د. محمد وجيه جمعة - خاص ترك برس
كانت منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى قابلة للتشكيل والتلوين سياسياً واقليمياً على هوى المنتصرين الذين تقمصوا دور ولي الأمر الشرعي تحت مسمى الإنتداب... والحقيقة أننا أمام منتصر جبار و غنائم و " سبايا " ...و فعلاً استطاع سايكس و بيكو أن يقطعونا إلى مناطق جغرافية حملت أسماء أخذت لاحقاً مسمى الدولة واكتسبت المعايير الشرعية لتصبح عضواً في نادي الدول ، في البداية تحت مسمى عصبة الأمم ولاحقاً الأمم المتحدة.
هذا الوضع الجيوسياسي كان عبارة عن عملية انتقال تبدأ بإزالة مفهوم الأمة و واجهته السياسية الخلافة لتضعنا على طريق نهايته الضياع والتلاشي.
المكر الإنكليزي جاء بالكيان الصهيوني و زرعه في قلب الأمة العربية والإسلامية ، وكذلك جاء بجامعة الدول العربية ليرسّخ حقيقة انفصال الدول المحيطة باسرائيل عن بعضها و عبارة "دول الطوق" كانت مجرد خدعة امتدت فصولها حتى شهدنا سقوط الأقنعة وشاهدنا ما يسمى التطبيع مع اسرائيل .
الخبث الانكليزي حصّن الكيان الصهيوني بأنظمة ديكتاتورية قامعة لشعوبها ...الوجود الاسرائيلي يتوافق مع استمرار الاستبداد ويتعارض مع الديمقراطيات والحريات و لهذا استماتت بعض الأطراف للقضاء على الربيع العربي وقبلت على نفسها أن تكون جزءً من الثورة المضادة التي تلوثت أياديها بالكم الهائل من الجريمة والدماء والدمار والتهجير .
ولدت الدولة السورية بعملية قيصرية على يد الفرنسيين الذين رسموا الحدود بأقلامهم و مسطرتهم وبنات أفكارهم متجاهلين بالمطلق إرادة كل الطيف المجتمعي المشارك في إعمار هذه الأرض...هذه الخطوط جاءت لتعبث بالبنية المجتمعية المبنية على قواعد متينة من القيم الدينية والاجتماعية العريقة والمتجذرة منذ مئات السنين .
هذه المسلمات تقودنا الى حقيقة أن الجغرافية السورية ولدت أولاً وبعدها تشكل الشعب السوري من المكونات الإثنية والدينية والمذهبية التي احتوتها الحدود التي رسمها لنا مستعمرينا و تحت مسمى الإنتداب و أكرر أنهم أصبحوا ولاة أمورنا ...
هذا خلافاً عن بعض الشعوب ذات اللون الإثني الغالب والتي أوجدت لها أرضاً أقامت عليها دولتها وهنا حملت هذه الدولة المسمى الإثني لهذا الشعب ، وهكذا نشأت الدولة القومية...أو كما يحلو للبعض أن يسميها الدولة الوطنية الحديثة وطبعاً جميعها تعتمد القوانين الغربية .
الهوية الوطنية السورية ولدت مع الثورة السورية المباركة ، التي أخرجت الإنسان السوري من وضعية "الرعايا" الى فضاء المطالبة بكامل حقوق المواطنة الكريمة .
الإنتداب أي الاستعمار لايصنع هوية وطنية ...هو يصنع تابع مطيع لسيده ...الفرنسيون حاولوا الدخول إلى العمق الفكري والوجداني للإنسان السوري ...حاولوا إلغاء كل الاتجاهات والإبقاء على جهة الغرب كقدر مستقبلي محتوم للسوريين...كل المحاولات ذهبت و المستعمر ذهب .
الإستبداد لا يصنع هوية وطنية بل يضع الفواصل والحواجز بين جميع مستلزمات صناعة الهوية الوطنية ( المناهج المدرسية ، الخدمات الاجتماعية ، معادلة الحقوق والواجبات ، و القانون ) تم تشويه الجميع وكل شيء جملةً وتفصيلاً ... فلا هوية ولا انتماء .
التجارب القاسية والمؤلمة التي عاشتها كل مكونات الشعب السوري أزالت الثقة بين السلطة وما سواها من مفردات الحوكمة فكل شيء مسخّر لخدمة الإستبداد ....كل مقدرات الوطن هي مجرد سلعة بين يدي المستبدين ، وإن لزم الأمر التشويه والتضليل والظلم والقهر والجريمة كله مباح ، على أن تستمر السلطة وعرش السلطة ورأس السلطة .
في ظلال الثورة أقحمنا متسرعين المطالبة بالحقوق الجزئية ، و جعلنا من ضمان الوصول المبكر الى هذه الحقوق ترساً تموضعنا خلفه ، وهكذا وضعنا العربة أمام الحصان لتبدأ الطامة الكبرى والتشظي الثوري شكلاً و مضموناً ...و بذلك اختلطت علينا أولوياتنا بالخلاص من العصابة الأسدية .
غياب المشروع المتكامل الذي يبشر بوطن ، و عدم وجود النموذج الذي يطمئن الغالبية ويزيل أسباب القلق لدى المكونات أدخلنا في هذا التيه المظلم الذي يصعب علينا الخروج منه .
نحن في مكاننا هذا لأننا سلكنا سبيل التناقضات والخلافات والتنافس فيما بيننا على الجزئيات ، وتخلينا عن ما يجمعنا و هي ثوابت الثورة من حرية وكرامة وعدالة ومواطنة وسيادة قانون .
الثورة السورية العظيمة بدماء شهدائها حطمت جدار الخوف الأسدي و بعذابات معتقليها دكت حصون الإستبداد و بثبات أبطالها تطارد مفاهيم الظلم والعبودية ...و فتحت كل الأبواب ولكل الطيف السوري ولكل التجارب الانسانية ...بغية صناعة وطن للحرية والكرامة يتربع على عرشه الإنسان الذي أكرمه رب العالمين .
ما نراه اليوم من حراك متجدد يبشر بولادة فجر ثوري جديد .
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس