ترك برس
استعرض تقرير لشبكة الجزيرة القطرية "القصة المدهشة" لصناعة الطائرات المسيرة في تركيا، وكيف أصبحت أنقرة قوة كبرى في عالم الدرونز الذي يقتصر عسكريًا واستخباراتيًا على نخبة من دول العالم.
كما سلط التقرير، وهو من إعداد موقع ميدان الشبابي التابع للجزيرة، الضوء على "مستقبل المشروع وأهداف الأتراك بعيدة المدى منه، وما قد تصل إليه تكنولوجيا الجيل القادم من طائراتهم المتقدمة".
أكّد التقرير أنه ليس هناك أي مبالغة في تصنيف تركيا حاليًا بوصفها قوة كبرى في عالم الطائرات بدون طيار "الدرونز"، إلى درجة أن بعض الخبراء يعدونها القوة الثالثة بعد الولايات المتحدة وإسرائيل على مستوى حرفية تشغيل الدرونز في العمليات العسكرية.
وقد جلبت هذه السمعة إشادات مرموقة من قوى عظمى على رأسها بريطانيا التي أطلقت برنامجا خاصا لصناعة المسيرات يستلهم التجربة التركية، فضلا عن العديد من الدول التي باتت تتسابق لشراء المسيرات التركية مثل أوكرانيا، ومؤخرا المملكة العربية السعودية، بعدما أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمس أن بلاده تلقت طلبا من الرياض للحصول على الطائرات المسيرة.
وجاء في التقرير:
في 15 أغسطس 2018، كان إسماعيل أوزدن، القيادي التركي البارز في حزب العمال الكردستاني والمسؤول عن عمليات الحزب في سنجار شمال العراق، يحضر مراسم تذكارية بالقرب من قرية كوتشو، 15 كيلومترا جنوب سنجار، وبينما كان "أوزن" يغادر الحفل التذكاري، نجحت المخابرات التركية في رصد موقعه من خلال مراقبة هواتف مساعديه التي تعمل عبر الأقمار الصناعية وتمكنت في النهاية من تحديد موقعه بدقة داخل شاحنة بيضاء ضمن قافلة لحزب العمال الكردستاني تسير فوق أحد الطرق السريعة في المنطقة.
ومع كون أوزدن، أو زكي شنكالي كما يحب أنصاره أن يلقبوه، أحد أبرز المطلوبين على القوائم الحمراء للسلطات التركية، لم يكن ما حدث بعد تحديد موقعه مفاجئا، حيث تولت طائرة بدون طيار تركية الصنع من طراز "بيرقدار تي بي 2" مهمة مراقبة قافلة "أوزدن" وتتبعها قبل أن تطلق قنبلة موجهة بالليزر على شاحنته الصغيرة، وظلت الطائرة التركية تراقب زملاء القيادي الكردستاني وهم ينقلونه إلى سيارة أخرى حمراء، وبينما كانت السيارة الثانية تشق طريقها نحو قاعدة محصنة لحزب العمال الكردستاني، أطلقت الطائرة ضربتها التالية وقتلت على الفور أوزدن وعشرة أشخاص آخرين برفقته.
على مدار الأيام التالية، احتل شريط الفيديو غير العادي الذي أصدرته السلطات التركية للعملية عناوين الأخبار في البلاد مع إشادة واضحة بالعملية، وفخر لا يمكن تجاهله بالتقدم الذي أحرزته تركيا في مجال الطائرات بدون طيار، وهو ما وفر فرصة لا تقدر بثمن للأتراك لممارسة طقوس الفخر الوطني الملحمية بنكهة لم تخل من حداثية، إثر انتشار عدد من ألعاب الفيديو المرتبطة بالدرونز التركية لاحقت رواجا واسعا بين الشباب، منها لعبة يقوم فيها المشارك بمحاكاة طلعات جوية بالطائرات بدون طيار على مدينة عفرين الكردية، بخلاف لعبة أخرى أطلقتها الشركة التركية لصناعات الفضاء باسم "العملية أنكا"، نسبة إلى الطائرة المسيرة التي تنتجها الشركة بالاسم ذاته، وخلالها يقوم اللاعب بممارسة سيناريوهات مختلفة للحرب على "الإرهاب"، وتنظيم مهام الطائرات بدون طيار سواء لأغراض الاستطلاع أو تقديم الدعم للقوات البرية.
