ترك برس
بدأت السياسة الخارجية التركية، التي كانت تواجه عددًا متزايدًا من الأجندات والتحديات المختلفة في الفترة الأخيرة، تشهد حراكًا متزايدًا ومتعدد الأبعاد.
هذا الحراك يتجلى في كثافة الاتصالات الدبلوماسية التي عقدت خلال الفترة الماضية، والتي تكللت بمنتدى أنطاليا الدبلوماسي في الفترة ما بين 18-20 يونيو/ حزيران 2021.
وفي المنتدى الذي افتتحه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ألقى 11 رئيس دولة و41 وزير خارجية، إضافة إلى أكثر من 100 من كبار الدبلوماسيين والخبراء والأكاديميين كلمات حول أهمية الدبلوماسية وأنشطتها.
بينما ركز المنتدى على التغيرات والتحديات في النظام الدولي وكيفية الاستجابة لها، واتجاهات السياسة الخارجية التركية والدبلوماسية في المستقبل.
ويهدف منتدى أنطاليا إلى إنشاء هوية مؤسسية معترف بها دوليًا مثل قمة دافوس ومنتدى الدوحة ومؤتمر ميونخ للأمن، وبصفتي شخصًا متابعًا باهتمام شديد لتفاصيل الحدث، يمكنني القول إن المنتدى سيصل بسهولة إلى هدفه في غضون سنوات قليلة، بالنظر إلى الموضوعات التي نوقشت فيه، وخاصة النقاط التي طرحها وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، والقدرة التنظيمية والمهنية لوزارة الخارجية التركية، والمكانة العالية للمتحدثين، والاجتماعات الدبلوماسية الثنائية ومتعددة الأطراف رفيعة المستوى التي جرى تنظيمها في ظل المنتدى.
بالإضافة إلى ذلك، اكتسب المنتدى أهمية خاصة من خلال مشاركة الدول التي لها صلة مباشرة بالأجندة الرئيسية للعلاقات الدولية على مستوى رئيس الدولة أو وزير الخارجية.
وبحسب تعبير الوزير تشاووش أوغلو، فقد حضر المنتدى "خُمس وزراء خارجية العالم"، وقد مكن هذا الوضع وكالات الأنباء المحلية والأجنبية من إبداء اهتمام كبير بالمنتدى، وعلى مدى أيامه الثلاثة.
وبالإضافة إلى الضيوف من الخارج والدبلوماسيين المقيمين في أنقرة، أتاحت دعوة عدد كبير من الأكاديميين وخاصة من أقسام العلاقات الدولية في الجامعات التركية لحضور المنتدى، فرصة مهمة للجمع بين النظرية والتطبيق.
ووفّر المنتدى الأجواء والإمكانات المناسبة لعقد العديد من اللقاءات الدبلوماسية الثنائية والمتعددة الأطراف بين رؤساء الدول ووزراء الخارجية المشاركين في المنتدى، خاصة مع نظرائهم الأتراك.
- عصر جديد ومقاربات مبتكرة
تم تنظيم منتدى أنطاليا بمحتوى موضوعي يناقش متطلبات العصر الجديد ومقارباته تحت عنوان "الدبلوماسية المبتكرة"، وهو عنوان يشير إلى المحتوى الرئيسي الذي يجمع عليه تقريبًا كل من حضر المنتدى.
باختصار، فإن الفكرة تدور حول دخول العلاقات الدولية في عملية ديناميكية جديدة، في ظل تزايد التحديات، والتحولات الجارية في النظام العالمي، وتزايد الاهتمام بالأساليب الجديدة التي ينبغي مناقشتها واستخدامها في العمل الدبلوماسي جنبًا إلى جنب مع الدبلوماسية الكلاسيكية.
لهذا السبب، تمت مناقشة الموضوعات المطروحة في المنتدى من خلال منظور واسع قدر الإمكان، وبعبارة أخرى، لم يتم وضع حدود جغرافية أو وظيفية للموضوعات التي تم تناولها؛ على العكس من ذلك، اضطلع المنتدى بمحاولة إجراء النقاشات في إطار الموضوعات التي من شأنها أن تشمل القضايا والتحديات الراهنة.
وعلى سبيل المثال، تناول المنتدى طيفًا واسعًا من المواضيع الراهنة لعل أبرزها، المقاربات الجديدة لحل المشاكل العالمية، وسبل زيادة التضامن للتغلب على المشاكل الإقليمية وضمان الاستقرار، ومكافحة التطرف والتمييز، ومشكلة التلوث المعلوماتي والأخبار المزيفة، ومساهمة النساء والشباب في إقامة السلام، والمقاربات الإنسانية تجاه المهاجرين، والتحولات على صعيد قضايا الإرهاب.
من ناحية أخرى، تناول المنتدى مواضيع تتعلق بعدة أقاليم عالمية، حيث عقدت جلسات خاصة لمناطق محددة مثل العلاقات عبر الأطلسي وإفريقيا وشرق المتوسط والشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا وجنوب شرق أوروبا.
في كل جلسة، سواء على المستوى الموضوعي أو الإقليمي، تبادل المتحدثون خبراتهم الشخصية ووجهات نظرهم، ومقارباتهم المختلفة حول سبل الحل، كما قام المشاركون بتسجيل ملاحظاتهم المتعلقة بالمقاربات المبتكرة، لاسيما وأن الغالبية العظمى من الآراء اتفقت على أهمية الدبلوماسية، ودورها في إيجاد الحلول للأزمات الراهنة.
