ترك برس-الأناضول
السلطان محمد بن مرادش الثاني، أو محمد الفاتح كما عرف في التاريخ الإسلامي، لأنه القائد الذي حقق الله على يديه حلم فتح القسطنطينية، ذلك الحلم الذي داعب أجفان قادة المسلمين العظام من عهد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يسعى لنيل هذا الشرف.
فأتى ذلك البطل الفذ، ليتحقق على يديه الوعد النبوي بفتح هذه المدينة العريقة العتيدة، ومنذ نعومة أظافره كان يمني نفسه بأن يكون هو الرجل، فيجلس على شاطئ البحر، وعينه تمتد عبر صفحة المياه، إلى حيث القسطنطينية، وبجواره شيخه ينفث في عزمه، ويسرد على سمعه الحديث النبوي: ( لتفتحن القسطنطينية و لنعم الأمير أميرها و لنعم الجيش ذلك الجيش).
كل الناس يموتون، لكن العظماء تفيض أرواحهم، لتسري أقوالهم وأفعالهم في نهر التاريخ، تتناقلها الأجيال تلو الأجيال.
هذا البطل كان عظيما في الحياة وعظيما في الممات، عُمريُّ العزم، همته التي طاولت النجم بسموها، رافقته من المهد إلى اللحد.
جاءت اللحظات الأخيرة لهذا الفارس بعد حياة حافلة بالنزال والنضال، ليطلق على فراش الموت وصيته الأخيرة لولده، والتي تمثل ملامح منهجه في الحكم والقيادة، ويظهر فيه عظم انتمائه لدينه، وصفاته القيادية وحنكته وخبرته بما يصلح المُلك.
فدعونا نطالع تلك الوصية لهذا القائد العظيم، والتي ينبغي أن تكون نبراسا لكل حاكم مسلم:
ها أنا ذا أموت، ولكني غير آسف لأني تارك خلفاً مثلك. كن عادلاً صالحاً رحيماً، وابسط على الرعية حمايتك بدون تمييز، واعمل على نشر الدين الاسلامي، فإن هذا هو واجب الملوك على الأرض، قدم الاهتمام بأمر الدين على كل شيء، ولا تفتر في المواظبة عليه، ولا تستخدم الأشخاص الذين لا يهتمون بأمر الدين، ولا يجتنبون الكبائر وينغمسون في الفحش، وجانب البدع المفسدة، وباعد الذين يحرضونك عليها.
وسّع رقعة البلاد بالجهاد واحرس أموال بيت المال من أن تتبدد، إياك أن تمد يدك إلى مال أحد من رعيتك إلا بحق الاسلام، واضمن للمعوزين قوتهم، وابذل إكرامك للمستحقين.
وبما أن العلماء هم بمثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة، فعظم جانبهم وشجعهم، وإذا سمعت بأحد منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك وأكرمه بالمال.
حذار حذار لا يغرنك المال ولا الجند، وإياك أن تبعد أهل الشريعة عن بابك، وإياك أن تميل إلى أي عمل يخالف أحكام الشريعة، فإن الدين غايتنا، والهداية منهجنا وبذلك انتصرنا.
خذ مني هذه العبرة: حضرت هذه البلاد كنملة صغيرة، فأعطاني الله تعالى هذه النعم الجليلة، فالزم مسلكي، وأحذ حذوي، واعمل على تعزيز هذا الدين وتوقير أهله ولا تصرف أموال الدولة في ترف أو لهو، وأكثر من قدر اللزوم فإن ذلك من أعظم أسباب الهلاك)).
ففي وصية الفاتح تقديم الاهتمام بالدين على كل أمر، مؤكدا على أهمية الهوية الإسلامية، وهي الصبغة التي رفعها العثمانيون منذ تأسيس الدولة حتى يومنا هذا، بصرف النظر عن الفترات التي ضعفت فيها تلك الهوية.