تتجاوز الدرونز الجديدة في تركيا إذن حد كونها مجرد سلاح عسكري أو حتى قضية سياسية لتتحول إلى موضوع لحماس الشعبي الوطني بالأساس، وهو توجه يبدو أن الحكومة التركية قررت تبنيه منذ منتصف العقد الماضي، وتحديدا منذ اللحظة التي قرر فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن يجعل تطوير صناعة الدفاع الوطنية أحد أولوياته الرئيسية ويسن إصلاحات دستورية لهذا الغرض تم إقرارها خلال الاستفتاء على الدستور التركي في شهر إبريل/ نيسان 2016، وتم بموجبها منح سلطة الإشراف على صناعة الدفاع والمشتريات الدفاعية للرئاسة، ليكتمل بذلك الإطار القانوني لمشروع "أردوغان" لإنتاج الأسلحة محلية الصنع.
غير أن طموحات تركيا لإنتاج الأسلحة محليا تسبق هذه اللحظة بكثير، فمنذ سبعينيات القرن الماضي، كان لدى المسؤولين الأتراك شكوك كبيرة حول الآثار السلبية للاعتماد على الأسلحة الأمريكية والغربية، وهو شعور تعزز بشكل واضح خلال الأعوام الأخيرة بعد أن رفضت هذه الدول العديد من الطلبات التركية للحصول على أسلحة متطورة، كما حدث في عام 2014 حين رفض الكونغرس الأمريكي نقل فرقاطتين من طراز "أوليفر هازارد بيري" إلى تركيا بسبب موقف أنقرة العدائي تجاه إسرائيل، والأهم من ذلك الحظر طويل الأمد الذي فرضته الولايات المتحدة على تصدير الطائرات بدون طيار للعديد من الدول وفي مقدمتها تركيا.
فحتى منتصف العقد الماضي تقريبا (عام 2015)، كانت الدرونز الأمريكية تمتلك هيمنة مطلقة على سماوات العالم، هيمنة بدأت منذ اللحظة التي أطلقت فيها واشنطن أول هجوم مسجل بالدرونز المسلحة في أفغانستان عام 2001، لكن ذلك تغير خلال الأعوام الخمس الأخيرة مع تحقيق العديد من القوى الأخرى اختراقات في مجال تصنيع الدرونز وفي مقدمتها الصين وتركيا التي تعد اليوم أحد أبرز القوى العالمية في هذا المجال.
هناك العديد من الأسباب التي ربما تكون قد دفعت أنقرة لوضع تصنيع الدرونز في قلب خطتها الطموحة لإنتاج الأسلحة محليا، فمن ناحية، تعد الدرونز سلاحا فعالا على المستوى الاستراتيجي والتشغيلي، بخلاف كونه غير مكلف بالمقارنة مع الأسلحة التقليدية وفي مقدمتها الطائرات النفاثة، ومن ناحية أخرى، ومع كون تصنيع الدرونز يعد امتيازا حصريا لعدد قليل من الدول يمكن حصرها على أصابع اليد الواحدة، فإن النجاح في اختراق هذا المجال وفر لأنقرة السمعة العالمية التي تحتاجها كعضو جديد في نادي الدول المصنعة والمصدرة للأسلحة، وفي هذا السياق، ورغم أن صادرات تركيا من الأسلحة لا تزال تتراوح حول نسبة 1% من حجم صادرات الأسلحة العالمية، يبدو أن تركيا مصممة على زيادة حصتها في هذا المجال مدفوعة بطموحات واسعة لتأسيس صناعة دفاع محلية راسخة، ويبدو أن الدرونز بمختلف أنواعها سوف تواصل لعب دور رأس الحربة في هذه الجهود.
