياسة والاقتصاد والتفاوض وصفرية المشاكل.. تتبنى القضايا العربية والإسلامية.. على رأسها قضية فلسطين.. كان تأثير القوة الناعمة لتركيا واضحاً للغاية.
في عام 2002 في استطلاع للرأي أُجري في بعض الدول العربية حلّت تركيا كأسوأ دولة بعد أمريكا وإسرائيل، أما في عام 2011، وفي استطلاع آخر جاءت تركيا في المركز الأول كدولة حازت على أفكار إيجابية وبنسبة 70 في المائة في أذهان دول عربية وإيران.
ستسأل الآن..
لماذا لم ينقلب الجيش على الحزب الجديد؟
ومن قال إن الجيش لم يُحاول؟
هل سمعت عن المواجهة مع دولة الجنرالات
لم تشارك تركيا في الحرب العالمية الثانية حتى عام 1945 وقتها كان الجميع يعلم أن ألمانيا واليابان هُزمتا بالفعل.. شاركت مع حلف الناتو في الحرب الكورية إلى جانب كوريا الجنوبية عام 1952.. هددت سوريا بغزو في 1957 خلال موجة تصعيد الحرب الباردة وسياسة الأحلاف.. وتدخلت في قبرص عسكرياً في 1974..
ماذا بعد؟ لا شيء تقريباً..
بالرغم من أن مصطفى كمال أتاتورك حظر نظرياً تدخل الجيش في السياسة.. إلّا أن العسكر كان لهم يدر طولى على السياسة.. كانوا يراقبون الجميع.. ويلعبون دور الوصي على الدولة..
ولم يترددوا في استخدام القوة.. فمنذ عام 1960 وقعت أربعة انقلابات لإزاحة الحكومة المدنية
اثنان منها عنيفان (١٩٦٠ - ١٩٨٠) واثنان منها أقل عنفاً (١٩٧٢ -١٩٩٧) وتمكن الجيش من فرض نفسه في جميعها.
الانقلاب الخشن الوحيد الذي هُزم أمام الرئيس عبر تاريخ تركيا الحديث كله.. كان محاولة انقلاب تموز/ يوليو 2016 على رجب طيب أردوغان..
في 2003 أجرت تركيا تعديلاً دستورياً أضعف صلاحيات مجلس الأمن القومي الذي كان منصة العسكر لانقلاباتهم منذ عام 1960 وبعد أن كان صاحب صلاحيات أمنية بات أشبه بهيئة استشارية لا أكثر.. صحيفة فاينينشال تايمز وصفت التعديلات بأنها "ثورة هادئة على نفوذ قادة الجيش".
في 2007 أصدر قادة في الجيش بياناً يحذرون فيه من "تغيير الطابع العلماني للدولة".. فكانت المواجهة.. وبدأت عمليات ملاحقة بحق قيادات عسكرية كبيرة فيما يعرف بـ بفضيحة "إرجينيكون".. في 2009 انتشرت فضيحة حول محاولة انقلابية عرفت باسم "القفص" وانطلقت محاكمات واسعة بحق بحق ضباط كبار.
انقلاب 2016 الفاشل وضع نهاية لعصر الجيش الانقلابي في السياسة التركية.. وعملت الحكومة على إعادة هيكلة المؤسسات العسكرية والأمنية بشكل كامل.. ضمن إجراءات وصفها معارضو أردوغان بـ "تصفية للمناوئين"..
بالمحصلة.. جيش تركيا.. ودّع عالم التدخل في الداخل.. وسيكون أمام موعد مع جبهات حرب في القوقاز والشرق الأوسط وإفريقيا..
المراجعة والترقب.. الربيع العربي في عقل صانع القرار التركي
إبّان اندلاع ثورات الربيع العربي كانت تركيا على علاقة طيبة جداً مع محورين رئيسيين كانا عنوان الانقسام في منطقة الشرق الأوسط..
محور الممانعة.. ومحور الاعتدال..
عندما اندلعت الثورات نشأت محاور تحت عناوين جديدة.. دُعاة الثورة.. ودعاة الثورة المضادة.. تركيا القريبة كانت تراقب من بعيد.. حتى أسقط النظام السوري طائرة حربية تركية منتصف 2012..