وفي وصية الفاتح تقديم الحاكم بطانة صالحة وتنقية القصر من شوائب المغرضين، ولكن لن يعبأ بهذا إلا من صدق في عزمه وإخلاصه لدينه وبلاده، فيهتم بتطهير مؤسسات الدولة من أصحاب الأهواء والأجندات الخاصة، والذين يعبثون بمقدرات البلاد من خلال البلاط الملكي، ولعمر الله هي الخطوة الأولى لكل حاكم يبتغي الإصلاح وتصحيح المسار، أن يقدم الأكفاء من القوم، ويستبعد تلك الأشواك.
وفي وصية الفاتح تقديم العلماء وأهل الفضل، فهؤلاء هم الذين يشدون قوائم الملك، وما قدم ملك أو حاكم تلك الشريحة إلا وانعكس أثرها على شؤون البلاد بأسرها.
لذا كان قادة الإسلام العظام من ورائهم علماء ثقات يفرزون قراراتهم السياسية ويضبطونها وفق مبادئ الإسلام وتعاليمه.
عرف صلاح الدين الأيوبي بشيخه القاضي شداد، وعرف سيف الدين قطر بالشيخ العز بن عبد السلام، وعرف محمد الفاتح بالشيخ آق شمس الدين.
وفي وصية الفاتح الأمر بإقامة العدل بين الناس، فالعدل هو أساس الملك، ولذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ؛ ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة.
وليت الملوك والحكام يدركون أنهم لا يحكمون قطعانا، وأن الله قلدهم أمانة القيام بحق هذه الشعوب، فعليهم أن يقتربوا منها ويزيلوا الحواجز معها، ويعلموا أن شعوبهم هي التي تشد ظهورهم لا الارتماء في أحضان الشرق والغرب، لكن ذلك لن يتأتى إلا بوجود العدل، العدل وحده هو الذي يقرب بين الحاكم والمحكوم، بين الجماهير والأنظمة.
وفي وصية الفاتح الحث على صيانة أموال الدولة، فثرواتها وخيراتها ملك لأهلها، والحاكم هو الحارس الأمين عليها فحسب، لا يسوغ له منصبه نهبها وتجويع شعبها وإدخال الناس في دوامة الفقر والعوز الناتج عن غياب العدالة الاجتماعية.
كان لوفاة ذلك القائد العظيم أثر عظيم على العالم بأسره، ففي الغرب ابتهجوا وأقاموا الاحتفالات لموت محمد الفاتح.
في "رودس" كانوا يؤدون صلوات الشكر ما إن علموا بموت محمد الفاتح..
وفي روما شاعت البهجة وأمر البابا بفتح الكنائس وإقامة الصلوات والاحتفالات، وجعلت المواكب تجوب الشوارع مرددة أناشيد النصر، وأطلقت المدافع تعبيرا عن الفرح والسرور.
وأقامت أوروبا الأفراح والاحتفالات لمدة ثلاثة أيام بعد أن مات الفاتح الذي كانوا يرونه أعظم خطر عليهم.
وأما المسلمون، فكما ابتهجوا لفتح القسطنطينية، وكاتبوا السلطان يهنئونه بالفتح، وأرسلت الوفود للتعبير عن أمة الجسد الواحد التي لا تفصلها لغة ولا حدود، كان يوم مماته مأتما، حيث فقد المسلمون قائدا عظيما، فرثاه العلماء، وحزنت الأقطار الإسلامية لفقدانه.
وأثّر موته على جيشه، فقد كان رجاله قد وصلوا إلى جنوب إيطاليا لفتحها، فما إن وصلهم خبر موته، حتى اغتموا لذلك، لدرجة أن قائد الجيش اضطر للدخول في مفاوضات مع ملك نابولي لكي ينسحب جيشه آمنا بعد أن دب فيه الضعف والهم.
تلك هي الصفحة الأخيرة في كتاب ذلك البطل المجاهد، والذي لا يزال ماثلا أمام الأجيال على مر العصور، يتبدى من ذاكرة التاريخ كلما ذُكر المجد والعدل والنضال والتسامح.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!