منذ عام 1975، كان لتركيا علاقة غير مريحة مع الولايات المتحدة إثر قيام الأخيرة بفرض عقوبات على تصدير الأسلحة إلى أنقرة بعد غزوها لقبرص ردا على الانقلاب العسكري المدعوم من اليونان في الجزيرة، وكان لهذا التوتر مع الولايات المتحدة تأثير طويل الأمد على سلوك تركيا التي أصبحت أقل ثقة في الدعم العسكري الأمريكي، ونتيجة لذلك، وعلى مدار العقد التالي، قامت البلاد بتأسيس عدد من الشركات المحلية للصناعات الدفاعية ركز معظمها على إنتاج الذخائر والأسلحة الصغيرة، في حين عمل بعضها – مثل الشركة التركية لصناعات الفضاء (TAI) – على مشروعات أكبر مثل إنتاج الصواريخ الموجهة والطائرات.
ورغم ذلك، وبفعل القيود المشددة التي فرضتها واشنطن على تصدير تكنولوجيا الطائرات بدون طيار على وجه الخصوص، فإن أنقرة دخلت عصر الدرونز للمرة الأولى من ذات الباب التقليدي حين قامت في عام 1996 بشراء 6 طائرات بدون طيار من طراز (GNAT 750 s) التي تنتجها شركة جنرال أوتوميكس الأمريكية، وهي طائرات محدودة الإمكانات تستخدم لأغراض الاستطلاع وجمع المعلومات وظفتها أنقرة لجمع المعلومات عن مقاتلي حزب العمال الكردستاني في محافظات جنوب شرق تركيا، حيث كان المتمردون يستغلون الممرات الجبلية الوعرة للتهرب من قوات الأمن التركية، ورغم ذلك، كانت استفادة تركيا من المعلومات التي تقدمها الطائرات الأمريكية محدودة جدا بسبب الزمن الذي يستغرقه نقل البيانات من الطائرة إلى مراكز العمليات وتقييم هذه المعلومات قبل اتخاذ قرار بتوجيه ضربة جوية باستخدام الطائرات المقاتلة.
لاحقا في عام 2006، طلبت تركيا الحصول على طائرات بدون طيار مسلحة من طراز "هيرون" من إسرائيل التي كانت تستخدم الطائرات العسكرية بدون طيار منذ السبعينيات، لكن الأمر استغرق خمس سنوات كي تقوم إسرائيل بتقديم الطائرات إلى تركيا، قبل أن تتهم أنقرة الإسرائيليين بتخريب محركات الطائرة وأنظمة التصوير عن بعد وتعيدها من أجل عملية إصلاح استغرقت هي الأخرى بضع سنوات، وحتى بعد أن استعادة تركيا الطائرات – التي كان يتم تشغيلها بالاستعانة بفنيين إسرائيليين – ظل المسؤولون الأتراك متشككين في أن اللقطات التي يتم جمعها من هذه الطائرات تجد طريقها سرا إلى الأيدي المخابرات الإسرائيلية، وهي شكوك تفاقمت بشكل خاص بعد القطيعة الدبلوماسية بين أنقرة وتل أبيب في أعقاب أحداث السفينة "مرمرة" عام 2010 حين قامت إسرائيل بقتل تسعة مواطنين أتراك على متن السفينة التي كانت تحاول كسر الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة.
ومع إدراك أنقرة لهذه الحقائق، فإنها بذلت جهودا مبكرة لتدشين برنامج محلي لصناعة الطائرات بدون طيار، وتشير التقديرات أن أنقرة بدأت في العمل على تصميم هيكل الطائرات والبرمجيات والأنظمة الاتصالات منذ أوائل التسعينيات، لكن البداية الفعلية لهذا المسار حدثت في عام 2004 حين طرح الجيش التركي مناقصة حكومية لتصميم وتطوير طائرة بدون طيار متوسطة الارتفاع عالية التحمل (MALE) فازت بها الشركة التركية لصناعات الفضاء (تاي) التي أطلقت في ذلك الحين طائرة بدون طيار باسم "أنكا"، يقال إنها كانت قادرة على الطيران على ارتفاع يصل إلى 30 ألف قدم لمدة تصل إلى 24 ساعة، لكن أول رحلة لـ"أنكا" في عام 2010 لم تسر بشكل جيد على ما يبدو حيث تحطمت الطائرة بعد مرور عشر دقائق من إقلاعها، وبخلاف ذلك كانت الطائرة تعتمد على موجات الراديو في نظام الاتصال الخاص بها، وهو ما يقلل من مدى الاتصال ويحد من معدل نقل البيانات، ما يقلص من فائدة الطائرة بشكل عام.