في نفس العام.. وافق البرلمان التركي على "تفويض بنشر قوات برية خارج أراضي الدولة". اتخذت أنقرة موقفها الداعم للثورات.. وأصبحت خلال فترة وجيزة قبلة لمعارضي الأنظمة السياسية الحاكمة في الدول العربية
لكنها لم تنخرط بعمل عسكري مباشر.. وكان إصرارها على أن تكون جزءاً من حراك دولي في أي معركة داخل سوريا..
يقول أحمد داوود أوغلو رئيس الوزراء التركي السابق عن تلك الفترة: "إن بعض القادة العسكريين رفضوا تقديم الدعم للجيش السوري الحر في 2015 رغم طلب الحكومة" ويتابع: "اكتشفنا لاحقاً أن هؤلاء سيكونون في قيادة محاولة انقلاب 2016".
مرت الأيام.. عُزلت تركيا عن محيطها.. زاد منتقدوها.. مفاوضات دخول الاتحاد الأوروبي قوبلت بطريق مسدود.. حرب التحالف الدولي على تنظيم "داعش" بقيت تركيا خارجها.. ملايين اللاجئين يتوافدون إليها.. وتفجيرات إرهابية تطال أهم وأعرق مدنها..
مثل عام 2015 سنة العُزلة.. علاقات متوترة مع أميركا.. وأوروبا.. مشاكل مع روسيا عقب إسقاط طائرتها الحربية.. هجمات إرهابية.. وفصائل كردية تصنفها تركيا إرهابية تحظى بدعم دولي لحرب داعش..
فما العمل لاستعادة الدور الإقليمي؟ ما العمل كي تقول تركيا أنا هنا؟
من الترقب واللحاق.. إلى المواجهة والانعتاق .. من 2016 - حتى 2020
كان ترقباً لقضايا الإقليم.. ثم اقتحاماً لها.. كان لحاقاً بالغرب.. ثم انعتاقاً منه.. بل ومواجهة معه..
بعد فشل المحاولة الانقلابية في تموز/ يوليو 2016 شهدت تركيا عدة تغيّرات أساسية:
1- مصالحة مع روسيا وتركيز الاهتمام نحو العلاقة بآسيا أكثر من أوروبا
2- اقتناع صانع القرار بأن الاشتباك أصبح ضرورة للخروج من العزلة..
3- إعادة الهيكلة الكاملة للجيش التركي.. وتحويله لجيش احترافي.. ووضع تعريف نهائي لعلاقته بالسلطة والمجتمع بوصفه مدافعاً عن الأمن القومي للبلاد وتابعاً للسلطة المدنية المنتخبة.. وليس وصياً عليها..
4- تغير النظام السياسي من البرلماني إلى الرئاسي، ليتمتع الرئيس بصلاحيات كبيرة لم يسبق لأي زعيم تركي أن حاز عليها منذ تأسيس الجمهورية في 1923
5- تبني مبدأ استخدام القوة العسكرية في خدمة السياسة الخارجية..
قوة عسكرية.. وهل تمتلك تركيا القوة الصلبة حقاً؟
نعم.. لكن لتعرف ما هي.. وكيف تكونت؟
لقد تحدثنا عن الخلافات مع أميركا بسببب تضارب المواقف من المسألة القبرصية وبشكل خاص في 1965.. لاحظ أن هذا التاريخ كان بداية عمليات التطوير العسكري في تركيا..
وتحدثناً عن الحظر الأميركي للسلاح عن أنقرة في 1975.. هذا الحدث وفّر ولادة توجه الاعتماد على الصناعات الدفاعية المحلية..
في 1985 أتت الجهود أكلها بتصنيع 18٪ من الاحتياج الدفاعي المحلي زمن الرئيس الإصلاحي تورغوت أوزال، وبدأت تركيا برنامج تطوير عسكري ضخم انطلق عام 1998
وفي غضون 20 عاماً.. امتلكت البلاد قرابة 1500 شركة صناعة عسكرية.. تصنّع دبابتها "ألتاي".. وغواصتها المحلية.. وطائرتها العمودية.. ومنظومتها الخاصة بالدفاع الجوي (حصار).. وحاملة طائراتها المحلية.. وغيرها الكثير..
لكن الأبرز هو أسطولها الذي ذاع صيته من المسيرات المقاتلة.. وللعلم تركيا واحدة من 6 دول في العالم تنتج هذا النوع من الدرونز.. وبحسب تقرير لمعهد معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام صدر في 2020 تتربع تركيا في المرتبة 13 عالمياً في مجال تصدير الأسلحة
ما النتيجة من كل ذلك؟ إذا كان لديك قوة عسكرية ضخمة.. ولديك مشروع استراتيجي للعب دور إقليمي ودولي.. ولديك النظام السياسي القوي الذي لا يُخترق من الداخل.. وترى أن منظمات تعتبرها إرهابية تكبر ويتم دعمها من حلفائك الغربيين خارج حدودك وداخلها.