- السياسة الخارجية التركية في المرحلة الجديدة
في الوقت الذي يشهد فيه النظام الدولي تحولات جذرية، تسعى السياسة الخارجية التركية إلى التكييف مع روح العصر الجديد.
في هذا الإطار، رسم الرئيس التركي في خطابه الافتتاحي لمنتدى أنطاليا، الصيغة العامة والمنظور الاستراتيجي للسياسة الخارجية التركية في الفترة الجديدة.
وعند النظر في خطاب الرئيس أردوغان بعناية، يمكن القول إن الرسائل المتعلقة بالسياسة الخارجية التركية في الفترة الجديدة يمكن تقديمها في ثلاثة أبعاد مترابطة تضع تركيا في مركز الأحداث، أولها هو المبادئ الدولية، والثاني هو البعد العملي للسياسة الخارجية التركية، والثالث حول المشاكل الراهنة.
وخلال كلمته الافتتاحية في المنتدى، أشار أردوغان إلى أن المجال الدبلوماسي آخذ بالاتساع يومًا بعد يوم، وأن هذه القضية توفر فرصًا لتقليل التوترات، كما أكد أن الدبلوماسية لا تزال الطريقة الأكثر فاعلية لإيجاد حلول للمشاكل والأزمات الراهنة.
ومن الواضح أن الانتقادات التي وجهتها تركيا سابقًا إلى منظومة الأمم المتحدة، ستستمر في الفترة المقبلة، ذلك لأن المؤسسات التي يُبنى عليها النظام العالمي لا تستجيب للمشاكل الحالية ويجب إصلاحها، يمكن تلخيص هذه المشكلة بشعار "العالم أكبر من خمسة".
وحول جائحة كورونا، قال أردوغان إن مجلس الأمن الدولي لم يتمكن من وضع أكبر أزمة صحية في التاريخ على جدول أعماله إلا بعد 100 يوم من تفشيها.
وأضاف أن أولئك الذين يستفيدون من نظام الأمم المتحدة الحالي، سيقاومون مطالب الإصلاح، إلا أن الدول المطالبة بتلك الإصلاحات، ستكثف نشاطها الدبلوماسي خلال الفترة المقبلة، من أجل تحويل مجلس الأمن الدولي إلى هيكل تنظيمي أكثر شمولاً.
وفيما يتعلق بالبعد العملي للسياسة الخارجية التركية، أكد أردوغان أن العامل الرئيسي في تحديد العناوين الرئيسية على أجندة منتدى أنطاليا الدبلوماسي هو فهم تركيا "للسياسة الخارجية والمشاريع الإنسانية"، فضلًا عن أن هذا الفهم سيشكل المبادئ الأساسية ذات التأثير على السياسة الخارجية التركية في الفترة الجديدة.
ولفت أردوغان في كلمته الافتتاحية، إلى ضرورة أن تعمل الدبلوماسية التركية وفق رؤية تشمل قارات العالم القديم الثلاث (آسيا وأوروبا وأفريقيا)، نظرًا للموقع الجغرافي الاستراتيجي الذي تمتلكه تركيا بين هذه القارات.
وأشار الرئيس التركي إلى أن بلاده تمتلك حاليًا خامس أكبر شبكة دبلوماسية في العالم، مكونة من 252 ممثلية دبلوماسية خارج البلاد.
إضافة إلى ما سبق، تناول المنتدى قضايا تتعلق بالمناطق القريبة من تركيا، مثل الأزمة السورية، وقضية قبرص، وشرق المتوسط، ومكافحة الإرهاب.
وعلاوة على ذلك، تطرق المنتدى إلى موضوعات راهنة مثل كراهية الأجانب، والعنصرية الثقافية، والهجرة غير النظامية، والإسلاموفوبيا، وقضايا أخرى مثل القدس وليبيا وأفريقيا.
عندما نجري تقييمًا للقضايا التي تناولها منتدى أنطاليا الدبلوماسي جنبًا إلى جنب مع خطاب أردوغان، يظهر لنا أن السياسة الخارجية التركية مدركة لأبعاد وأهمية النشاط الدبلوماسي والتحديات الجديدة، وضرورة تنويع الأساليب الدبلوماسية وأدوات السياسة الخارجية في الفترة الجديدة، ومعالجة مختلف القضايا من منظور واسع دون أي قيود جغرافية أو وظيفية.
وانطلاقًا من هذا الفهم، سيكون بإمكان تركيا، من خلال استخدام خبراتها الدبلوماسية المتراكمة، مواكبة روح العصر والإيقاع المتسارع للأنشطة الدبلوماسية.
وبالنظر إلى الهدف والتوقيت والمحتوى والمشاركين في منتدى أنطاليا، نستطيع القول إن السياسة الخارجية التركية تستعد للتكيف مع هذا الوضع، كما أنها لن تواجه صعوبة كبيرة في التكيف مع متطلبات المرحلة الجديدة.
تحليل نشرته وكالة الأناضول بقلم الأستاذ الدكتور فرحات برنججي عضو هيئة التدريس في جامعة بورصة أولوداغ، قسم العلاقات الدولية وباحث في مركز "سيتا" التركي للأبحاث والدراسات.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!