بالتزامن مع ذلك، واجهت تركيا مشكلات لا تقل تعقيدا في استيراد المحركات والقطع التقنية اللازمة لصناعة طائراتها الخاصة بعد توقف شركة "Thielert" الألمانية التي كانت تورد المحركات إلى أنقرة عن العمل وإيقاف شركة المشتريات الصينية "AVIC International" هي الأخرى تصدير المحركات العسكرية، وهو مع ما دفع لأنقرة لإطلاق برنامج لتصنيع محرك محلي، لكن هذه المشكلات لم توقف جهود تطوير "أنكا" بشكل كامل، حيث نجحت الطائرة التركية في القيام بأول رحلة ناجحة لها قبل نهاية عام 2011، وبحلول عام 2013 كانت طائرات "أنكا" قد تم قبولها للعمل من قبل القوات الجوية التركية.
ورغم ذلك كله، كانت المشكلة الرئيسية بالنسبة إلى تركيا هي أن طائرات "أنكا" مثلها مثل "هيرون" لم تكن مسلحة، ما يعني أن الحلقة الناقصة في سلسلة التشغيل بين جمع المعلومات وتنفيذ العمليات كانت لا تزال مفقودة، وبدا ذلك الخلل واضحا في عام 2011 على سبيل المثال، حين قام مئات من مقاتلي حزب العمال الكردستاني بشن هجمات متزامنة على قواعد تركية في مقاطعة هكاري في الجنوب الشرقي في هجوم وصف أنه الأبرز للحزب منذ عقود، وفي حين أن طائرات "هيرون" كان قادرة على نقل لقطات للهجمات من أعلى، فإنها لم تكن تملك أي أنظمة أسلحة مدمجة للتدخل في المشهد، ووجدت تركيا نفسها في النهاية مضطرة للرد بشكل تقليدي عبر إرسال آلاف الجنود لشن عمليات برية عبر الحدود في العراق.
في ذلك التوقيت، كان تركيا تحصل أيضا على بعض اللقطات والإشارات الاستخباراتية من طائرات "بريداتور" الأمريكية، لكن واشنطن أصرت على رفض بيع الطائرات المسلحة بدون طيار إلى تركيا بسبب المخاوف من موقف أنقرة العدائي تجاه إسرائيل، لذا بحلول عام 2015، اتخذت تركيا قرارا نهائيا بوقف الاعتماد على الحليف الأمريكي غير الموثوق وخوض سباق تسلح خاص بها ضد واشنطن ودول الناتو، وكان تطوير طائرة بدون طيار مسلحة هو الأولوية القصوى لتركيا في هذا السباق، وهو ما مهد الطريق لظهور الجيل الثاني من الدرونز التركية.
في الواقع، فإن رحلة الجيل الثاني من الدرونز التركية بدأت بالتوازي مع الجيل الأول تقريبا ولكن مع دعم حكومي أقل، ففي عام 2005، نجح شاب تركي يبلغ من العمر 26 عاما كان قد درس الهندسة الكهربائية في تركيا وحصل على درجة الماجستير من جامعة بنسلفانيا الأمريكية قبل أن يتقدم لدراسة الدكتوراه في جامعة ماساشوستس للتكنولوجيا، نجح في إقناع مجموعة من المسؤولين الأتراك بحضور عرض صغيرة لطائرة بدون طيار محلية الصنع كان يعمل عليها بنفسه، ومن أجل إقناع المسؤولين بتبني مشروعه، فقد أخبرهم الشاب "سلجوق بيرقدار" أن زملاءه في معهد ماساشوستس يعملون على نماذج مماثلة لمشاريع عسكرية أمريكية.