وإذا كانت ثروات هائلة في البحر المتوسط تُتكشف بينما تقول جارتك اليونان أن حدودك البحرية عبارة عن خط ساحلي صغير في وقت تمتلك فيه أطول خط ساحلي بين الجميع.. وإذا كنت تعيش في بيئة إقليمية تراها معادية لك بشكل كبير..
وإذا كنت في بيئة دولية يكثر فيها الفراغ الأميركي.. وتنطلق الصين وروسيا لتعبئة جزء كبير منه.. وإذا كنت تشعر بفائض قوة.. وإذا كان جيشك لم يُحارب منذ عقود.. وإذا كنت أنت تركيا… فهذا ما ستفعله..
الجيش إلى الجبهات.. تركيا وفائض القوة
عرفت تركيا مكامن قوتها الذاتية.. عسكرياً وسياسياً وجغرافياً.. ووجدت أن الانقلاب العسكري الفاشل عبارة عن مؤامرة خارجية واستخفاف بجدية صانع القرار. تلك كانت بمثابة صافرة البداية لإعلان المواجهة واستعراض القوة.. وبدأ الأمر بـ تأمين الطوق البري عبر التدخل العسكري في سوريا 4 مرات..
الأولى في منتصف عام 2016 - بعد انقلاب تموز/ يوليو بشهر تقريباً.. وحملت اسم درع الفرات، شنت تركيا عملية عسكرية في شمال سوريا وتحديداً في منطقة جرابلس ضد تنظيم داعش وضد قوات سوريا الديمقراطية التي تصنفها منظمة إرهابية.
الثانية في 2018.. وحملت اسم عملية غصن الزيتون ضد قوات سوريا الديمقراطية.. الثالثة: في 2019.. وحملت اسم عملية نبع السلام، ووقعت في شمال، وشمال شرق سوريا..
الرابعة في 2020.. وحملت اسم عملية درع الربيع وكانت الأشهر والأعنف، ودخل فيها الجيش التركي لأول مرة في مواجهة مع جيش النظام السوري المدعوم من روسيا وإيران ضمن مناطق "وقف التصعيد" شمال غرب سوريا..
عبر تلك المعارك.. فرضت تركيا نفسها في معادلة سوريا.. متجاهلة انتقادات الغرب.. ومتقربة من روسيا وإيران.. ليتشكل ما يُعرف بـ "ثلاثي فض الاشتباك"
وفي العراق ازداد الحضور العسكري التركي في مواجهة حزب العمال الكردستاني.. وحشد القوات لتأمين الطوق البحري باستعراض عسكري في 2019 حمل عنوان: "الوطن الأزرق" وهو الأكبر في تاريخ الجمهورية..
أرادت تركيا إجراء المناورات في بحارها الثلاث (الأسود والمتوسط وإيجة) لتؤكد على رسالتين: أنها قادرة على دخول الاشتباك في وقت واحد وبكل مكان.. وأنها مستعدة للقتال دفاعاً عمّا تراه حقوقها في الثروات المائية.
كما انطلقت أنقرة لـ إثبات القوة في المراكز الحساسة.. في الخليج العربي عندما أرست مع قطر اتفاقية لإنشاء قاعدة عسكرية تركية في 2017..
وفي شمال إفريقيا أواخر 2019 عندما وقعت مع حكومة الوفاق الليبية اتفاقية أمنية، وشاركت عسكرياً في فك حصار الجنرال خليفة حفتر عن طرابلس، وباتت سماء ليبيا تحت سيطرة حلفاء أنقرة بفضل المسيرات الحديثة..
وفي جنوب القوقاز في أواخر سبتمبر/ أيلول 2020 وتحديداً عندما بدأت الحرب بين أذربيجان وأرمينيا.. وقتها خرج كبير مستشاري أردوغان، إلنور تشيفيك ليؤكد أن بلاده قالت لأذربيجان: "اذهبوا إلى أبعد ما تريدون".
وقد ذهب الأذريون بعيداً.. وألقت تركيا بثقلها العسكري والدبلوماسي خلف حليفتها.. وفي غضون 6 أسابيع انتهت الحرب بانتصار أذري.. وتوقيع سلام برعاية روسية..