وكما يظهر مقطع الفيديو الذي تم تداوله بكثافة في الأعوام الأخيرة، فقد شاهد المسؤولون الأتراك بأعينهم – لأول مرة ربما – طائرة بيرقدار الصغيرة وهي تقلع من تلقاء نفسها وتشهر أسلحتها الصورية قبل أن تنحدر بلطف في طريق الهبوط وتستقر مجددا في أيدي بيرقدار، ورغم ذلك يبدو أن المسؤولين الأتراك لم يقتنعوا كثيرا بالعرض الذي قدمه "سلجوق" الشاب، الذي كان حتى ذلك التوقيت غير معروف لدى دوائر السلطة في أنقرة رغم كونه ينحدر من عائلة لها نشاط كبير في مجال صناعة السيارات في تركيا.
في وقت لاحق، قدم سلجوق بحثا علميا خاصة في معهد ماساتشوستس حوى خوارزمية لهبوط طائرة بدون طيار في تضاريس وعرة للغاية وحتى بشكل رأسي على الحائط، لكن الشاب التركي قرر بحلول عام 2007 قطع دراسته في المعهد الأمريكي المرموق، والعودة إلى تركيا للمشاركة في إدارة شركة العائلة، "بيرقدار ماكينا"، وهي شركة متخصصة في مكونات السيارات تم إنشاؤها في عام 1984 كجزء من جهود تركيا لتصنيع السيارات محليا، بعد أن نجحت الشركة في الفوز بمناقصة طرحها الجيش التركي لتصنيع نموذج لطائرة صغيرة بدون طيار، أمرت أنقرة في النهاية بتصنيع 19 وحدة منها ونشرها في محافظات جنوب شرق البلاد.
بفضل عمله الجديد مع الجيش، وجد بيرقدار الفرصة أخيرا لاختبار نظرياته ونماذجه الجديدة ميدانيا ونجح في إقناع الجنرالات بالتواجد معهم في الميدان من أجل تدوين ملحوظات مفصلة حول نوعية التقنيات المطلوبة لطائراته، وبحلول عام 2015 نجح المهندس الشاب أخيرا في إجراء عرض ناجح للطائرات بدون طيار الأكثر تطورا من طراز "بيرقدار تي بي 2″، التي جذبت انتباه الجيش التركي بشدة بعد أن نجحت خلال تجارب الأداء في إصابة هدف على بعد 8 كيلومترات باستخدام صاروخ موجه تركي الصنع، أثناء تحليقها على ارتفاع يبلغ 4 كيلومترات، وفي العام نفسه اكتسب بيرقدار خطوة شخصية كبيرة لدى الرئيس التركي بعدما تزوج من ابنته الصغرى سمية أردوغان.
خلال فترة قصيرة، أصبحت طائرات بيرقدار الجديدة العمود الفقري لقوات تركيا الجوية، بفضل قدراتها التقنية المرتفعة نسبيا، حيث تستطيع طائرات بيرقدار اليوم التحليق على ارتفاع يصل إلى 24 ألف قدم (حوالي 7.3 كيلومتر) لمدة تصل إلى 24 ساعة وتتمتع بمدى متوسط يقدر بـ15 كيلومتر، مع قدرة على حمل حمولة يبلغ وزنها 55 كيلوغرام، ومع هذا التطور الملحوظ في قدرات الدرونز المحلية، قررت أنقرة الاعتماد عليها كسلاح رئيسي في قتالها ضد المنظمات الكردية في جنوب شرق البلاد وعلى حدودها مع العراق، وبحلول يونيو/ حزيران 2019 كانت طائرات بيرقدار التركية قد حققت رقما قياسيا بواقع 100 ألف ساعة طيران خلال أقل من أربعة سنوات، ووفقا لتقارير وسائل الإعلام التركية، فإن الدرونز شاركت في غارات جوية ضد المنظمات الكردية في 11 محافظة على الأقل في جنوب شرق تركيا، كما تم استخدامها في خمس عمليات عبر الحدود في سوريا والعراق، آخرها عملية نبع السلام في أكتوبر/ تشرين الأول 2019.
ومع النجاح الكبير الذي أثبتته الطائرة خاصة في العمليات التركية ضد الأكراد، قررت تركيا توسيع نطاق استخدامها الدرونز على طول سواحل بحر إيجه والمتوسط وهو ما تسبب في احتكاكات متتالية بين تركيا من ناحية وبين قبرص واليونان من ناحية أخرى، حيث اشتكت الأخيرة من أن الطائرات التركية بدون طيار حلقت مرارا وتكرارا فوق الجزر اليونانية في بحر إيجه، في حين أبدت نيقوسيا في أكثر من مناسبة تذمرها من تحليق الدرونز التركية فوق سفن التنقيب عن الغاز التي أرسلتها تركيا لاستكشاف المياه المتنازع عليها بين قبرص واليونان، وبخلاف ذلك قدمت تركيا خلال عام 2019 ما لا يقل عن 12 طائرة من طراز بيرقدار إلى حكومة الوفاق الوطني الليبي لمساعدتها في صد الهجوم الذي شنه الجنرال خليفة حفتر على طرابلس، في الوقت الذي دشنت فيه أنقرة جهودا حثيثة لترويج طائراتها بدون طيار إلى الدول المهتمة وفي مقدمتها قطر وماليزيا وأذربيجان، قبل أن تنجح بالفعل في توقيع عقد لتصدير 12 طائرة بدون طيار متطورة إلى أوكرانيا.
بفضل هذه النجاحات، اكتسبت الدرونز ثقة ومكانة كبيرة داخل الجيش، وتحولت إلى أيقونة ثقافية خارجه إلى درجة أن الرئيس أردوغان حرص بنفسه على التقاط الصور مع الطائرات بدون طيار ووضع توقيعه على بعضها، وعلى نفس الخطا سار حكام المحافظات التركية – خاصة في الجنوب الشرقي الذي يشهد تمردا من حزب العمال – الذين أصبحوا ضيوفا منتظمين على حظائر الطائرات بدون طيار لتقديم المديح وممارسة طقوس الثناء للأيقونات الجديدة للعسكرية التركية.
ونتيجة لهذا الاهتمام الرسمي والشعبي، تلقى برنامج الطائرات بدون طيار في تركيا دفعة كبيرة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، حيث تضاعف أسطول البلاد من طائرات بيرقدار من 32 طائرة عام 2017 إلى قرابة 94 طائرة قبل نهاية عام 2019 نصفها على الأقل طائرات مسلحة، وفي الوقت نفسه نما حجم أسطول طائرات "أنكا" إلى 30 طائرة على الأقل، لتتحول الدرونز إلى ركيزة أساسية لست منظمات أمنية وعسكرية على الأقل في البلاد وهي الجيش والقوات الجوية والبحرية والدرك (الشرطة العسكرية) وجهاز الاستخبارات والمديرية العام للأمن (الشرطة المدنية)، وهو ما دفع أنقرة لإنشاء شبكة خاصة من المواقع المهيأة لاستقبال الطائرات بدون طيار في جنوب شرق البلاد، وعلى طول حدودها مع سوريا وعلى سواحلها على بحر إيجة والبحر المتوسط وزودت هذه المواقع بالتجهيزات اللازمة بداية من حظائر استقبال الطائرات إلى أبراج الطيران، واليوم، يقدر إجمالي عدد قواعد الطائرات بدون طيار في تركيا بتسعة قواعد على الأقل، وتعد هذه المرافق ضرورية للغاية لتشغيل أٍطول الدرونز التركي بالنظر إلى أن مدى معظم الطائرات المسيرة التركية لا يتجاوز مائة ميل في الوقت الراهن، ومعظمها يعتمد على أنظمة الاتصالات التقليدية وليس على الأقمار الصناعية.