وفي القرن الإفريقي عبر حضورها العسكري في الصومال.. نعم كان إعلاناً للمواجهة.. ولبدء طور جديد في العلاقة مع الغرب..
تركيا أكثر قومية.. من اللحاق إلى الانعتاق
تغيرت موازين القوى والتحالفات السياسية في داخل تركيا.
وبحسب صحيفة لوموند الفرنسية: "تحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب العمل القومي التركي، وأصبح للضباط الأوراسيين كلمة مسموعة في سياسة تركيا الخارجية.. هؤلاء يؤيدون التقارب مع روسيا.. والتحرر من "مقود" الغرب.."
منذ تأسيس الجمهورية وحتى عام 2015 - 2016 كان نهج الدولة التركية واحداً تجاه الغرب -على اختلاف الحكومات- وهو: التقرّب.. لكن بعد تموز/ يوليو 2016 تغير كلّ شيء.. لقد أصبحت تركيا أكثر قومية.. وأكثر أوراسية.
حصل التقارب بين روسيا وتركيا إلى حد ترتيب أوراق الأزمات.. كما حدث في سوريا.. وقره باغ في جنوب القوقاز..
وأعلن الرئيس التركي في أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠٢٠ أن : ""الاتحاد الأوروبي بخضوعه لليونان وقبرص تحول إلى كيان ضحل وغير فعال وبلا أفق".
وفرنسا تؤكد على لسان رئيسها الأسبق نيكولاي ساركوزي في مارس/ آذار 2016: "إن تركيا أقل أوروبية من روسيا ولا مكان لها في الاتحاد الأوروبي".
لكن تركيا في كل مكان يُؤثر بأوروبا.. امتلكت مفتاح "صنبور" اللاجئين الذي يؤرق القارة… في عام 2015 بلغ الأمر ذروته.. مئات الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين عبروا من تركيا.
اشتعلت أزمات داخلية في العديد من البلدان الأوروبية.. وارتفعت أسهم اليمين المتطرف.. صعّدت تركيا رسمياً في بدايات 2020 معلنة فتح الحدود.. ووفرت الحكومة حافلات لنقل الراغبين بالعبور نحو اليونان..
على صعيد الرسائل الرمزية.. تُعلن المحكمة الدستورية العلياً في تركيا تحويل آيا صوفيا من صفة المتحف إلى صفة المسجد في أواخر 2020.. ما أثار غضب عواصم غربية أبرزها باريس..
لعلمك.. كانت آيا صوفيا كنيسة.. وتُعرف بأنها درة تاج أوروبا قديماً.. حوّلها العثمانيون إلى مسجد.. وتحوّلت زمن أتاتورك إلى متحف بمباركة يونانية..
تدخلت تركيا عسكرياً في ليبيا ضد المصالح الفرنسية في 2019.. وتحدّت الاتحاد الأوروبي وأميركا بإرسال سفن التنقيب عن الغاز في مناطق متنازع عليها.. ووصل التصعيد في المتوسط حد الاقتراب من الاشتباك.. مرة مع اليونان ومرة مع فرنسا..
تحدت تركيا الولايات المتحدة وعقوباتها.. وتجاهلت انتقادات حلف الناتو عندما اشترت نظام الدفاع الصاروخي أس-400 من روسيا.. بل وقامت بترسيم الحدود البحرية مع ليبيا على عكس ما تريده أثينا.. رداً على ما وصفته بمحاولة "عزلها" إقليمياً.. في إشارة منتدى غاز شرق المتوسط الذي تقوده إسرائيل ومصر واليونان.
تحركات تركيا تلك.. وصفتها صحيفة DW الألمانية بـ "سياسة حافة الهاوية"، ووصفها أحمد داوود أوغلو رئيس الوزراء التركي السابق بـ "مجازفة، تعطي للقوة أولوية على الدبلوماسية".
لكن "الاتحاد الأوروبي أسد بلا أسنان عندما يتعلق الأمر بتركيا، وفهم أردوغان هذا منذ وقت طويل".بحسب بلومبيرغ.
كان عام ٢٠٢٠ كارثياً على العالم بفعل جائحة كورونا.. وتسبب في انشغال الدول بأزماتها الداخلية.. ومعالجة التبعات الاقتصادية للوباء لكن تركيا واصلت اقتحام المشاكل..