بيد أن طفرة الدرونز التركية لم تقتصر على الزيادة في أعداد الطائرات وقواعد الدرونز فحسب، لكن مطوري الدرونز الأتراك نجحوا في تحقيق قفزات تقنية ملحوظة خلال الأشهر الأخيرة، ففي أغسطس/ آب 2018 نفذت طائرات "أنكا" أول غارة جوية يتم التحكم فيها عبر الأقمار الصناعية، وفي ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه أكملت "أنكا" أول رحلة بمحرك من إنتاج محلي، وفي عام 2019 كسرت كل من "بيرقدار" و"أنكا" سجلات التحمل الخاصة بهما وطارت كل منهما لمدة أطول من 24 ساعة، وفي العام نفسه كشف منتجا الطائرات بدون طيار الرئيسيين في البلاد "بيرقدار ماكينا" و"شركة الصناعات الفضائية التركية" عن خطط لصناعة طائرات بدون طيار عالية الارتفاع مرتفعة التحمل (HALE) باسم "أكينجي" و"أكسونغور" على الترتيب، ليضعا بذلك تركيا على مشارف حوز جيل جديد أكثر تطورا من الدرونز المسلحة.
تعتبر الطائرة "أكينجي" على وجه الخصوص خطوة طموحة للغاية في مشروع تركيا الضخم لإنتاج الطائرات بدون طيار، فمع محيط للطائرة من الجناح إلى الجناح يبلغ 20 مترا، وزمن تشغيل يتجاوز 24 ساعة وارتفاع يتجاوز 40 ألف قدم (حوالي 15 كيلومتر) وحمولة تتراوح بين 450 إلى 900 كجم وقدرة على حمل وإطلاق صواريخ كروز طويلة المدى والقنابل الموجهة بدقة، وتجهيزات أخرى متطورة تشمل رادار متطور ونظام خاص للحرب الإلكترونية وأنظمة اتصال فضائية، فإن "أكسينسي" لن تكون فقط أول طائرة بدون طيار مسلحة طويلة المدى في أسطول الدرونز التركي، ولكنها ستجعل طائرات "بيرقدار تي بي 2″ و"أنكا" تبدو بالمقارنة معها إلى مجرد ألعاب قاتلة.
في ضوء ذلك، لم يكن من المستغرب أن الحكومة التركية تولي أقصى درجات الاهتمام لجهود شركة "بيرقدار ماكينا" ومشروع "أكينجي" على وجه الخصوص، اهتمام ظهر في قرار الرئيس التركي في سبتمبر/ أيلول 2019 منح الشركة إعفاء من الضرائب على الصادرات وضريبة القيمة المضافة، ناهيك عن منحة تقدر بـ120 مليون دولار بهدف إنشاء مصنع جديد للدرونز، مع هدف واضح هو إنتاج 36 طائرة من طراز أكينجي خلال العامين القادمين.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف الضخم، تتعاون "بيرقدار ماكينا" مع شركة "Ukrspecexport" الأوكرانية لتزويدها بالمحركات التوربينية المتطورة التي لا تزال تركيا عاجزة عن إنتاجها محليا على أن تحصل كييف في النهاية على 12 وحدة من الطائرات المتطورة بعد اكتمال عملية الإنتاج، وفيما يبدو فإن المسؤولين في أنقرة يترقبون بشدة دخول الطائرة الجديدة إلى الخدمة والتي يتم تعريفها على أنها "مقاتلة أرض – جو بدون طيار" وليس طائرة بدون طيار تقليدية، فمع القدرات المتطورة للطائرة في حمل القنابل وتوجيهها بدقة وإطلاق الصواريخ بمدى يبلغ 600 كيلومتر، من المرجح أنها ستحل محل طائرات "إف – 16" في العمليات التركية ضد حزب العمال الكردستاني، ناهيك عن كونها ستوفر لأنقرة إمكانات مراقبة جوية منخفضة التكلفة والمخاطر على مدار الساعة في مناطق بحر إيجة وشرق المتوسط.
ومع هذه النجاحات الكبيرة، لا يمكن تجاهل الإشارة إلى أن هذا البرنامج التركي الضخم والطموح لإنتاج الطائرات بدون طيار لا يمكن النظر إليه بحال بمعزل عن جهود أنقرة الأوسع لتأسيس صناعة دفاع محلية يمكن الاعتماد عليها وطموحها لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الأسلحة، لذلك فإن مشروعات الصناعات الدفاعية التركية اليوم لا تقتصر على الطائرات بدون طيار وهي تشمل مجالات عدة تبدأ من المركبات والمدرعات البرية وتمر بالسفن البحرية ولا تنتهي عند المشاريع الفضائية الجوية، ففي مجال الصناعات البحرية على سبيل المثال أسست أنقرة عددا من المشروعات الضخمة وعلى رأسها "Istanbul Shipyard" و "Golcuk Naval Shipyard"، ونجحت في تأمين عقود تصدير بقيمة مليارات الدولارات مع باكستان وأندونسيا، وفي الوقت نفسه تقوم شركة "Sedef Shipbuilding" ببناء أول سفينة هجوم برمائية للبحرية التركية وهي الخطوة الأولى في مشروع طموح لإنشاء حاملة طائرات محلية، فيما تضطلع شركة الدفاع المرموقة "Otokar" بعدد من المشروعات الضخمة مثل تصنيع دبابة "ألتاي" التي اكتسبت سمعة جيدة في الأعوام الأخيرة، وتنشط شركة "أسيلسان" في مجال تصنيع الإلكترونيات الدفاعية وتقوم بتصدير منتجاتها إلى أكثر من 60 دولة حول العالم.
من خلال تنشيط صناعتها الدفاعية المحلية، تهدف أنقرة إلى تحقيق عدة أهداف في آن واحد، وكما تشير مؤسسة "ستراتفور" المرموقة للدراسات الاستخباراتية، فإن أول هذه الأهداف هو توفير الأموال وتحفيز النمو الاقتصادي للبلاد، فمع امتلاك تركيا لثاني أكبر قوة عسكرية في حلف الناتو، فإن البلاد تحتاج إلى استثمارات ضخمة في المعدات خاصة في ظل رغبتها في التخلص من المعدات القديمة التي تعود إلى زمان الحرب الباردة، وفي هذا السياق، فإن امتلاك صناعة دفاع محلية متطورة سوف يوفر من عبء الفواتير الباهظة للإنفاق على المعدات والأسلحة الأجنبية، ناهيك عن إسهامه في تنمية القطاع الصناعي المحلي واقتصاد البلاد ككل.
بجانب ذلك، تسعى تركيا أيضا لتعزيز اكتفائها الذاتي والتحرر من هيمنة موردي الأسلحة الغربيين وخاصة الولايات المتحدة وألمانيا اللتين رفضتا عشرات الطلبات من أنقرة للحصول على الأسلحة خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، وهو يجعل تقليل الاعتماد على الواردات الأجنبية هدفا حيويا لأنقرة، وأخيرا، ترغب أنقرة في استغلال صادراتها من الأسلحة كوسيلة لتعزيز حضورها في محيطها الجغرافي وتقديم نفسها كحليف يمكن الوثوق به للعديد من الشركاء ضمن خطتها الأوسع لاكتساب النفوذ.
على مستوى هذه الأهداف جميعا، يبدو أن خطة أنقرة تؤتي ثمارها، وإن كان ذلك وفق جدول زمني أبطأ مما كانت تطمح إليه سواء بسبب القيود الاقتصادية أو المنافسة الضخمة التي تلقها أنقرة كقوة متوسطة تسعى إلى اقتحام مجالس الكبار، ولكن في مجال الطائرات بدون طيار على وجه الخصوص يبدو أن أنقرة نجحت في إثبات حضور لا يمكن تجاهله، ويمكنها أن تفخر – ولن تكون مخطئة في ذلك – أنها كانت أحد القوى القليلة التي نجحت في كسر هيمنة الولايات المتحدة على السماء في زمان الدرونز القاتلة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!