مع نهاية 2020 تراجعت قيمة الليرة بشكل كبير.. تأكد رحيل ترامب ومجيء بايدن.. وانطلقت تركيا بعملية إصلاح نقدية كبيرة أعادت لليرة جزءاً مما خسرته..
وانطلقت أيضاً بتوجه خارجي جديد.. تحت عنوان عريض.. لا شرقية ولا غربية.. تركيا، من المواجهة إلى التنسيق..
"هي تركيا التي لن تدير ظهرها للشرق أو الغرب"، هكذا اختصر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سياسة بلاده تجاه العالم بدءاً من 2021.
لقد انخرطت تركيا في 4 سنوات من المعارك.. ثبتت أقدامها في القرن الإفريقي والخليج العربي وشمال إفريقيا وجنوب القوقاز وبالطبع.. سوريا.. ارتبطت بدول آسيا أكثر.. واقتحمت إفريقيا عبر قوتها الناعمة.. وحان الوقت لاستعمال الفرامل.. إن صح التعبير..
شهد شهرا ديسمبر/ كانون الأول ٢٠٢٠ ويناير/ كانون الثاني ٢٠٢١ سلسلة تصريحات توحي بالتوجه الجديد.. الرئيس التركي ألمح إلى إمكانية بناء علاقات أفضل مع إسرائيل إذا ما غيّرت نهجها تجاه فلسطين..
أعلنت تركيا دخولها مع اليونان في محادثات استكشافية حول الثروات في المناطق المتنازع عليها.. وأكدت الخارجية التركية بدء مسار لتطبيع العلاقات مع فرنسا.
وتم الإعلان رسمياً عن سعي تركيا لـ "حقبة جديدة مبشرة في العلاقة مع أوروبا".. وأعاد الرئيس التركي التأكيد على أن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي من الأولويات السياسية لبلاده..
بخصوص العلاقة مع أميركا.. خرج وزير الدفاع التركي خلوصي أكار داعياً للحوار بشأن أزمة شراء منظومة s400 الروسية للدفاع الجوي. وأخبار الشرق الأوسط توحي باحتمالية تقارب تركي - سعودي.. برعاية قطرية..
وفي حال تقارب تركيا مع الدول الخليجية فهذا يعني تقارباً في كثير من مناطق الخلاف وخصوصاً في ليبيا..
أما تطبيع العلاقات مع مصر فليس مستبعداً مع تلميح وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو بقوله: إن الأمور "ستكون على ما يرام مع الوقت".
إذن تريد تركيا التهدئة.. فهل هذا يعني استسلاماً؟
هذا يعني.. أن تركيا بدأت طور القوة الرادعة.. الأكيد.. أنها ستتمسك بمكتسباتها في كل مكان حلّت به.. فأردوغان يرى أن "تركيا باتت في موضع تحدد من خلاله التوازنات الإقليمية والدولية"، والأكيد أيضاً أن تركيا ستقلل المشاكل لأبعد حد ممكن.. وتعلن بكل وضوح أن الدبلوماسية ستكون شعار المرحلة المقبلة..
لكنها تؤكد بدء عصر ما وصفه أردوغان بـ "القوة الرادعة" لضمان الأمن القومي.. والردع مصطلح نسمعه عن الحديث عن الأسلحة النووية.. لأنها أسلحة لا تُستخدم عادة.. لكن يجب على الجميع أن يعرف أنها موجودة..
وأن تكون رادعاً، كأنك تقول: اخشوني.. فقوتك حتى لو لم تستخدمها، ستتخيف أي عدو محتمل..
تقع تركيا هنا.. في الطريق بين أوروبا وآسيا.. أهمية جيوسياسية نادرة لدولة تصل بين الشرق والغرب.
وقام أردوغان وبدون شك ببناء تركيا كقوة إقليمية وبنفوذ دولي لم تشهده منذ إنشائها كدولة علمانية تنظر للغرب على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1923.
جاء الأتراك من آسيا.. تحديداً من وسطها.. طموحهم إلى الغرب قديم.. ويتجدد .. سيطروا على درة أوروبا.. اسطنبول عام 1953 ميلادية .. التاريخ الذي يصنّفه البعض على أنه بداية للتأريخ الحديث.. وتصنع تركيا تاريخها.. ضمن أطوار قوة ثلاث.. آخرها، ستروي تفاصيله أحداث المستقبل..
المصدر: ميدان الجزيرة
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!